قال تعالى : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } يوسف:111
لماذا ندرس التاريخ؟ سؤال ربما سمعت به أو قرأته عشرات المرات.
ومن المؤكد أنك توقفت مرات ومرات عند هذا السؤال، ووجدت إجابات عديدة متنوعة، وربما أيضاً لاحظت أن كل أحد يجيب بالعقلية التي يدير بها حياته، أو برؤية معينة ينظر من خلالها إلى الحياة بشكل عام. ولأن كل أحد منا له نظرته الخاصة، وله فكره الخاص أو ثقافته التي قامت حياته عليها، تتنوع الإجابات على السؤال أعلاه، لكن حين يكون المرجع الأهم في محاولات الإجابة على السؤال هو القرآن الكريم ، فلابد أن الإجابة تكون هي المعتمدة والرئيسية.
القرآن الكريم قد يعتقد قارئه غير المسلم، أنه كتاب تاريخي يسرد قصص الأولين، باعتبار كثرة القصص وتنوع أساليب سردها في مواضع من القرآن كثيرة، لكنه بالطبع ليس كتاباً للقصص التاريخية، إلا أن القصة لها مكانتها في القرآن، وأهدافها تتضح لقارئها كلما تدبرها وتأملها بين الحين والحين.
حين يذكر القرآن الهدف الأبرز من سرد القصص في قوله تعالى (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) أي أصحاب العقول الراجحة المفكرة والمتأملة، فذلك لأن قصص الأولين في القرآن ليست للتسلية والاستمتاع كما حال القصص والروايات الدنيوية، بل هي تاريخ مضى يستحضره القرآن للتأمل والتدبر، وأخذ الدروس والعبر. فما الفائدة مثلاً من قراءة قصة عاد وثمود مع أنبيائهم ومعجزاتهم، والمشاهد الرهيبة التي وقعت لهم، إن لم نتدبر من خلال تلك القصص، أسباب رفضهم لدعوات أنبيائهم والتي استحقوا على إثرها نهاياتهم الأليمة؟
القرآن يذكر تلك القصص بأشكال متنوعة، كي يحث من يقرؤه على التدبر والتأمل، والاستفادة من دروسها الكثيرة كي تدفعه لأن يستخلص القوانين أو السنن الإلهية في البشر والحياة بشكل عام.. إذ عبر تلك القصص، عرفنا كيف الأمم والحضارات السابقة عاشت وانتهت، وكيف أن التاريخ يعيد نفسه مرات ومرات عبر العصور والحقب، إلى درجة أن يقع الحدث الآن كما لو أنه الذي كان قبل مئات أو آلاف السنين، لكن بشخوص أو أناس مختلفين.
يقع الحدث لأنه جرى وفق سنن أو قوانين معينة، سواء عبر اتباعها أو رفضها؛ يقع حدث النصر مثلاً أو قيام حضارة بشرية جديدة بسبب اتباع قواعد وسنن تحقيق الانتصار، أو قيام حضارة على أنقاض أخرى على وشك أن تزول وتختفي. وبالمثل تقع الهزيمة أو زوال حضارة بشرية ما، بسبب مخالفة قواعد وسنن الله في خلقه وأرضه (وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ).
أمثلة من التاريخ
حين ندرس مثلاً قصة سقوط بغداد أو الإمبراطورية العباسية على يد وحوش المغول، أو إمبراطورية الهدم، فلأن المنهزم سلك مسلك الهزيمة والفناء، وتوفرت وتكاملت عنده عبر الزمن أسباب وعوامل الانهزام والسقوط. وبالمثل نقول إن المنتصر، ما انتصر إلا لأنه اتبع قوانين وسنن النصر وكسب الآخرين.
التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى فقال اليهود للمسلمين: نحن خير منكم، ديننا قبل دينكم وكتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم، ونحن على دين إبراهيم. ولن يدخل الجنة إلا من كان هوداً. وقالت النصارى مثل ذلك. فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم، ونبينا بعد نبيكم، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم. فنحن خير منكم. نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا. فأنزل الله (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَآ أَمَانِىِّ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوٓءًا يُجْزَ بِهِۦ).
