شغلت نظرية المعرفة الباحثين، بوصفها فلسفة للعلوم، وتشكلت كنظرية مستقلة منذ ثلاثة قرون على يد فلاسفة غربيين، أما الفكر الإسلامي فقط طُرحت كثير من مسائلها ومصادرها ومناهجها متفرقة في مباحث الفلسفة والمنطق وأصول الفقه.
تهدف النظرية إلى الكشف عن حقيقة المعرفة الإنسانية وطبيعتها وموانعها والأسس التي ترتكز عليها، للوصول إلى المعرفة السليمة، فهي تحمل مهمة إنتاج اليقين أو بيان طريقه.
وضمن سلسلة دراسات إبستمولوجية[1]، صدر الجزء الأول من كتاب “نظرية المعرفة: دراسات وبحوث” ويتناول المفاهيم التأسيسية، وهو من إعداد وتحرير الدكتور “عمار عبد الرزاق الصغير”، وصدرت طبعته الأولى عام 2023، في 380 صفحة، عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية.
المعرفة بين الحس والإلهام
نظرية المعرفة تُصنف كمعارف من الدرجة الثانية، مثل المنطق، فهي علم لا يُقدم أية توضيحات عن العالم والموجودات فيه، لكن وظيفته الأساسية هي تصحيح المعلومات الذهنية للإنسان، وبيان الاستخدام الصحيح لها، بغرض الحصول على معلومات جديدة أخرى.
الفلاسفة، قبل سقرط، لم يكن لديهم اهتمام خاص بمسائل نظرية المعرفة، فقد كانت جهودهم منصبة على قضايا تغير الطبيعة وظهور العالم، ثم جاء أفلاطون ليطرح المسائل الأساسية في المعرفة، وتبعه أرسطو، الذي حرر تصوراته عن المعرفة، لكنها لم تكن محطا للأنظار بوصفها فرعا علميا مستقلا، ولعل أول كتاب في نظرية المعرفة هو “بحث حول فهم الإنسان” للفيلسوف “جان لوك” في القرن السابع عشر، ثم أفرزت التحولات الفلسفية، بعد عصر النهضة، نظرية المعرفة كفرع من العلوم، ومن ثم، فالنظرية ليس لها تاريخ طويل، إذ لم يمر على إنشائها في الغرب سوى ثلاثة قرون.
جميع المعارف والإدراكات يكتسبها الإنسان عن طريق أدوات المعرفة، وهي: الحس والعقل والإلهام، فمثلا “جان لوك” أرجع جميع التصورات والأفكار إلى الحس، وهذا الاتجاه عارض نظرية الأفكار الفطرية، وحاصل النظرية أن ذهن الإنسان حين يولد يكون خاليا من كل معرفة، ولهذه الفكرة أثر قديم في الفلسفة الصينية والهندية القديمة، في مذهب عُرف بـ”السُمنية” التي قصرت تحصيل المعرفة على الحواس الخمسة.
الحس هو الينبوع الأساسي للتصورات والأفكار البدهية والنظرية، ويُقال “ليس من شيء في العقل إلا وله أثر في الحس”، ومن ثم فهو البنية الأساسية التي تقوم علي قاعدتها صرح التصورات البشرية، لكن محاولة إرجاع كل المعارف إلى الحس ليس محاولة صائبة، فالحس يمهد لحصول معارف أرقى وأعلى.
والعقل من أدوات المعرفة، وله وسائله ومناهجه، مثل الاستنباط والاستقراء، والاستقراء مزيج من الحس والعقل، أما التجربة فمن أدوات المعرفة الرئيسية، واحتلت مكانة كبيرة في المنهج المعرفي الغربي، وهي إحدى أدوات تحصيل اليقين، وفي ظلها يصل الإنسان إلى سنن الكون الكلية، وكل ما يعيشه الإنسان من تطور مدين للتجربة.
ورغم أهمية التجارب في تحصيل اليقين، إلا أن بعضها ليس إلا ظنون متراكمة مشوبة بالشك، وهو ما يُخرج العلم عن وصفه بالجزم والقطعية، وقد اعترف “جون استيورت ميل” بذلك قائلا:”العلوم التجريبية لا توجب اليقين المطلق”، كما أن الاعتماد على الحواس لتحصيل معرفة يقينية، ليس دائما صحيحا، ومثال ذلك رؤية العين للسراب في الصحراء وقت الظهيرة على أنه ماء.
العقل المادي والنظرة المادية للكون لا تعترف إلا بأداتين للمعرفة، هما: الحس والعقل، أما الإلهام والغيب فلا يجد مكانا في تلك النظرة المادية، التي تساوي بين الوجود والمادة، رغم أن الغيب هو الدائرة الأوسع للوجود.
