لا يستغني المرء عن غيره من بني الإنسان، ولا مفر له من الاختلاط بالآخرين، والعيش معهم، وتبادل المنافع.. فالإنسان مدني بطبعه، يألف ويُؤْلف، يأنس ويُؤْنس به، ويَخدم ويُخدم؛ والأمر كما قال أبو العلا المعري:

الناسُ للناس من بَدوٍ وحاضرةٍ

بعضٌ لبعض وإن لم يُشعروا خَدَمُ

غير أن المرء يحتاج إلى ضبط هذا الاختلاط والتبادل، وتنظيمه، وإلى وضع قواعد للتحكم ومنع الاشتباك.. ولهذا جاءت الحاجة للقوانين والتشريعات، بهدف تيسير طرق معيشة الناس بعضهم مع بعض، وضمان استيفاء الحقوق والواجبات بعضهم من البعض.. ثم تطورت القوانين والتشريعات وازدادت مع تعقُّد الحياة واتساعها.

فالقوانين والتشريعات ما هي إلا أداة للضبط- وقايةً وعقابًا- فيما يتصل بتصرفات الناس بين بعضهم البعض.. مثلما هي وظيفة “الكمامة” في منع انتشار الفيروس من المرضى إلى الأصحاء.

لقد لفتت أزمة “كورونا” أنظارنا إلى أهمية “الكمامة” على الوجه (الفم والأنف)، لمنع أو تقليل إمكانية انتشار الفيروس بين الناس.

وإذا عمَّمنا هذا المعنى المهم، لوجدنا أن ثمة ما يحتاج إلى “كمامة” غير الوجه؛ أعني العقول والجوارح، أو الفكر والفعل؛ فالإنسان لا يمكن له أن يُطْلق هذه المنافذ في التفكير والعمل بلا قيود ولا ضوابط.. تمامًا مثلما يفعل على الصعيد الطبي في ضبط منافذ الاتصال والتواصل؛ من التنفس واللمس والتصافح واستخدام الأدوات.

في العقول والتفكير

لقد أمرنا الإسلام بإعمال العقل، وفتح أمامه نوافذ المشاهدة والتأمل والاستنباط: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (العنكبوت: 20).. ونعى القرآن على من يعطّلون حواسهم، ويركنون إلى التقليد، ويسلّمون بالموروثات دون تمحيص ولا سَعْي إلى إدراك الحق والصواب: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170).. وحكى لنا القرآن حسرة الكافرين يوم القيامة على تعطيلهم ما وهبهم الله من أدوات للنظر والتفكير: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الملك: 10).

فالعقل هو أثمن أداة وههبها االله تعالى للإنسان؛ إذ به يتميز الإنسان عن غيره من الكائنات، ويستعد لممارسة وظيفته في الحياة، ويكون أهلاً للتكليفات التي شرعها الله لعباده.. فالعقل مناط التكليف، وأداة العلم، وتفعيلُه شرط الحضارة والعمران، وإعماله علامة على النضج والرشد..

لكن هذا العقل لا ينبغي له أن يكون مطلق العنان؛ فهذا الإطلاق مخالف لمعنى العقل ذاته، ومخالف للحدود التي وضعها الإسلام للمحافظة عليه من الشرود أو التعطيل..

• فأما مخالفته لمعنى العقل، فلأن العقل سُمِّي عَقْلًا لأَنه يَعْقِل صاحبَه عَنِ التَّوَرُّط فِي المَهالِك أَي يَحْبِسه([1]). والعقل: مأخوذ من عقال البعير، يمنع ذوي العقول من العدول عن سواء السبيل([2]). فالْعَيْنُ وَالْقَافُ وَاللَّامُ أَصْلٌ وَاحِدٌ مُنْقَاسٌ مُطَّرِدٌ، يَدُلُّ عُظْمُهُ عَلَى حُبْسَةٍ فِي الشَّيْءِ أَوْ مَا يُقَارِبُ الْحُبْسَةَ. مِنْ ذَلِكَ الْعَقْل، وَهُوَ الْحَابِسُ عَنْ ذَمِيمِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الْعَقْلُ: نَقِيضُ الْجَهْلِ. يُقَالُ عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلًا، إِذَا عَرَفَ مَا كَانَ يَجْهَلُهُ قَبْلُ، أَوِ انْزَجَرَ عَمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ([3]).

إذن، معنى العقل يحمل معنى التقييد والمنع.. والقول بأن العقل مطلق العنان، قولٌ يتنافى مع معناه من حيث اللغة، كما رأينا.

• وأما تنافي هذا القول مع ما جعل الله العقل له؛ فإن الإسلام إذ يقرر قيمة العقل، ويدعو لإعماله، وينعى على معطِّليه؛ فإنه يحدد له أطرًا ومجالات لا ينبغي تعديها، وإلا دخل فيما لا يملك أداة لإدراكه، وزلَّ عن الفهم والعلم.. ولهذا، جاء النهي عن التفكر في ذاته الله([4])؛ إذ هو سبحانه لايشبه مخلوقاته ولا تشبهه مخلوقاته: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: 11). كما أن التفكر في عوالم الغيب لا طائل منه، إلا بمقدار ما ندركه من حيث العموم والإجمال؛ كالروح والملائكة والجنة وأحوال القبر والدار الآخرة.. فالتفكر حينئذٍ ينبغي أن ينصرف إلى آثار تلك الأمور على حركة الإنسان.. أما حقائقها، فعلمها عند الله سبحانه؛ لأنها خارجة عن حدود إدراك الإنسان.

