ينقلنا كتاب “سوسيولوجيا الفن: طرق للرؤية” من تحرير ديفيد إنجيلز وجون هينجستون وترجمة: د. ليلي الموسوي إلى بقاع معرفية شديدة الخصوبة؛ بما تثيره من قضايا تمس العمل الإبداعي.

الكتاب الذي يقع في (335) صفحة من القطع المتوسط، عماده مجموعة من الدراسات والمقالات لعدد من العلماء المتخصصين في علاقة فنون بعينها بسياق اجتماعي أفرز تلك الفنون.. فلا يكاد يطوف بنا الكتاب بفنون سردية، إلا ونجده يولي وجهه شطر فنون تشكيلية من رسم إلى تصوير إلى عمارة إلى تخطيط مدن، ثم شطر فنون موسيقية وغنائية وحركية منها البالية والأوبرا، وقل مثل ذلك في فنون دعائية للفنون ذاتها وأساليب الترويج لها.

يتميز الكتاب بكونه لا يقف عند طرح ممارسات سوسيولوجية حول تلك الفنون بشكل تطبيقي فحسب، بل إن عددًا من المباحث فيه تتناول مهمات سوسويولوجيا الفن عموما سواء منذ لحظة تأسيس هذا المكون النقدي المعرفي، ثم التطورات الملحقة بهذا التخصص في ضوء التغييرات الاجتماعية الدولية، وبذلك يروي الكتاب شغف من يريد تناول الفن من وجهة نظر اجتماعية عموماً، وكذا يعطي أمثلة تطبيقية عديدة لمتخصصين كبار في هذا المجال.

الفن فعل اجتماعي

 وإن كانت ضرورة قيام سوسيولوجيا الفن دائماً معارضة القول (بكون الفن كيانا قائما بذاته، وكلا مكتمل)، حيث ينافح هذا التخصص ما يعتبره دوما تصورا رومانتيكيا عن الفن بكونه حادثة استثنائية تحوي شروط بقائها من داخلها فحسب.. بينما يحاول هذا التخصص تفسير الفن بوصفة فعل اجتماعي ثقافي، مثله مثل غيره سواء في كونه يولد في رحم تاريخي وجغرافي محدد، أو سواء في كونه قابلاً لفك شفراته الفنية عبر التحليل الاجتماعي بإرجاع الدال إلى أصله الاجتماعي المشار إليه، سواء بشكل مقصود أو غير مقصود قبل المبدع.

وهنا ينبغي عدم إغفال حقيقة وجود تفاوت كبير بين المتخصصين في حقل سوسيولوجيا الفن، هذا التفاوت يكمن في درجة الربط بين الفن والمجتمع، فلدى البعض يصل الربط إلى الحد الذي يرى العملية محض انعكاس مباشر.. لكنها لدى البعض الآخر علاقة مركبة بين الفن والمجتمع ونتاج عمليات أكثر تعقيدا بكثير من مثل هذا الانعكاس الآلي.

نشأة سوسيولوجيا الفن

أما مقدمة ديفيد إنجيلز، وجون هنجستون؛ محرري الكتاب فتستعرض نشأة سوسيولوجيا الفن، والقضايا المحورية التي يعالجها هذا الحقل ومنها؛ ماهية الفن، وخصوصيته، وعن الذي يمكن له أن يقرر ما هو فن وما هو ليس كذلك، ثم صور ارتباط الفن والمجتمع كليهما بالآخر، ومدى تأثير المجتمع في طبيعة الفن، وتأثير الفن في العلاقات الاجتماعية، ثم عن علاقات القوى الاجتماعية بعملية إنتاج الفن، وكيفية تعامل مجتمعات معينة مع فنون بعينها، وكيف يتم إنتاج عمل فني في فضاء اجتماعي، وعن ماهية الفنان، وكيفية انتقال العمل الفني من الفنان للجمهور.. ونضيف والشروط والضرورات التاريخية لظهور أنواع فنية بعينها في مجتمعات بعينها، حيث إن نشأة أنواع فنية جديدة في مجتمعات بعينها تأتي دائماً كاستجابة لضرورات ظرفية اجتماعية محددة وقل مثل ذلك في أفول أنماط فينة لغياب شروط حضورها الاجتماعي.

غير أن ديفيد أنجيلز ذاته وفي فصل بعنوان (التفكير في “الفن” سوسيولوجيا) يعود فيناوش المفهوم السابق؛ إذ يفصل ما بين مهمتين أساسيتين لسوسيولوجيا الفن:

دراسة أولئك الأفراد الذين يطلق عليهم “فنانون” وكيف يمارسون إبداعاتهم الفنية.

