لا تخلو الحياة من أزمات.. لكل إنسان أزمته.. ولكل مرحلة عمرية أزمتها.. وأيضًا لكل مجتمع أزمته..!
و”الأزمة” مفهوم يمكن أن نعتبره مرادفًا أو متفرعًا من مفهوم “التحدي” عند أرنولد توينبي في رؤيته للفعل الحضاري؛ الذي ينشأ من قدرة شعب ما على “الاستجابة” لـ”التحديات” التي تواجهه..
ولكل أزمة سؤالها، أو أسئلتها التي تتناسب معها تناسبًا طرديًّا.. فإذا كبرت الأزمة واتسعت مساحة تأثيرها، كانت الأسئلة التي تستدعيها على هذا المستوى من الحجم والتأثير..
ولهذا مثلاً، فإن أزمة كبرى مثل هزيمة 1967، لم تكن مجرد أزمة على المستوى العسكري، ولم تتوقف تداعياتها عند دولة عربية واحدة.. وإنما جاءت لتمثل هزيمة حضارية متجاوزة المستوى العسكري، وتردد صداها في العالم العربي بأسره!
وبالتالي، فإن الأسئلة التي أثارتها هذه الهزيمة جاءت مكافئة لهذا التأثير.. حتى عبَّر كثير من الباحثين والمفكرين، عن أن بدايات مراجعاتهم الفكرية كانت من تلك الهزيمة؛ التي رأوا أنها لم تكن هزيمة للسلاح العربي وحده، وإنما للعقل العربي بالأساس، ولاختياراته الفكرية والأيديولوجية حينئذ.. ويكفي أن نشير في هذا الصدد لشهادتي د. عبد العزيز حمودة، ود. عبد الوهاب المسيري، رحمهما الله، أو لشهادة المستشار طارق البشري، التي سبق أن تناولناها في مقال سابق بعنوان: “بين البشري وعمارة: شهادة فكرية على القرن العشرين”.
من أسئلة كورونا
وأزمة كبرى مثل تلك التي يحياها عالمنا، جراء وباء “كورونا”، لا شك أن لها أسئلتها الكبرى التي تتناسب معها طولاً وعمقًا..
سواء فيما يتصل بالأسئلة الوجودية الكبرى، حول معنى الحياة، وغائيتها.. وصولاً إلى فكرة الإيمان وضرورته وأثره..
أو فيما يتصل بالعلم وفلسفته، وقدرته على تحقيق “الفردوس الأرضي” للإنسان!
أو في معنى المرض والابتلاء، وكيفية التعامل معهما.. ومواجهة حالة انكشاف الضعف الإنساني أمامهما..
أو فيما يتصل بدور الدولة ومسئوليتها في تحقيق الاحتياجات الأساسية للمواطن.. بل وفي تحقيق موعوداتها التي تتخطى ذلك إلى عالم الرفاه..
أو فيما يخص مفهوم التضامن العالمي، وصدقية دعوات حقوق الإنسان، كل الإنسان.. وجدوى المنظمات العالمية، وقدرتها على توفير الحد الأدنى من التضامن لاسيما عند الأزمات والكوارث.
الاختلاف تجاه الأسئلة
ومن الملاحظ أن الناس يختلفون اختلافًا كبيرًا تجاه الأزمات، وما تطرحه من أسئلة..
فمنهم من تمر عليه الأزمة مرورًا عابرًا، لا يحاول أن يستكنه معانيها، ولا أن يتتبع الأسئلة الكامنة بداخلها؛ وإنما ينشغل بلحظتها الضاغطة، ويهتم بتأثيراتها الحالَّة، ولا يمد البصر أبعد من خطواته المعدودة أو يومه المشهود..
ومنهم من ينشغل بالأسئلة، لكن ليس في آفاقها البعيدة، وإنما في مستوى محدود يرتبط بالرؤية القاصرة التي لا ترى خارج إدراكات الإنساني المحدودة.. مثل أصحاب النظرة المادية، منكري عوالم الإيمان والغيب؛ فيقفون عند حدود الأرحام التي تدفع، والأرض التي تبلع.. ولا غير ذلك!
