لا تنفك جملة أعمال الانسان وآراؤه التي يصل إليها باجتهاده وتفَكُّرِه عن قصور أو خلل أو خطأ؛ ولو سعى إلى الكمال والصواب جُهدَه، لِما بيَّنه الله من حال الانسان في أصل خِلقته من كونه ظلوماً جهولاً.
ومن أجَلِّ ما يسعى المرء إلى تحصيله= معرفة الحقِّ كما هو، وتربية نفسه على التجردّ عن كل ما يحول بينه وبين الحق وقبوله من هوى أو رغبة أو منفعة أو شعور، فإذا حاز ذلك المعنى فقد وصل إلى رتبة العلم والعدل وتخلّص من صفة الظلم والجهل.
ولابد لمن رام التغيير والتصحيح والإصلاح من التنبيه على مواضع الخطأ والقصور؛ لتجلية الحق لطالبه، وإبطال الباطل وتجاوزه، من خلال الإنكار والانتقاد والاستدراك والنصيحة.
وتاريخ العلوم مليٌ بكتب الردود والاستدراك بين العلماء، بل إنّ بعض فروع العلوم الشرعية العميقة كـ (علم العلل) من علوم السنّة النبوية على سبيل المثال مبنيةٌ على تتبّع الأخطاء والقصور والخلل في رواية الرُواةِ ونقدها.
وكذلك فرضُ الشريعة إنكارَ المنكر وتغييره، وإصلاح الخطأ والتنبيه عليه، وإظهار الحق وعدم كتمانه؛ داخل في هذا الباب، وهذا هو النقد الذي نبحث عنه وفيه، وذلك أنّ التعاميَ والتغافل عن الأخطاء وبحثِها= يراكم الأخطاء ويُعقِّد عملية التصحيح، وكثير من الأخطاء التي نقع فيها يمكن إصلاحها إذا تجاوزنا الحساسية المفرطة من النقد الذي قد يكون مؤلماً أحياناً.
وليس الكلام هنا عن أهمية النقد، وآدابه وفضائله، والأسلوب الذي ينبغي أن يتحلّى به الناقد الناصح المصلح، وعلى كيفية التعامل مع من وقع فيما ينتقدُ عليه على الرغم من أهميته ذلك كلّه وضرورته والحاجة إليه؛ وإنّما مقصود الكلام التنبيه على كيفية التعامل معه، وما يجب على من توجّه إليه النقد من القبول له، والتنبيه على ضرورة عدم الخلط بين ما يشترط في النقد وبين ما يكمّله؛ حتى لا يُجعل ما يتخلّفُ في النقد من صور الكمال ذريعةً لردّه بحجّة فقدانه لشرط النقد.
ولو بحثنا عن أسباب عدم القبول للنقد عند الناس لوجدناها متعدّدة يصعب حصرها، ومنها على سبيل المثال: النظر إلى كثرة حسنات المنتقَد أو سابقته بالخير، وخصوصاً إذا قارن ذلك جهالة المنتقِد أو حداثة سنّه أو عدم اشتهاره بشيء من الحسنات، أو النظر إلى تكالب الأعداء على المنتقَد في وقت ما، أو احتجاجه بوجود من هو أكثر منه خطأ وجهلاً، أو وجود من يوظف النقد الصحيح توظيفا خاطئاً أو مغرضاً، ولربما احتجّ بحسن نيّته وصحة قصده، أو بوجود خطأ في بعض النقد.
– ومن أشهر تلك الأسباب الحدّة في النقد والسخرية المقارنة له، ولنتوقف عند هذا السبب قليلاً؛ فقد تكون تلك الحدّة لها أسبابها أيضا ومنها -إضافة إلى ما يرجع إلى الطبيعة الشخصية للمنتقِد أحياناً – إعراضُ من توجه إليه النقد عن مضمون النقد وعدم قبوله مع صحته، وتكرار الخطأ مع وضوحه، والانشغال في تقييم صاحبه وأسلوبه عن مضمونه؛ هذا مع الإقرار بوجود من يصطاد في الماء العكر ومن يتطلّب بنقده التشغيب أو التعيير والتشهير، ولاشك أنّ هذا الصنيع منكر وبغي ومع ذلك فينبغي لطلاب الحق والكمال ألاّ يردوا الحق بسبب سوء قصد صاحبه.
