أتمت بحمد الله وفضله دائرة الإعمار في الأوقاف الاسلامية التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية، في نهاية ديسمبر 2012م ترميم قبة السلسلة المحاذية لقبة الصخرة المشرفة، وذلك بعد ثلاث سنوات من العمل المتواصل من قبل مهندسي وفنيي المسجد الأقصى.
تاريخ القبة، ومن الذي عمرّها؟
تُجمع المصادر على أن الذي أمر ببناء هذه القبة العظيمة، هو الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، واختلف في الحكمة من بنائها، ويرجح أنها بنيت كنموذج طورت على أساسه قبة الصخرة، وكان ذلك بين عامي 65 – 68هـ / 685 – 688م، أي قبل بناء قبة الصخرة.
وشذ عن هذا الإجماع الحسن بن أحمد المهلبي العزيزي (المتوفى: 380هـ) في الكتاب العزيزي أو المسالك والممالك، وتابعه أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن علي (المتوفى: 732هـ) في المختصر، وأيده ابن الوردي (المتوفى: 749هـ) في تتمة المختصر، وخالد بن عيسى بن أحمد البلوي (المتوفى: بعد 767هـ) في تاج المفرق في تحلية علماء المشرق، فذكروا أن الذي بنى القبة هو الوليد بن عبد الملك.
يقول العليمي (المتوفى: 923هـ) في الأنس الجليل ” وَيُقَال إِن عبد الْملك وصف مَا يختاره من عمَارَة الْقبَّة وتكوينها للصناع فصنعوا لَهُ وَهُوَ بِبَيْت الْمُقَدّس الْقبَّة الصَّغِيرَة الَّتِي هِيَ شَرْقي قبَّة الصَّخْرَة الَّتِي يُقَال لَهَا قبَّة السلسلة فأعجبه تكوينها وَأمر ببنائها كهيئتها “.
وقد قال رئيس مجلس الأوقاف الشيخ عبد العظيم سلهب بأن: ” قبة السلسلة هي أقدم بناء في المسجد الأقصى المبارك، وهي أموية بامتياز لم يحصل عليها أي تغيير، وقد بُنيت لكي يضعوا فيها خراج مصر لسبع سنوات لبناء المسجد القبلي وقبة الصخرة المشرفة “.
والحقيقة كما أسلفنا هو أن القبة بناها المهندسون للخليفة عبد الملك كنموذج طورت على أساسه قبة الصخرة، ولم تُبنى كخزنة لوضع المال الذي يُرفع من خراج مصر، وهذا ضعيف كونها بدون جدران. ولقد تم اكتشاف مخطوط تاريخي بعنوان ( كتاب التاريخ ) يعود للقرن الثالث الهجري حيث أشار فيه مؤلفه عبد المالك بن حبيب المتوفى في سنة 238هـ/852م بكل وضوح إلى أن قبة السلسلة قد بناها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان والسبب في بنائها لتكون مقراً للمهندسين والمعماريين الذين أشرفوا على بناء قبة الصخرة المشرفة وما كانت هندسة قبة السلسلة معقدة على هذا النحو إلا لتناسب قداسة المكان وعظمة بناء قبة الصخرة المشرفة ومن الطريف أن الخليفة بن عبد الملك اعتاد عقد مجالسه الإدارية تحت سقف هذه القبة.
وكان الخليفة سليمان بن عبد الملك يجلس فيها وينظر في أمور الرعية. كما استخدمت فيما بعد مقرا للعلم والعلماء للتدريس والسماع ، واستخدمت أيضاً للصّلاة والتعبّد، وأشار إليها الفقيه والرحالة المغربي ابن العربي، وذكر أنه قد اعتكف على القراءة فيها.
وذكر السخاوي في الضوء اللامع خلال ترجمته لعليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مَنْصُور الْعَلَاء أَبُو الْفضل بن أبي اللطف الحصفكي الأَصْل الْمَقْدِسِي المولد وَالدَّار الشَّافِعِي نزيل دمشق المولود في سنة سبع وَخمسين وَثَمَانمِائَة بِبَيْت المشيخة الصلاحية المقدسية، بأنه ” َنَشَأ يَتِيما فحفظ الْقُرْآن عِنْد الْفَقِيه عمر الْمَقْدِسِي الْحَنْبَلِيّ الْأَشْعَرِيّ وَصلى بِهِ فِي قبَّة السلسلة فِي رَمَضَان سنة خمس وَسِتِّينَ وَثَمَانمِائَة على الْعَادة “.
