ليس شيء في حياتنا أهم من أبنائنا، نوجه إليه اهتمامنا ونبذل له ما نستطيع من رعاية ومعونة؛ فهم مشاريعنا للمستقبل، وهديتنا للمجتمع، وعدتنا لما نؤمِّله من الغد. وليس شيء في أبنائنا أهم من نفوسهم وعقولهم، نعتني به غاية الاعتناء، ونلاحظه أشد الملاحظة، منذ نعومة أظفارهم وحتى يكتمل نضجهم أو يقترب. ” في بيتنا مكتبة ” وسيلة كبرى من الوسائل التي نسلكها في سبيل تحقيق ذلك.
المكتبة ركن أساس
البيت يتكون من مفردات كثيرة، من الأثاث والفراش والمطبخ، وغير ذلك من ضرورات الحياة وكمالياتها ورفاهياتها.. وهي جميعًا تتعاون على توفير راحة الإنسان، وتيسير حياته، وجعلها أكثر طمأنينة.
لا شك في هذا، ولا مشكلة.. فليس مطلوبًا من الإنسان أن يُعرض عن نعم الله تعالى، ولا أن يحرِّم على نفسه ما أحلَّ الله من الطيبات. لكن ثمة ما لا يقل عن هذه الأشياء أهميًة وضرورة في حياة الأسرة؛ ألا وهو مكتبة البيت.
فإذا كانت الأشياء المادية تتصل ببدن الإنسان، وتهدف لتحقيق راحته ورفاهيته.. فإن المكتبة تتصل بنفسه وعقله، بجوهره وحقيقته، بسرِّ تميزه وفاعليته، وتسعى للارتقاء به على مستوى الشعور والفكر.. وهي من حيث هذا الاتصال، وهذه الوظيفة، تستمد أهمتيها وضرورتها.
فليست المكتبة ترفًا في البيت، ولا شيئًا يمكن الاستغناء عنه وتعويضه بجهاز تلفزيون أو غيره من أدوات الترفية والتسلية، أو حتى التثقيف والمعرفة.. المكتبة ركن أساس من أركان البيت، وعمود من أعمدته..
المكتبة ليست قالبًا ماديًّا
وأهم ما ينبغي تصحيحه عن “المكتبة” هو ما يتصل بطبيعتها وحقيقتها؛ ذلك أن البعض يظن أن المكتبة هي بناء مادي يزيّن البيت ويمتلئ بالكتب ويحتوي عددًا ضخمًا منها يشي بثقافة أهل البيت وثرائهم المعرفي!
والأمر ليس كذلك؛ فلسنا نعني بالمكتبة هذه الصورة وحدها، بل هذه الصورة ليست هي المقصودة من الأساس؛ لأنها صورة تتصل بما تعارف عليه الناس من مظاهر “الرياء الاجتماعي”- بحسب مصطلح الشيخ الغزالي، رحمه الله- وهي في ذلك تستوي مع المفاخرة بنوع السيارة أو ماركة الملابس أو شكل الهاتف!!
نحن نريد من “المكتبة” حقيقتها، وثمرتها في إكساب المعرفة وإنارة العقل.. نريد من “المكتبة” الكتب والأوراق والأدوات، لا بناءها المادي ولا شكلها البرّاق.. نريد الوظيفة لا الأداة، والثمرة لا الشكل!!
فبيتٌ فيه بضعة كتب ومجلات قد التهمها الأبناء، واستوعبوا ما فيها، وتفاعلوا معه.. خير من مكتبة صماء، تشبه لعب الأطفال، وإن حوت مئات الكتب!
نقول هذا حتى نلفت النظر لحقيقة ما نقصده، وحتى نيسِّر على الآباء معنى وجود المكتبة في البيت، ووظيفتها، وثمرتها.. وأنه ليس بالضرورة تخصيص مكان بالبيت يزاحم الأشياء الأخرى، ويثقل كاهل الأسرة وميزانيتها.. المهم الكتب لا المكتبة.
في بيتنا مكتبة والمحتوى المتنوع
والمحتوى المتنوع هو من مواصفات المكتبة الناجحة الفاعلة في تكوين النفس والعقل.. فلا تقتصر على لون واحد من ألوان المعرفة، ولا تخاطب مستوى معينًا من مستويات المراحل العمرية.. وإنما تشمل ألوانًا متعددة بما:
- يحقق تكامل المعرفة، ويبني الثقافة المتكاملة، والرؤى المتوازنة.
