يظهر بادي الرأي أن جامع الترمذي هو أشهر مرجع في الحكم على درجة كل حديث تصريحا وتلميحا، تصريحا حين يعقب على الحديث بقوله: “هذا حديث صحيح، أو هذا حديث حسن صحيح، أو هذا حديث حسن غريب أو هذا حديث غريب أو ليس إسناده بصحيح أو ضعيف الإسناد… وهكذا.
وتلميحا أحيانا بقوله:” وفي الباب عن فلان”، أو بقوله:” وقد روى هذا الحديث من غير هذا الوجه” تنبيها على درجة الحديث قبولا أو ردا.
وهذا من ناحية الإسناد، وأما ما يرد عقب الحديث من ذكر عمل الصحابة أو التابعين وغيرهم، وهل يعتبر بمقتضى الحكم على الحديث تلميحا؟ وفي أكثر المواضع في الجامع يقول الإمام الترمذي بعد الحديث:”وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي ﷺ، ومن بعدهم من التابعين”،
أو “وعليه العمل عند أهل العلم”. أو بقوله:” جميع ما في هذا الكتاب من الحديث فهو معمولٌ به وقد أخذ به بعض أهل العلم ما خلا حديثين”[1]
وهذا يعني أن من أهم مقاصد الكتاب هو إيراد الأحاديث المعمولة بها لا المهجورة، ولكن هل يلزم جريان العمل على الحديث تصحيحا أو تحسينا له؟
وبعبارة أخرى: هل يقوي الإمام الترمذي الحديث الضعيف بناء على ثبوت العمل به عند أهل العلم؟ فالجواب المجمل: لا.
وأما الجواب المفصل فهو فيما يأتي:
العمل بالحديث ليس دليلا على صحته
لم يتقرر في قواعد علم الحديث والأثر اعتبار مجرد العمل بالحديث من عالم أو عدمه كأصل من أصول الحكم يعرف به صحة الحديث وضعفه، وكذا لم يكن مجرد فتاوى أهل العلم وفق حديث معين أحد المسالك المقررة في إفادة الحكم عليه قبولا وردا، لاحتمال أن يكون مستند العمل أو الفتوى غير الخبر، أو أن يكون ذلك من باب الاستئناس لا الاحتجاج.
يقول ابن الصلاح: “إن عمل العالم أو فتياه على وفق حديث ليس حكما منه بصحة ذلك الحديث، وكذلك مخالفته للحديث ليست قدحا منه في صحته ولا في راويه، والله أعلم”.[2]
وذكر زكريا الأنصاري رحمه الله أن جمهور أئمة الأثر لم يروا فتوى أو عملَ أحد العلماء – سواء كان مجتهداً أو مقلداً – على وفاق حديث تصحيحاً له، ولا تعديلاً لرواته، لامكان أن يكون ذلك منه احتياطاً، أو لدليل آخر وافق ذلك الحديث، أو لكونه ممن يرى العمل بالضعيف وتقديمه على القياس.[3] كما حُكي عن الإمام أحمد أنه يقدم الحديث الضعيف – الذي هو الحديث الحسن لغيره في اصطلاح المتأخرين- على القياس. ولأنه لا يلزم المفتي أو الحاكم أن يذكر جميع أدلته بل ولا بعضها في فتياه.[4]
وبناء على هذا لا يصح الاستدلال بصنيع الإمام الترمذي أنه في مقام التقعيد والتأصيل لمنهج تقوية الحديث بمقتضى عمل أهل العلم به، لأن شروط الاحتجاج بالحديث عنده هي نفس الشروط والقواعد التي سار عليها أئمة الشأن.
ثم يجب التحقق من مقصود الإمام الترمذي بالعمل، هل يعني به الاستشهاد على ثبوت الحديث الذي هو بصدده أم له أغراض أخرى؟ والظاهر هو الأخير، أي أن له مقاصد أخرى أعم من الاحتجاج بصحة الخبر وفق العمل به، لدلالة واقع الكتاب على ذلك ونظرا للمواضع التي أطلق فيها تلك العبارات.
مقاصد كتاب جامع الإمام الترمذي
قد أثبت واقع الجامع أن ثمة أحاديث مردودة رواية، لكن معناها صحيح مقبول لاعتبارات أخرى:
إما من أجل موافقتها لآية، أو للإجماع، أو للقواعد الكلية في الشريعة أو مقاصدها، فيكون العمل على تلك الأحاديث لأصل خارج عنها، مع بقائها على ضعفها وعدم نسبتها إلى النبي ﷺ، ولزيادة التوضيح يحسن الضرب بمثالين من الكتاب فيقاس عليهما.
أولا: حديث ضعيف وعليه العمل
حديث: “أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره النبي ﷺ أن يتخير أربعا منهن.
قال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل –يعني الإمام البخاري– يقول: هذا حديث غير محفوظ.
ثم قال الترمذي: والعمل على حديث غيلان بن سلمة عند أصحابنا منهم الشافعي وأحمد وإسحاق.[5]
الاستنتاج:
يلاحظ نقل الإمام الترمذى تضعيف الإمام البخاري للحديث وحكايته عن العمل عليه؛ أنه لا يمكن الاعتماد عليه من حيث صناعة الإسنادية، وإنه لا يصح رواية لكن يصح العمل على مضمونه المتفق مع ظاهر القرآن، (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) [النساء: من الآية 2].