وهذا يعني أن المشايخ والعلماء كان من عادتهم الصلاة مع من يُتم حفظ كتاب الله في قبة الصخرة كنوع من التقليد الديني؛ لينال البركة من الشيخ تحت هذه القبة الجليلة.
أما عن سبب تسميتها بذلك الاسم، فيقال إنها أخذته من سلسلة حديدية كانت تتدلى في وسطها، وكانت ظاهرة للعيان، وقد ودارت حولها عدد من الحكايات التي يُرجع البعض تاريخها إلى زمن داود وسليمان عليهما السلام، لكنه أمر لا دليل عليه.
وصف القبة
قبة السلسلة هي إحدى قباب المسجد الأقصى المبارك، تقع علـى بعد ثلاثـة أمتـار من الباب الشرقي لقبّـة الصخرة المشرفة، في قلب المسجد الأقصى.
والقبة عبارة عن مبنى صغير الحجم جميل الشكل والزينة جدرانه مفتوحة، له أحد عشر ضلعا ومحراب واحد في جنوبه جهة القبلة، وتستند هذه الأضلاع إلى أحد عشر عموداً رخاميّاً، وفي وسطها ستة أعمدة أخرى تحمل رقبة مغلقة سـداسيّة، تعلوها القبة.
في داخل القبلة يوجد محراب جنوبي جميل، وهو ناتئ للخارج، وهذا المحراب مستحدث في العصر الأيوبي، أُضيف إضافة للقبة نحو عام 579هـ/1200م، والقبة آية بنائية جميلة، فريدة من نوعها، وتستخدم القبة في معظم الأوقات النساء للعبادة والصلاة، ويفضلونه أحيانا على مسجد قبلة الصخرة لانفتاحه على ا لهواء العليل.
يقول ابن الفقيه في كتابه البلدان ” قبّة السلسلة على عشرين عمودا رخاما، ملبّسة بصفائح الرصاص “
وخلال وصفه للمسجد الأقصى قال المقدسي في أحسن التقاسيم:” الصحن كلّه مبلّط وسطه دكّة … يصعد إليها من الأربع جوانب في مراق واسعة وفي، الدكّة أربع قباب: قبّة السلسلة، قبّة المعراج، قبّة النبيّ ﷺ، وهذه الثلاث لطاف ملبسة بالرصاص على أعمدة رخام بلا حيطان، وفي الوسط قبّة الصخرة
وقد أشار الرحالة الإيراني خسرو، والذي زار القبة زمن سيطرة العبيديين (الفاطميين) إلى أن قبة السلسلة في المسجد الأقصى ” محمولة على رأس ثمانية أعمدة من الرخام وست دعائم من الحجر “.
ويصفها العليمي بقوله: ” وَهِي قبَّة فِي غَايَة الظّرْف على عمد من رُخَام … على صفة قبَّة الصَّخْرَة، وَهِي شرقيها بَين الْبَاب الشَّرْقِي ودرج الْبراق، وعدة مَا فِيهَا من الْعمد الرخام سَبْعَة عشر عمودا غير عمودي الْمِحْرَاب، وَرُوِيَ ان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة اسري بِهِ رأى الْحور الْعين مَكَان قبَّة السلسلة، والصحن مُحِيط بقبة الصَّخْرَة الشَّرِيفَة على حكم التربيع لَكِن طوله من الْقبْلَة الى الشمَال أَكثر من عرضه من الْمشرق الى الْمغرب “.
ووصفها البلوي في تاج المفرق فقال: ” قبة تغشى النواظر بشعاعها، وتخطف الأبصار بالتماعها تسمى قبة السلسلة، التي كان يحكم بها داوود عليه السلام، وهي قبة عجيبة قامت على أسوار مختلفة، وصناعة على الحسن مشتملة، بوسطها تأريخان مكتوبان بالذهب أحدهما في أرض خضراء زراعية “.
