من قصار سور القرآن سورة العصر، وآياتها ثلاث، وهي على قصرها جمعت من العلوم ما جمعت، فقد روي عن الشافعي أنه قال: لو لم ينزل غير هذه السورة لكفت الناس؛ لأَنَّهَا شملت جميع علوم القرآن، وأَخرج الطبراني في الأوسط عن أبي حذيفة -وكانت له صحبة- قال: كان الرجلان من أَصحاب رسول الله – ﷺ- إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأَ أحدهما على الآخر سورة العصر، ثم يسلم أَحدهما على الآخر[1]. ولعل ما حمل هؤلاء الصحابة على هذا العمل فقه السورة حيث إن الخلاص من رزية الخسارة التي تلحق الناس في آخر الزمان الموعظة الحسنة بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
﴿وَالْعَصْرِ﴾ [العصر: 1] أي: الدهر. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما-وغيره. فالعصر مثل: الدهر. واختلفت أقوال المفسرين في بيان سبب مجيء القسم بالعصر في هذه السورة:
القول الأول – أقسم الله به لما فيه من العبر، والعجائب للناظر، وقد ورد في الحديث القدسي: «لا تسبّوا الدهر، فإن الله هو الدهر».
وأيضا قوله تعالى في الحديث القدسيّ: «يسبّ ابن آدم الدّهر، وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار».
وذلك لأنهم كانوا يضيفون النوائب، والنوازل إلى الدهر، فأقسم الله به تنبيها على شرفه، وأن الله هو المؤثر فيه، فما حصل من النوائب، والنوازل، كان بقضاء الله وقدره.
القول الثاني – أن تقدير القسم: ورب العصر، وقد ذكرت مثل ذلك في أول سورة (الذاريات) و (المرسلات) وغيرهما.
القول الثالث- أراد بالعصر الليل والنهار؛ لأنهما يقال لهما: العصران. قال حميد بن ثور الهلالي:
ولن يلبث العصران يوم وليلة… إذا طلبا أن يدركا ما تيمّما
فنبه الله عز وجل على شرف الليل، والنهار؛ لأنهما خزانتان لأعمال العباد.
القول الرابع – أراد بالعصر: آخر طرفي النهار، ويقال: العصران على التغليب للغداة، والعشي. قال الشاعر:
وأمطله العصرين حتّى يملّني… ويرضى بنصف الدّين والأنف راغم
يقول: إذا جاءني أول النهار؛ وعدته آخره.
القول الخامس: أراد صلاة العصر، أقسم بها لشرفها، ولأنها الصلاة الوسطى في قول بدليل قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [238]: {حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى}. وفي الصحيحين: قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم في غزوة الخندق: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر». وعن ابن عمر-رضي الله عنهما-عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الذي تفوته صلاة العصر، فكأنما وتر أهله، وماله». رواه الستة ومالك.
ومنهم من يرى أن المراد بالعصر هنا: عصر النبوة. لأفضليته بالنسبة لما سبقه من عصور.
وقوله ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: 2] أَي: إن كل إِنسان لفي نوع من الخسران لغلبة الأهواءِ والشهوات والرغبات والمطامع عليهم في أَعمالهم ومساعيهم، وصرف أَعمارهم في مطالبهم التي لا ينتفعون بها في الآخرة، بل ربما تَضُرُّ بهم، وتكون سبب شقائهم وعذابهم، و (أَل) في الإِنسان لشمول جميع الجنس بدليل الاستثناء الذي جاءَ بعدها: (إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ، والتنكير في (خُسْرٍ) قيل: للتعظيم، أي: في خسر عظيم، ويجوز أن يكون للتنويع، أي: نوع من الخسران غير ما يعرفه الإِنسان.
ثم استثنى من جنس الإنسان عن الخسران ما يأتي:
﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)﴾ [العصر: 3] أي إن الإنسان لفي خسارة وضياع ونقصان وهلاك إلا الذين جمعوا بين الإيمان بالله والعمل الصالح، فإنهم في ربح، لا في خسر؛ لأنهم عملوا للآخرة، ولم تشغلهم أعمال الدنيا عنها، فآمنوا بقلوبهم، وعملوا بجوارحهم (أعضائهم).
وإلا الذين وصى بعضهم بعضا بالأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره: وهو الإيمان بالله والتوحيد، والقيام بما شرعه الله، واجتناب ما نهى عنه. والحق خلاف الباطل، ويشمل جميع الخيرات وما يلزم فعله، أو هو أداء الطاعات، وترك المحرمات. قال الزمخشري: وهو الخير كله، من توحيد الله وطاعته واتباع كتبه ورسله، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة.
وإلا الذين أوصى بعضهم بعضا بالصبر على فرائض الله، وعن معاصي الله، وعلى أقداره وبلاياه. والصبر يشمل احتمال الطاعات، واجتناب المنكرات، وتحمل المصائب والأقدار، وأذي الذي يأمرونه بالمعروف، وينهونه عن المنكر.
ومن فقه الحياة التي تستفاد من السورة على ما يأتي:
1 – الإنسان وإن ربح الثورة الكبيرة والمال الوفير، فهو في خسارة محققة، إن لم يعمل للآخرة عملا طيبا صحيحا.
2 – أقسم الله تعالى على هذا الحكم بأي عصر أو زمان، لما فيه من التنبيه بتصرف الأحوال وتبدلها، وما فيها من الدلالة على الصانع ووحدانيته وكمال قدرته ومزيد حكمته التي تظهر أحيانا بعد مرور الزمان.
والعصر في الحلف بالأيمان مختلف في تقديره عند الفقهاء، فقال مالك: من حلف ألا يكلم رجلا عصرا، يحمل على السنة؛ لأنه أكثر ما قيل فيه، وذلك على أصله في تغليظ المعنى في الأيمان.
وقال الشافعي: يبر بساعة، إلا أن تكون له نية، أو يفسره بما يحتمله، وذلك حملا على الأقل المتيقن المراد بالعصر.
3 – حكم الله تعالى بالوعيد الشديد؛ لأنه حكم بالخسارة على جميع الناس إلا من كان آتيا بأشياء أربعة أو متصفا بصفات أربع، وهي: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور، وعناصر الإيمان ستة:
أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. والعمل الصالح: أداء الفرائض واجتناب المعاصي، وفعل الخير.
والتواصي بالحق: أن يوصي بعضهم بعضا بالأمر الثابت، ويحث بعضهم بعضا على توحيد الله، والعمل بالقرآن، والدعوة إلى الدين والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يحب المرء لغيره ما يحب لنفسه. قال عمر رضي الله عنه: رحم الله من أهدى إلي عيوبي.
والتواصي بالصبر: أن يوصي الناس بعضهم بعضا على طاعة الله عز وجل، والصبر عن معاصيه، والرضا بالقضاء والقدر في المصائب والمحن.
4 – قال الإمام الرازي رحمه الله: دلت الآية على أن الحق ثقيل، وأن المحن تلازمه، فلذلك قرن به التواصي.
[1] قال في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح. وقال في الصحيحة: إسناده صحيح.
محمد سيد طنطاوي، التفسير الوسيط للقرآن الكريم.
مجموعة من العلماء بإشراف مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، التفسير الوسيط للقرآن الكريم.
وهبة الزحيلي، التفسير المنير (30/ 395).