وكأنه يقول: حديث غيلان ضعيف والعمل عليه من باب الاستئناس فحسب، وإلا فمستند العمل في الواقع هو ما دلت عليه الآية والاجماع، وأما حديث غيلان فإنه باق على ضعفه لا يرتقي إلى العمل به. وهذا هو سبب نقل الإمام الترمذي قول الإمام البخاري ليبين أن الحديث ضعيف من حيث رواية، والقول بضعفه هو قول النقاد، كأمثال الإمام أحمد ومسلم وأبي حاتم وغيرهم من المتقدمين.وقال ابن عبد البر: “طرقه كلها معلولة” ولا تتعضد بمجرد جريان العمل عليه.
ثانيا: حديث شديد الضعف وعليه العمل
حديث:” كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله”.
قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء بن عجلان، وعطاء بن عجلان ضعيف ذاهب الحديث، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي ﷺ وغيرهم أن طلاق المعتوه المغلوب على عقله لا يجوز إلا أن يكون معتوها يفيق الأحيان فيطلق في حال إفاقته.[6]
الاستنتاج:
رغم إشارته إلى شدة ضعف الحديث بمقتضى قوله فى عطاء بن عجلان إنه “ذاهب الحديث” ثم حكى عمل أهل العلم عليه، وماذا يحمل هذا التصرف من المعانى إذن؟
ولا شك أنه يدل على أن الجهة منفكة، فالحديث ساقط لا يتقوى من حيث الرواية ولا تجوز نسبته إلى النبي ﷺ، وأما العمل به فهو شيء آخر، وقد يكون لمستند آخر غير الحديث.
ولذا قال ابن المنذر:” وأجمعوا على أن المجنون والمعتوه لا يجوز طلاقه”.[7] ولا يمكن انعقاد الإجماع على الحديث ساقط ابتداءا.
وليس مراد الإمام الترمذي الدعوة إلى الاحتجاج بالحديث شديد الضعف لموافقته عمل العلماء به، وإنما أراد أن يشير إلى أن العمل به جار على دليل آخر من أدلة الشريعة.
لكن:
فائدة تعقيب الإمام الترمذي على الحديث المعل أن “العمل عليه”
من الواضح أن كتاب الترمذي تميز بخصائص عديدة وأهمها أنه كتاب جامع بين دفتيه الحديث والفقه معا، ومن ثم ألزم نفسه بذكر الأحاديث المعمولة والمتداولة بين العلماء مع بيان أحوالها صحة وضعفا، أي أراد أن ينقل واقع حال كل حديث ومن عمل وفقه من العلماء بغض النظر عن تقوية الحديث بذلك.
ثم إن لأئمة الحديث نوايا ومقاصد في حشر الأحاديث الضعيفة في كتبهم، ذكر بعضها النووي في كتابه المنهاج شرح صحيح مسلم عند حديثه عن أسباب رواية الأئمة عن الضعفاء قائلا:” قد يقال لم حدث الأئمة عن هؤلاء مع علمهم بأنهم لا يحتج بهم ويجاب عنه بأجوبة:
أحدهما: أنهم رووها ليعرفوا وليعينوا ضعفها لئلا يلتبس في وقت عليهمأو على غيرهم أو يتشككوا في صحتها.
الثاني: أن الضعيف يكتب حديثه ليعتبر أو يستشهد … ولا يحتج به على انفراده.
الثالث: رواية الضعيف يكون فيها الصحيح والضعيف والباطل، فيكتبونها ثم يميز أهل الحديث والإتقان بعض ذلك من بعض، وذلك سهل عليهم ومعروف عندهم.
الرابع: أنهم يروون عنهم أحاديث الترغيب والترهيب، وفضائل الأعمال والقصص وأحاديث الزهد ومكارم الأخلاق ونحو ذلك مما لا يتعلق بالحرام، وهذا الضرب من الحديث يجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل فيه ورواية ما سوى الموضوع فيه والعمل به، لأن أصول ذلك صحيحة مقررة في الشرع.[8]
الخامس: من أجل الإحالة على الإسناد: فقد كان منهجا عند المحدثين أن من أسند فقد أحال، أي فقد برئت عهدته ما دام لم يحذف الإسناد ولم يعلق الرواية بصيغة الجزم. [9] الحاصل أن تعقيب الإمام الترمذي الحديث بقوله “والعمل عليه” لا يعني تأسيسا لمنهج التعضيد والتصحيح للرواية عن طريق العمل به، وإن كان مما قد يستفاد منه في بعض الأحيان لتقوية الحديث تبعا لا استقلالا.
[1] – شرح علل الترمذي 1/49
[2] – معرفة أنواع علوم الحديث. ص:111
[3] – فتح الباقى بشرح ألفية العراقى 2/322
[4] – على حد قول الإمام العراقى. ينظر: التقييد والإيضاح. ص: 144
[5] – حديث رقم (1128).
[6] – حديث رقم (1191)
[7] – الإجماع رقم (404)
[8] – المنهاج شرح صحيح مسلم 1/125
[9] – ينظر: قطعة التعليق الجلي على شرح علل الترمذى لابن رجب. تعليق أ.د. الشريف حاتم العونى