ومنهم من يرى الأزمات في إطارها الكلي، ويتعامل مع أسئلتها البعيدة، ويراهما جزءًا من قدر الله النافذ الممتلئ حكمةً ومقاصدَ.. فيشغل نفسَه بالبحث في ذلك، ولا يتعامى عن الرسائل المتضمَّنة فيهما، ويجتهد في مدافعة القَدَر بقدر مثله..
وقد عاب القرآن الكريم على أناس يتجاهلون تدبر الأزمات، ويتغافلون عن رسائلها، فقال: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126).
وبيَّن سبحانه ما يجب أن يكون عليه الإنسان عند حلول البلاء، وحدوث الأزمات، فقال: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} (الأنعام: 43). وقال: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} (الإسراء: 59).
لماذا الاختلاف؟!
واختلاف الناس حيال الأزمات، وبالتالي حيال أسئلتها وعِبَرها، ناشئ من اختلافهم في الرؤية الكلية للإنسان والحياة، والموقف من الإيمان والإقرار بوجود الله سبحانه.
فصاحب الإيمان لن تكون رؤيته مثل من يَجحد الخالق، ويُقصِر نظره على المخلوقات.. ولا مثل من يرى الإيمان موقفًا نفسيًّا شخصيًّا لا تأثير له في دنيا الناس وحركة الحياة.
ومَن ينشغل بالمستقبل البعيد، ويمد البصر خارج حدود الزمان والمكان المشهودَين، ستختلف رؤيته وموقفه وتعامله عمن ينحصر في يومه الحاضر ولا يرى أبعد منه..
ومن يعتقد بحقوق الإنسان، مطلق الإنسان، سيكون مختلفًا تمامًا عن أصحاب الاتجاهات العنصرية، الذي يتصرفون طبقًا لنظريات بالية تتصل بزعم تفوق الرجل الأبيض، حتى لو لم يعلنوا ذلك صراحة..!
في الإجابات
أمام هذا الاختلاف، بل والتضاد، في الموقف من الأزمات الكبرى وما تستدعيه من أسئلة كبرى.. لا بد أن ينشغل المسلمون بتقديم إجابات كبرى، وبلغة ومضمون متناسبين مع حدود الأزمة واتساعها وعمقها.. وإلا فستكون البشرية أمام فصل جديد من التيه الحضاري، والأزمات الخانقة.. وسيجد أتباع الانحلال والإلحاد فرصتهم السانحة في ذلك.
إن الإنسان الذي تضطرب نفسُه في أزمة كبرى- مثل التي نحياها- ماذا يفعل لو لم يجد ما يهدِّئ رَوعه، ويقنع عقله، وينتشله من وهدة اليأس والقنوط؟!
لقد كان في مقابل المفكرين والباحثين الذي أرَّقتهم هزيمة يونيو ٦٧، ورست سفنُهم عند شاطئ “المراجعات”.. أناس آخرين واصلوا إيغالهم في تلمُّس الحلول والأدوية في أفكار وافدة أخرى غير تلك التي شاعت قبل الهزيمة.. وكأن الحل لا بد أن يكون خارجيًّا.. فلم يهتدوا سبيلاً، ولم يجدوا طريقًا..!! بل واتهم بعضُهم أصحابَ المراجعات بالتقلبات الفكرية وتغيير المواقف بنوع من المنفعية والانتهازية، وليس عن رويّة واقتناع!
نعود فنقول: إذا كان الإسلام دينًا عالميًّا، ورسالةً خاتمة، فإن الخطاب الذي يقدَّم باسمه ينبغي أن يكون على هذا المستوى من العموم والختام، من ناحية.. وعلى مستوى تلك الأزمات العالمية العميقة، من ناحية أخرى.
هذا هو التحدي التي تتضمنه أزمة “كورونا” وغيرها من الأزمات، التي لن تكف عن إدخال البشرية في دواماتها، مرة تلو أخرى، ما دامت سفينة البشرية لم تتجه الاتجاه الصحيح، ولم تسلك الطريق الواجب..