أنزل الله القول الفصل في هذا الأمر، وبين لنا نحن المسلمين أنه ليس فضل الدين وشرفه، ولا نجاة أهله به أن يقول القائل منهم، إن ديني أفضل وأكمل. بل عليه أن يعمل بما يهديه إليه، فإن الجزاء إنما يكون على العمل، لا على التمني والغرور. فليس أمر نجاتكم ولا أمر نجاة أهل الكتاب منوطاً بالأماني في الدين، فالأديان لم تُشرع للتفاخر والتباهي، ولا تحصل فائدتها بالانتساب إليها دون العمل بها، كما جاء في تفسير المراغي. وللإمام ابن تيمية قول مأثور يوضح لك هذا الأمر على مستوى أعم وأكبر من العمل الفردي، وهو أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة.
سنن الله في عباده وأرضه
هذه الحياة الدنيا تسير وفق قوانين وسنن إلهية، لا تفرق بين شخص وآخر وفق عقيدته أو شكله أو عرقه؛ المعيار ها هنا هو العمل الصالح والصحيح. فالصالح يُقصد به كل عمل يعود بالنفع على عامله والآخرين، والصحيح يُقصد به ما كان وفق قوانين وسنن الله في عباده وأرضه.
عودة للمثال الذي بدأنا الحديث عنه وهو سقوط بغداد على أيدي المغول، نقول بأن أسباب السقوط والهزيمة توفرت وساهمت في سقوط الخلافة العباسية، وأبرزها الفساد والترف، ثم الظلم وغياب العدالة، وهي كلها تناقض قوانين وسنن الله في عباده وأرضه. وقد تكرر الأمر مرة أخرى وتوفرت أسباب الزوال عند دولة السلاجقة العظيمة، التي لم تدرس زوال الإمبراطورية العباسية بشكل مستفيض، فانهارت وتفككت حتى قامت على إثرها الإمبراطورية العثمانية، التي كانت قد بدأت تسلك مسالك العدل ومنع الظلم ومناصرة المظلومين، ولم تكن تعيش أجواء الترف والفساد كسابقتها من الدول والإمبراطوريات الإسلامية، فحكمت مساحات شاسعة وملايين البشر، واستمرت أكثر من ستة قرون، حتى بدأت في مخالفة سنن وقوانين الله في أرضه وعباده، فحدث لها ما حدث.
خلاصة الحديث
التاريخ ندرسه لتجنب تكرار ما حدث للأولين، أو هكذا هو الأصل في التعامل مع أحداثه، والتي هي أشبه بقوانين الكيمياء والفيزياء والرياضيات. فلا يمكن مثلاً، أن يتكون الماء إلا باتحاد ذرتي هيدروجين مع ذرة واحدة من الأكسجين، وأي تلاعب في الكميات أو مخالفة تلك المعادلة الكيميائية، فلن يظهر لك ماء، بل لا تنتظره أبداً. وبالمثل مع التاريخ. فكلما احترمت قوانين وسنن الله في أرضه وعباده، كان الله معك، وحققت ما تروم إليه، والعكس صحيح دون أدنى ريب.
التاريخ ندرسه ونستقرئ أحداثه لأجل فهم أفضل للواقع أو الحاضر، ولأجل استشراف أوضح وأدق للمستقبل. حين ندرس أسباب وعوامل زوال الإمبراطوريات المختلفة، الإسلامية وغيرها، فلأجل أن نسقطها على واقعنا اليوم أولاً، فنعالج ما يمكن معالجته قبل أن يتكرر ويعيد التاريخ نفسه. ولأجل أن نمنع ثانياً، ظهور مسببات الهزيمة والسقوط والزوال، ونعمل على صناعة أسباب النهوض والنصر. وهذا هو بكل اختصار، المنهج المعتدل في التعامل مع أحداث التاريخ دون مزيد تفصيلات وكثير شروحات.