- يخاطب الأبناء في مختلف مستويات أعمارهم.
نريد مكتبة في علوم الشرع من الفقه والتفسير والحديث والسيرة.. مع علوم اللغة من الأدب والقصص.. مع المعارف المتنوعة.
نقصد بـ “المكتبة” الكتب والأوراق والأدوات، لا البناء المادي والشكل البرّاق
ونريد تكوين مكتبة تخاطب الطفل.. والمراهق.. والشاب اليافع.. كما نريد مكتبة تضم الكتب مع أدوات الرسم وتشكيل الألعاب والمسابقات وغير ذلك مما يقطع السأم والملل، وينمّي لدى الطفل مهارات الإبداع، ويشبع لديه حاجة الإمتاع والتسلية..
المكتبة وميزانية الأسرة
البعض قد يتعلل بعدم وجود مكتبة البيت- أو بالأدق: بعدم وجود كتب، كما أوضحنا-بضغوطات الحياة المادية المتزايدة، والتي تثقل الميزانية وتكبّلها يومًا بعد آخر.. وهذه حجة ليست كافية رغم حقيقتها!!
إذا تعامل الآباء مع المكتبة باعتبارها ضرورة من ضرورات الحياة، فلن يكون ثمة إشكال! مع ملاحظة أن الكتب لا تتجدد الحاجة لشرائها بشكل يومي أو حتى أسبوعي، بل ربما يمضي الشهر ولا يشتري الأب كتبًا تثقل الميزانية.. يكفي أن تكون هناك خطة سنوية لشراء الكتب المهمة والمتنوعة، خاصة في مناسبة مثل معرض الكتاب، أو عند دخول موسم الإجازة والصيف، أو غير ذلك من المناسبات.. أي أن الكتب، حتى مع اعتبارها ضرورة من ضرورات الحياة، فليست هي بالمفردة التي تثقل الميزانية مثل باقي مفردات الحياة!
المكتبة ركن أساس من أركان البيت وليست ترفًا
إن الأمر يتعلق في الحقيقة بوجود وعي كافٍ بأهمية الكتب، وليس بالقدرة على شرائها..!! وأعرف كثيرًا من الأسر يعتبرون مثلاً “المصيف” شيئًا أساسًا في حياتهم، ويحشدون له من الميزانية قبل الموعد بشهور، ويتجهزون له غاية التجهيز.. مع أن تكلفة بضعة كتب خلال العام، لا تعني شيئًا بالمقارنة مع تكلفة المصيف.. ولكنه الوعي والاهتمام!!
المكتبة ومسئولية الكتّاب
الحديث عن مكتبة البيت يدفعنا أيضًا لتنبيه الكتّاب والمؤلفين إلى مسئوليتهم في توفير مادة علمية متنوعة وجذابة لمختلف مراحل نمو الأبناء.. لاسيما في الكتب الإسلامية.. بحيث نحبِّب الطفل في القراءة، ونيسِّر له الفهم، وندفعه للتعلق بالكتاب والاستزادة من المعرفة..
نريد مكتبة تضم الكتب مع أدوات الرسم وتشكيل الألعاب والمسابقات
والكتاب الإسلامي قد قطع شوطًا في السنوات الأخيرة نحو هذا المسار، في مخاطبة الطفل والاهتمام بالفتاة، وتيسير المعرفة لهما.. ومطلوبٌ أكثر في هذا الصدد، خاصة بعد انتشار “المحتوى المرئي” بما يتوافر له من جاذبية وتشويق.
ومن المهم هنا، أن نشيد بتجارب كثيرة في عالمنا العربي تتجه لمخاطبة الطفل، وتعمل على إشباع حاجاته المعرفية والترفيهية، وترتقي به.. مثل مجلات: “براعم الإيمان”.. “العربي الصغير”.. “ماجد”.. “قطر الندى”.. “علاء الدين”.. وغيرها..
وباختصار: أن يكون في بيتنا مكتبة.. متنوعة جذابة ممتعة.. فهذا حق أبنائنا ونحن نسعى لتربيتهم بالمفهوم المتكامل للتربية، جسمًا وروحًا وعقلاً..