أما المعرفة في الرؤية الإسلامية فتستضيء بالحس والعقل والغيب، فلم يهمل علماء المسلمون التجربة، مثل: “جابر بن حيان“، و”محمد بن زكريا الرازي” و”ابن سينا” و”الحسن بن الهيثم”، كما تحدثوا عن الحس والعقل في إنتاج المعرفة وتحصيلها، فابن سينا مثلا أشار أنه ليس تكرار المشاهدات هو ما يفيد اليقين، وإنما لابد أن تقترن تلك المشاهدات بقياس عقلي، ورأى آخرون أن العلم في التجربة، ولكن ذلك منوط بأمرين: أحدهما المشاهدة، والآخر القياس الخفي، وطرحت الرؤية المعرفية الإسلامية “آلية القلب”، وبها يصل الإنسان من خلال تصفية قلبه وكبح جماح نفسه والتوبة والتفكر والإنابة، إلى إدراك المعارف، لذا يصبح تهذيب النفس وتطهير القلب، والانقطاع بالنفس عن الشهوات، من أبواب تحصيل المعرفة.
الرؤية الإسلامية اعتبرت الوحي من مصادر المعرفة، ورأته متميزا عن سائر الإدراكات، لأنه ليس نتاج الحس ولا العقل ولا الغريزة ولا التجربة، ورأته مختلفا عن الإلهام والإشراق، فالوحي يتضمن تعاليم في مجالي العقيدة والعمل، كما أن المُوحى إليه يكون نبيا مبعوثا، في حين أن الإلهام لا يتضمن تكليفا ولا تشريعا، ولا تكليفا بالنبوة والرسالة.
موانع المعرفة
الرؤية الإسلامية تعتقد بفطرية معرفة الإنسان بالله تعالى، لكن هذه الفطرة قد تدخل بعض العوامل التربوية والاجتماعي والدينية التي تحجبها عن رؤية الحق، فحينها تحتاج إلى تنبيهات وجدانية تثير ميثاق الفطرة المنسي في دفائن العقول، وأولت عناية بموانعها وعوائقها التي تحول دون كشفها لحقائق الوجود والحياة، لذا جاء في الدعاء المأثور لعمر بن الخطاب-رضي الله عنه- “اللهم أرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل” وجاء في الأثر “اللهم! أرنا الأشياء كما هي”، وهو تنبيه بقدرة الحس أن يكون مانعا لتكوين معرفة سليمة.
وقد تعرض فلاسفة لموانع المعرفة، لكن التحدي الأكبر الذي واجه فلاسفة اليونان هو نزعات الشك الهدام التي سعت لتنسف أسس المعرفة، والترويج لنسبية مغلقة، تغدو معها كل الحقائق تدور مدار الفرد ذاته، معتبرة أن الإنسان مقياس كل شيء، ومن ثم تبدو الحقيقة نسبية، ومتغيرة، هذا الاتجاه عبرت عنه المدرسة السوفسطائية، لذلك كانت السفسطة أو الجدل العقيم من أسس الموانع العقلية للمعرفة.
وهناك العائق الأبستمولوجي، وهو عائق تحدث عنه الفيلسوف الفرنسي “غاستون باشلار” المتوفى 1962، وهي يشير إلى مجموعة الأفكار والتصورات المسبقة أو الخاطئة، التي تؤثر في عمل العالِم دون وعي منه، وتعوقه عن بلوغ الحقيقة الموضوعية للظواهر التي يدرسها.
أما القرآن الكريم فتحدث عن موانع المعرفة، لكن كان تعاطيه مختلفا، إذ كانت معالجته تتسم بالإحاطة بأبعاد الإنسان والواقع، وقادرة على تشخيص مكامن الخطأ بدقة وشمول، ومن تلك الموانع:
–اتباع الهوى، وهيمنة الميول الذاتية: فاتباع الهوى يقود إلى مجانبة العقل، والتنكب عن الصواب، ويحجب العقل عن الحقائق، وأرجع النص القرآني، الضلال والكفر الذي وقع فيه المشركون إلى اتباع الهوى، فكان الموقف من الهوى هو معيار مفاصلة بين المؤمن وغير المؤمن، قال تعالى: “أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّه أَفَلَا تَذَكَّرُونَ”[2].
–اتباع الظنون: فالظن يعصف بالحقائق والبديهيات، وفي مقدمتها الإيمان بالله سبحانه وتعالى، لذلك نظر القرآن إلى دعوات الشرك والكفر على أنها اتباع للظن، ووقوع في شرك الوهم قال تعالى: “وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ[3].
–سلطة العقل الجمعي: كثير من الأكثريات والكتل البشرية، التي تجمعها وحدة الموقف، لا تستند إلى بصيرة وتفكر واستدلال، فالكثير يفكر بإيحاءات من تأثير المجموع عليه، فلفظ “الملأ” الذي ورد في القرآن تسعة عشر مرة، جاء أغلبه ليوضح سطوة ونفوذ وهيبة الجماعة على صناعة الفرد لرأيه ومواقفه، لذلك ناشد القرآن المؤمنين أن يتحرروا من أسر هذا العقل الجمعي، قال تعالى:” قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ”[4].
–سلطة الماضي والآباء: يرفض القرآن الخضوع لسلطة وخيارات الآباء والأجداد والسابقين، ويرفض أن ينسحق المرء أمام الأسلاف، قال تعالى: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ”[5].
–التبعية للسادة والكبراء: وهؤلاء يشبهون الأصنام، لكنها حية، وهم قادرون على الحيلولة دون التفكير الحر والنقدي والاختيار المسؤول للناس، قال تعالى:” وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا”[6].