التأمل في مكانة الفن في البناء العام للمجتمعات الحديثة، ومن ثم المكانة التي تشغلها فنون بعينها داخل المشهد الاجتماعي المعاصر، وتفسير منطق شغل تلك الفنون بالذات لتلك المكانة بعينها.

استعرض إنجيلز ألوان الطيف السوسيولوجي الفني، بعد أن بسط القواسم المشتركة التي تجمع علماء سوسيولجيى الفن قبل أن يبعثرهم من بعد.. فإن كان ما يجمعهم هو الاعتقاد بأنه ليس هناك لأي قطعة فنية خصائص فنية ذاتية ودائمة لتلك القطعة.. بل إن الأمر محض صفات توسم بها القطعة من قبل جماعات معنية بالشأن الفني، تكون تلك الجماعات مؤهلة بشكل ما لأن يؤخذ برأيها وينتشر على أنه ما يعرف بالذوق.

غير أن إلصاق صفة (فني) يستحيل أن يكون محايداً تماماً، فثمة مكتسبات ما ينالها من يطلق هذا التوصيف، أو العكس عندما يحجب ذاك التوصيف عن تلك القطعة، بمعنى ثانٍ يجمع علماء سوسيولوجي الفن على أن مصالح جماعات مختلفة وصراع تلك الجماعات هو ما يعتمل في فضاء صناعة الفن وتقييمه على السواء.. وعليه يتم تعريه ادعاء أي طرف بكون الفن ينتمي إلى ما هو أرقى، أو أسمى، أو أرفع، أو أعلى مما هو اجتماعي بحت.

وبقول آخر على المرء أن يدرك أن الشيء لا يعتبر فنا إلا لأن جماعة ذات نفوذ قد أطلقت عليه هذا التوصيف.. من نفس المنطلق تقريبا يذهب روبرت دبليو ويتكين في الفصل الرابع بعنوان (نموذج “جديد” لسوسيولوجيا الجمال) إلى أن التطورات التقنية الفنية لم تكن هي الباعث في تطوير حركة الفن، كما يشاع ويسخر من أن الإصرار الدائم على أن ثورة الفتن تعزى دوما ببساطة لتطورات تقنية، ليتم تجاهل التغيرات على مستوى التشكيلات الاجتماعية التي أسست عليها مثل هذه التطورات التقنية.

الفن والسياق

نعود لإنجيلز الذي يكمل دائرته حين يعرض بشكل بانورامي لمفهوم ومصطلح الفن ذاته، ومن ثم يثبت تاريخية هذا المفهوم، ويتتبع تطوره التاريخي، ويثبت أن ضرورات غربية هي التي أملت الوصول إلى المفهوم المعاصر والرائج للفن، لعمري وكأنه بهذا القول يذهب إلى أن أي منتج للثقافة العربية لنقل سيف مثلاً، به نقوش في قبضته، حين يعرض في معرض فني غربي يمر بعملية إعادة تفسير منظمة؛ إذ يقتطع من سياقه الوظيفي العسكري ليتموضع في سياق التلقي المتحفي..، وبقول آخر نخرجه من فضاء ما ومن صنع له، إلى فضاء ما ومن عرض له.

الشاهد أن عالم الاجتماع عندما يقابل تعبير مثل “عمل فني عظيم” لا يكون معنيا بالتحقق من دلالة ذلك فنيا هنا والآن، بقدر ما يكون معنيا بالدافع الذي من أجله أطلقت جماعة ما على مثل هذا العمل مثل هذا التوصيف، فالأفكار المهيمنة حول الفن ستكون بالضرورة معبرة عن تفضيلات المجموعة المهيمنة في ذلك المجتمع….على ألا يقتصر مفهوم المجموعات المهيمنة على الطبقة، بل قد يتخذ شكل آخر، مثل الجماعات الإثنية أو العرقية، على سبيل المثال.

ومزيد من التطرف في هذا الاتجاه يذهب ببعض علماء سوسيولوجيا الفن للقول بضمير مرتاح: “ربما كان شكسبير سينسى تماماً في عصرنا هذا لو لم يكن الناس يبشرون نيابة عنه عبر القرون الماضية، ويشهدون على عظمته ويصفون مسرحياته بأنها أشكال ثقافية (حاسمة) يجب إدراجها ضمن المناهج الدراسية لتلاميذ المدارس وطلاب الجامعات”.