– ومنها الخلط بين التخطئة وعدم الإعذار؛ فثمة من الأخطاء ما يعذر معه صاحبه ومنها ما لا يعذر معه، فإذا حصلت تخطئة لعالم ما مع ظهور اجتهاده ومحاولته إصابة الحقّ؛ ظنّ بعضهم أنّ يعني الطعن في ديانته والانتقاص علمه؛ بل ربما ظنّ بعضهم أنّ في هذا تأثيماً وعدم إعذار للعالم المنتقَد فيرد ذلك النقد لما ظنّه من ذلك التلازم.
– ومنها الخلط بين مقام تبيين الصواب والخطأ بصورته التامّة وبين مقام بيان الممكن الذي لا يتيسر غيره في ظلّ حيثيات معينة، فإذا كان البيان للصواب بصورته التامّة لم يلزم منه تخطئة من فعل ما يمكنه من الصواب.
وثمة أسباب أخرى متعدّدة، وكل ما تقدّم من هذه الأسباب لا يصح الاحتجاج بها على ردّ الحق وعدم قبوله، وكون بعض النقد قد يكون خاطئاً؛ فإن هذا لا يعني ردَّ ما صحّ من النقد.
والنقد منه ما يكون من محب وقد يكون من مبغض، ومن ذلك ما جاء في الحديث الصحيح من حديث أبي هريرة رضى الله تعالى عنه وفيه “فقال النبي ﷺ صدقك وهو كذوب ذاك شيطان”([1]) فالحق مقبول ولو جاء به الشيطان فكيف بمن دونه.
كذلك ما جاء في الحديث الآخر “أن يهوديا أتى النبي ﷺ فقال: إنكم تندون وإنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت وتقولون والكعبة فأمرهم النبي ﷺ إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة ويقولون ما شاء الله ثم شئت”([2]) فلم يرد قول (اليهودي) في استدراكه ونقده.
وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال: أتاه رجل، فقال له: يا أبا عبد الرحمن علمني كلمات جوامع نوافع قال: “اعبد الله ولا تشرك به شيئا، وزل مع القرآن حيث زال، ومن جاءك بالحق فاقبل منه، وإن كان بعيدا قصيا، ومن جاءك بالباطل فاردده، وإن كان قريبا حبيبا”([3]).
ومن العبارات الجميلة في هذا الباب ما جاء عن إبراهيم النخعي قال: قال عيسى ابن مريم عليه السلام: “خذوا الحق من أهل الباطل، ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق، كونوا منتقدين لكيما لا يجوز عليكم الزيوف”([4])، ويقول ابن تيميّة: “فما وافقه[=أي وافق الكتاب والسنة] فهو الحق وإن كان ذلك القائل فاسقاً زنديقاً، وما خالفه فهو الباطل وإن كان ذلك القائل صالحاً بل صديقاً، كما كان معاذ بن جبل يقول في وصيته” اقبل الحقّ من كل من جاء به وإن كان كافراً واحذروا زيغة الحكيم” فقالوا: كيف نعرف انّ الكافر يقول الحقّ وأنّ الحكيم يزيغ؟ فقال: “إنّ على الحقّ نوراً”([5]). يريد: أنّ الحقّ معه من البرهان ما يتبين أنّه حقُّ، فهذا مقبول من كلّ قائل”([6]).
وليس من شرط النقد أن يكون بصيغة معينة بالغة التأدّب من خرج عنها رُدّ قوله وإن كان قد قال حقا؛ بل التأدب وحسن الاسلوب في النقد إضافي مكملٌ، ومن هذا ما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه قال:” أتى النبي ﷺ رجل يتقاضاه فأغلظ له فهم به أصحابه فقال دعوه فإن لصاحب الحق مقالا“([7]).