وهنا، من المهم التنبه إلى أن القول بوجود حدود لإدراك العقل ولمجال عمله، لا يعني الانتقاص من قيمته وقدره، كما قد يفهم البعض.. والأمر، فحسب، لا يعدو اعترافًا بطبيعة العقل، ومحافظةً عليه، وعدمَ تحميله أكثر من طاقته أو ما لا يتفق مع طبيعته.. وهذا أمر مقرَّر ومشاهَد حتى في عالم الحس؛ فليس بمقدور الإنسان أن يرى أبعد من مسافة معينة، تطول وتقصر بحسب استعداد كل امرئ من ناحية البصر قوةً وضعفًا.. وكذا لا يمكنه أن يسمع من الأصوات إلا في نطاق معين.. ولا أن يحمل أثقالاً إلا بمقدارٍ يناسب صحته.. وهكذا.

وما أحرانا بالتزام ذلك، لاسيما عن التعامل مع الأوامر والنواهي، وعند الاجتهاد.. فنعرف لكلٍّ من العقل أو النقل مساحته وحدوده، ولا نتجاوز بالعقل إلى ما لا يدخل تحت سلطانه.

في الجوارح والأفعال

وأما الجوارح والأفعال، فالأمر فيها- أي التزام ضوابط يكون عملها مثل “الكمامة” في الوقاية والمنع- أيسر، وأغنى عن التوضيح؛ فالإنسان مسئول عما وهبه الله من جوارح، وما أتاح له من حرية وإرادة وقدرة؛ ولا ينبغي له أن يصرف هذه الهبة إلى التعدي على حرمات الله أو حرمات عباده: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)} (الإسراء).

و”حديث السفينة” المعروف، بالغ الدلالة فيما ينبغي أن تكون عليه علاقة المرء بمجتمعه، وعلاقة المجتمع بأفراده.. فالفرد يعرف حقوقه وحدوده، ما له وما عليه، دون تجاوز؛ والمجتمع يترك الحرية لأفراده من غير أن يسمح لهم بتعدٍّ أو مخالفة، وإلا أخذ على أيديهم بسيف القانون: “فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرادُوا هَلكُوا جَمِيعًا، وإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِم نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعًا”([5]).

أما من يبغونها عوجًا، ويريدونها فوضى، بدعاوى زائفة تستتر بالحرية، وتتدثر ببريقها؛ فهؤلاء قد انعدمت عندهم المسئولية الاجتماعية، بعد أن انفلت سلوكهم الفردي من كل وازع..!

لكن المعادلة بسيطة وواضحة؛ فحتى إن رضي أحدهم أن يتجاوز في حق نفسه، فليس للمجتمع أن يسمح له بأن يعود بالضرر على الآخرين.. وهنا، لا بد أن تتكامل وسائل التوجيه والتربية والإرشاد، مع أدوات القانون والضبط؛ فإن المجتمع بحاجة للبيان أولاً، وللنصح ثانيًا، وللرفق ثالثًا، ثم يكون العقاب لمن أصر على المخالفة. وتلك سياسة الإسلام في التوجيه؛ فهو لا يتشوّف للعقوبة، ولا يبحث عن العورات والسقطات.

ما أشد حاجتنا إذن إلى ترشيد عقولنا وأفعالنا وضبطها، دون تعطيل أو انفلات.. مثلما نفعل في أمورنا الصحية؛ التي أعادت تشكيلها أزمةُ “كورونا”؛ فأصبحنا أكثر حذرًا وأقل مخالطة من ذي قبل، ولا تفارق “الكمامة” وجوهنا رغم ما تسببه من بعض الضيق؛ لكن للضرورة أحكامها، وللصحة اعتبارها..!


([1]) لسان العرب، ابن منظور، 11/ 459.

 

([2]) التعريفات، الجرجاني، ص: 152.

 

([3]) مقاييس اللغة، ابن فارس، 4/ 69.

 

([4]) قال نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ: “حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِجَمِيعِ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ، وَيَتْرُكَ التَّفَكُّرَ فِي الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَيَتْبَعَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ»: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، اللالكائي، 3/ 582.

 

([5]) عن النُّعْمانِ بنِ بَشيرٍ رضي اللَّه عنهما، عن النبيِّ قَالَ: “مَثَلُ القَائِمِ في حُدودِ اللَّه، والْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سفينةٍ، فصارَ بعضُهم أعلاهَا، وبعضُهم أسفلَها، وكانَ الذينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا في نَصيبِنا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرادُوا هَلكُوا جَمِيعًا، وإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِم نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعًا” (رواهُ البخاري).