متى يغدو الفن فنا؟

لا يقف إنجيلز عند حدود استعراض مفهوم الفن والكشف عن تاريخيته والشك فيه، وفي نقاء وحيادية ما آل إليه من دلالة، بل يقوم بالممارسة ذاتها مع مفهوم (الفنان)، وكذا مفهوم (العمل الفني) عارضا لـه ومشتبكاً مع منظرين كبار من أمثال لوسيان جولدمان، وجورجي لوكاتش، وتيودور أدورنو، وبيير بورديو، وهذا الأخير يفرد لنظريته في الحقول الفنية الفصل الثاني من الكتاب.

يصدر إنجيلز هذا الفصل بعنوان “متي يغدو الفن فنا؟”، ويستهله بالقول بأن هناك تناظرا لصيقا بين الظروف التاريخية لإنتاج العمل الفني وشروط استقباله.. ويفسر هذا الأمر عملية صعود نجم أعمال وفنانين معينين بعد أفولهم لقرون.

ويلقى هذا على عاتق سوسيولجيا الفن بعدم الاقتصار على تفسير النشأة التاريخية لحقل إنتاج فني مستقل، مثل تفسير نشأة الراوية وتمايزها واستقلالها عن أصولها الأدبية مثل الملحمة مثلاً أو المقامة وأدب الرسائل، وربط هذا التفسير باللحظة التاريخية لانبثاقها كفن مستقل فحسب.. بل يلقى على عاتقها كذلك بدراسة وفحص التشكل التاريخي لأنماط التقبل الفني المعاصرة لهذا الفن.

وبقول آخر تشريح تاريخية التلقي مثلما درسنا تاريخية الإنتاج الفني ذاته.. ويحضرني هنا مقولة توضح ما عناه إنجيلز وهي للوكاتش حين وصف الرواية بكونها (ملحمة البرجوازية)، لوكاتش يرى في مقومات هذا الفن وطبيعة بنيته استجابة لضرورة ظهور تلك الطبقة لتكون الرواية تجليا فنيا للفعل السياسي لظهور الطبقة، وقل مثل ذلك إن شئت في التراجيديا والمجتمع الإغريقي.

إذن لدى السوسيولجيين النشأة التاريخية تدرس من الوجهتين وجهة الإنتاج ووجهة التلقي.. وهو ما عناه بورديو بقوله: “الأعمال الفنية رسائل تتطلب معرفة مسبقة بالشفرة الملائمة لحلها أو تفسيرها بشكل واف”.

الجمال غير المرئي

أما عالم الإثنوجرافيا الثقافية من جامعة كيل بول ويليس فيسعى في فصله المعنون بـ(الجماليات غير المرئية والعمل الاجتماعي لثقافة التسليع) إلى إيجاد معبر لفهم (الجمال)، كما يتم طرحه في الخطاب الثقافي اليومي والأكاديمي، ليكشف البون بين الفهم الذي رسخته الفلسفة لعقود لتاريخ الفن؛ ومن ثم مبحث الجمال المنبثق عنها، وبين فهم علم الاجتماع ومن ثم السوسيولجيا لنفس الموضوع.

إن الطرح المعرفي الذي يروج له ويلس يخلخل العلاقة الراسخة بين (الجمالي) و(الثقافي) ودعنا نصغي لقوله: “الرأي عندي أن الحدود بين الفنون واللا فنون يجب أن يعاد رسمها أو يعلن إلغاؤها كلية، فمن الضروري ألا يكتفي بنقد وجهة النظر القائلة بأن المساهمة في الفن تنتج الثقافة، بل إعلان أن الثقافة هي التي تقوم فعليًّا؛ وبوصفها طريقة للعيش، بإنتاج الفن، وليس العكس، أو على الأقل أن العلاقة الجدلية بين الاثنين هي التي تزودنا كبشر بالقدرة على الاتصال”.

في الفصل الحادي عشر على سبيل المثال يقدم إنجيلز ورولاند روبرتسون -شريكا العمل في جامعة أبردين- بعض الأسس النظرية والمنهجية لدراسة عولمة الأشكال الثقافية، وذلك من خلال دراسة ما يعرف بالموسيقى العالمية، وما تطرحه من إشكاليات على مستوى الدرس السوسيولوجي، ويغرقانك بتفاصيل تمس فرق وأنماط موسيقى محلية، وينتهي هذا الطواف، بمراجعة للسوسيولوجيا تلك التي ما زالت تقف في موضع عجز عن تطوير أدوات منهجية تصلح وتلاحق تلك الظاهرة، وتمكن من فحصها منهجيا، مع الإقرار المبدئي بأنه لا يمكن للضمير العلمي المضي في التغافل عن حضور العولمة في الشأن الثقافي الفني الدولي والإقليمي على السواء.

ياسر علام