وليس من شرطه أن يكون مستوعباً لكل أخطاء الناس جميعاً حتى يُقبل كقول بعضهم: (أين أنت عن هذا) ويقصد محلاً آخر من النزاع لا تلازم بينه وبين تلك النقطة التي يدور حولها الخلاف، فليس من لازم النقد في مسألة ما.. أن ينتقد غيرها من المسائل، وهذه الصورة ظاهرة؛ إلا أنّ بعض الناس قد يستعملها في بيان عذره من عدم قبول النقد المتوجه إليه؛ تذرعاً بالشكّ في نزاهة الناقد ونصيحته، بحجّة أنه لم ينقد تلك الصورة ونقد هذه الصورة فهذا دليل على عدم النزاهة؛ ومن ثم يحق لي رفض ذلك النقد.
وليس من شرطه أن يقدم بديلاً، أو حلّا للمشكلة التي ينتقدها.
وليس من شرطه أن يذكر كل خير في المنقود قبل نقده.
وليس من شرطه خلو صاحبه من الخطأ والقصور وفي ذلك يقول بلال بن أبي بردة “لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا أن تقبلوا أحسن ما تسمعون منا”([8]) ويقول الخليل بن أحمد:
اعمل بعلمي وإن قصرت في عملي … ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري([9])
وينبغي ألا يفهم منه أنه إلغاء لحسنات المنتقَد في حال ذكر السيئات فقط، ولا يلزم أنه إزراء على المنتقّد أو انتقاص منه، ولا إنكار ما فعله من صواب؛ ولربما كان الربط بين النقد وهذا الحكم شعور يشعر به المنتقَد أو من يوافقه أو يحبه، وقد يكون راجعا إلى سياق النقد وباعثِه إلا أنه في النهاية ليس لازما للنقد؛ وبل حتى وإنّ كان القائل مغرضاً فهذا لا يعني بالضرورة أن يكون قوله باطلا وهكذا.
وليس من شرطه أن يكون الناقد أفضل من المنقود؛ بل يكفي فيه أن يكون عالما بما يتكلم به، وليس جاهلا مغرورا.
فإن قلت قد عرفنا ما ليس من شروط النقد فما هو شرط النقد؛ فالجواب بصيغة ملخّصة/ شرط النقد المقبول =أن يكون صوابا فقط، فإذا تحقق صحة النقد وصوابه وجب قبوله دون أي شرط إضافي آخر، وكثير مما يُظنّ أنّه من شرط النقد إذا محصّته وجدته من تمام النقد وكماله، وبعضها ليس شرطاً ولا كمالاً؛ بل هو تحّكم وحقيقته بطر الحقّ.
وشرطه في حال المقارنة والموازنة المتعدّدة الاعتبارات التي تقتضي حكماً شاملاً= أن يكون منصفا.
وإنما أضيف الإنصاف هنا؛ لأن فيه قدراً زائداً عن بيان الصحيح من السقيم ألا وهو المفاضلة والموازنة بين شيئين، وما يترتب عليه من تقديم وتأخير؛ فلابد لكي يوجد فيه شرط النقد الذي يقتضي القبول أن يستعمل الإنصاف فيه؛ لأنّ بيان الصواب من الخطأ في موضع ما.. لا تنتهي معه المقارنة، فلابدّ من جمع ما كان صواباً وخطأً عند كل فريق ثم الموازنة بين مقدار ما أصاب فيه كل طرف في العدد ونوع المسألة؛ فقد يخطئ في مسائل صغيرة ويصيب في مسألة كبيرة، وقد يصيب في مسائل صغيرة ويخطئ في مسألة كبيرة، فالمقارنة الصحيحة في مثل هذا النوع من المقارنات تكون بالنظر إلى عدد المسائل التي أصاب فيها، وأنواعها، ثم بالنظر إلى عدد المسائل التي أخطأ فيها، وأنواعها، فلا يكفي في الموازنة والمقارنة ان يذكر ما أصاب به طرف ويتغافل عمّا أخطأ فيه وهو يقارنه مع غيره، إلا إذا كانت الموازنة بين الشيئين باعتبار واحد وليس من اعتبارات متعدّدة ولا يقصد فيه حكماً مستوفياً في المقارنة بين المختلِفَين، وهكذا..