ترميم القبة في عصرنا الحالي
اهتم المسلمون بترميم تلك القبة المباركة قبة السلسلة، فرممها الأيوبيون عام (596هـ)، وقد كُتبت تللك المناسبة بالذهب وكان نصها:
( بسم الله الرحمن الرحيم – وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان، وكلا أتينا حكما وعلما – أُكمل تجديد بطن هذه القبة السلسة المباركة ونقش سقفها وتبليطها في شهور سنة ست وتسعين وخمسمائة ) .
ثم رممها السلطان المملوكي الظاهر بيبرس عام 661هـ/1262م، وقد ذكر المؤرخون أنه ” جدّد قبّة السلسلة وزخرفها .
وفي العصر العثماني قام سليمان القانوني 969هـ/1561م بتجديد القاشاني في قبة السلسلة.
وظلت القبة على حالها من الإهمال وعدم الاهتمام حتى عام 2008م حيث تقدم وزير الخارجية الأردني بطلب من الحكومة التركية برئاسة رجب طيب أردوغان بتأمين البلاط القيشاني وترميم قبة السلسلة، فقامت الحكومة التركية وعن طريق مؤسستها ” تيكا ” مؤسسة التنمية والتعاون التركي بإجراء الاتصالات اللازمة مع إدارة الاوقاف الاسلامية وعلى رأسها سماحة الشيخ عبدالعظيم سلهب، وتم الاتفاق على آليات الحصول على التصاريح اللازمة وإحضار المختصين من تركيا وعمل البلاط القيشاني المطلوب.
وهكذا استعادت تركيا دورها التاريخي، بعد الترميم الأخير الذي قام به أجدادهم الأتراك العثمانيين، فهذا الأسد أوردغان، من ذاك الأسد سليمان.
يقول مهندس وكالة تيكا داوود قطينة ” بعد احضار المختصين من تركيا، واجتماعهم مع المهندسين المسؤولين عن صيانة المسجد الاقصى برئاسة المهندس بسام الحلاق، اتُفق على أشكال وخصائص البلاط القيشاني اللازم للمشروع، وتم الاتفاق على احضار هذا البلاط من وقف ازنيك للقيشاني من تركيا، وفي شهر آب من عام 2008م حضر البروفيسور اشيل اكباغيل من تركيا واجتمع مع مهندسي الاوقاف، وتم الاتفاق على صناعة 4300 قطعة بلاط قيشاني، يتم صناعتها في تركيا بالطريقة اليدوية، بنفس المواصفات التي كانت موجودة به من قبل، وفي 22 اذار من عام 2009م تم احضار البلاط من تركيا، وخُزنت بمخازن القنصلية التركية بالقدس، وبعد ثلاث سنين من العمل المتواصل من قبل مهندسي وفنيي الأقصى تم بفضل الله اتمام عملية الترميم.
وماذا بعد الترميم؟! أليس من العار على المتخاذلين ترك تلك القبة المباركة والتاريخية تأن تحت نير الدنس الصهيوني! فهي جزء من الأقصى المبارك أولى القبلتين، وثاني المسجدين، إن انقاذ المقدسات وتطهيرها من دنس المحتل الغاصب، الذي ينتهك حرماتها ليل نهار واجب شرعي ووطني على كل مسلم في كافة بقاع الأرض، فالترميم يحتاج قبله إلى تطهير وتحرير، كما فعل صلاح الدين الأيوبي عندما حرر الأقصى، لم يأخذ الأذن لا هو ولا سلفه نور الدين من المحتلين الصليبيين لترميم الأقصى ومقدساته، بل طردهم وطهر الأقصى من رجسهم، ثم رمم وبنى، وأصلح وأعلى، وهكذا يجب أن نكون، لا ننتظر التصاريح، ولا الوساطات الدبلوماسية لإدخال مستلزمات الترميم، ثم نقوم بالترميم، بينما يقوم المحتل الذي أعطانا التصاريح بحفرياته أسفل أساسات الأقصى، نحن بحاجة فعلاً إلى فهم واعي لما يجري، كل الجهود مشكورة، لكن التحرير هو أولى الأولويات المطلوبة.