والعاقل من يتعامل مع النقد على أنه نصيحة وتنبيه ينظر إليه في مسعاه، وينتفع به في الوصول إلى مطلوبه، ولا يعوقه عن عمله الصحيح، واختلاط بعض صور النقد بطريقة الشانئين والمغرضين ليس من لازمها أن تردّ جملةً؛ لأنها لم تحسن الطريقة والأسلوب.
وإذا كان يعسر تطبيق هذا من أفراد الناس، فلا أقلّ من أن يطبّق على مستوى الاتجاهات والتيارات والمدارس والمنظومات التي ينبغي ألا تخلو من ذوي البصائر والألباب والحكمة الذين يتسامون عن الجراح ولا يستغرق بهم شعور الخذلان والإخفاق وتكالب الأعداء عليهم عن الوقوف مع الحق حيثما كان، وهذه المنزلة من أعلى منازل الترقي في درجات الكمال التي هم جديرون بها.
ولا أقلّ من تقبل النقد النابع من داخل الصف والمنظومة والتحلّي بلياقة نفسية عالية في التصحيح لا تضعف عن قبول النقد ما دام صحيحاً صواباً، وليس كون النقد من الداخل شرطاً للقبول بل هو أقل مراتب التجرّد والإنصاف وأضعف الإيمان، وليس وراء ذلك إلا مقام الضعف والجهل وشائبة الهواء.
وأختم بتذكير ونصيحة للقارئ الكريم بألّا يحمله هذا التمييز بين شرط والنقد وكماله على التخفّف من العناية بأسلوب النقد وحسن عرضه واللطف فيه وتحرّي جانب اللين والشفقة والرحمة بالمخطئ إعانةً له على معرفة الحقّ وقبوله؛ فتلك وصية الله لأكرم خلقه قال تعالى: ﴿وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ ﴾ [آل عمران: 159]وقوله لموسى وهارون في دعوتهم لفرعون: ﴿فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلٗا لَّيِّنٗا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ﴾ [طه: 44].
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله صحبه وسلم.
* أمين بن أحمد البدر
([1]) صحيح البخاري كتاب بدء الخلق، ح(3101).
([2]) سنن النسائي كتاب الأيمان والنذور، ح(3773).
([3]) مسند ابن الجعد، ح(2234)، والطبراني في المعجم الكير (9/102) ح(8537).
([4]) أمالي ابن بشران عبد الملك بن محمد البغدادي (المتوفى: 430هـ)، ضبط نصه: أبو عبد الرحمن عادل بن يوسف العزازي، الناشر: دار الوطن، الرياض، الطبعة: الأولى، 1418 هـ – 1997 م (ص86) برقم(171).
عدد الأجزاء: 1جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر القرطبي، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، الناشر: دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1414 هـ – 1994 م (1/523) برقم(860).
([5]) أمالي ابن بشران عبد الملك بن محمد البغدادي (المتوفى: 430هـ)، ضبط نصه: أبو عبد الرحمن عادل بن يوسف العزازي، الناشر: دار الوطن، الرياض، الطبعة: الأولى، 1418 هـ – 1997 م (ص86) برقم(171).
عدد الأجزاء: 1جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر القرطبي، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، الناشر: دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1414 هـ – 1994 م (1/523) برقم(860).
([6]) جامع المسائل، لابن تيمّيّة، المجموعة السابعة، (ص465).
([7]) صحيح البخاري كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، ح(2271).
([8]) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر القرطبي، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، الناشر: دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1414 هـ – 1994 م (1/523) برقم(860).