لو أخرج أغنياء المسلمين زكاتهم ما بقي فقير واحد، ولو أخرج أغنياء بلدنا زكاتهم ما بقي فقير في البلد، ولو أخرج خمسة من أغنياء بلدنا زكاتهم ووصلت لمستحقيها ما بقي فقير في بلدنا، هل حقا إخراج الزكاة هي الوسيلة الوحيدة لكسب المال ولانتقال الناس من الفقر إلى حد الكفاف على الأقل؟ وهل المجتمع المسلم ينقسم إلى دافع للزكاة ومستقبل لها ولا ثالث لهما؟ أم هنالك وسائل أخرى شرعها الإسلام للكسب الحلال وندب إليها، ورتب الحكم عليها؟
يسلك الإسلام في سبيل تحقيق الغنى عن الناس وسائل عدة منها:
1. غرس العزة في النفوس، فلله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ومن معاني العزة أن تكون يد المسلم هي اليد العليا لأنها خير من اليد السفلى واليد العليا هي المعطية وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى خير الصدقة ما خرج من غني له مال يسند ظهره عليه وقت المشاكل الاقتصادية
2. سعى إلى تقبيح المسألة عندما بين آثارها السيئة على وجه السائل يوم القيامة ، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله ﷺ «من سأل وله ما يغنيه، جاءت يوم القيامة خُمُوشٌ، أَوْ خُدُوشٌ، أَوْ كُدُوحٌ في وجهه»، فقال: يا رسول الله، وما الغنى؟، قال: «خمسون درهما، أو قيمتها من الذهب»[1]، وقد بين النبي ﷺ عقاب من يطلب من الناس مساعدة وهو يملك ما يعادل 148.75جراما ذهبيا بأن وجهه يأتي يوم القيامة مشوها به آثار من الضرب.
3. الحث على العمل، ذاك النشاط الإنساني الذي يترتب عليه ثمرة فكرية أو عملية من خلال التعامل مع الثروات الموجودة وتحويلها إلى سلع يحتاج الناس إليها والأنشطة التي تخدم هذه الحركة الحياتية من نقل وتسويق وتجارة ومصانع وإدارة وغير ذلك، وقد جاء الحث مستمر على العمل في قوله تعالى { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة: 7-8] مع اتساع مفهوم الخير ليشمل كل ما يرضي الله وينفع الناس ويعمر الأرض، وينظر الإسلام إلى كل عمل يتصف بهذه المواصفات نظرة تقدير واحترام ويرى أن العمل الشاق سبب لمغفرة الذنوب، ويروى عن عائشة رضي الله عنه قال (من بات كالا [مرهقا] من عمل الحلال بات والله عنه راضٍ، وأصبح مغفورًا له)[2] خلافا لبعض المجتمعات التي تنظر إلى بعض الأعمال نظرة احتقار.
ومن الأسف أن الأعمال التي نحتقرها وننتقص من شأن أصحابها هي أعمال بها قوام الحياة، ولا يمكن الاستغناء عنها ولا عن من يقومون بها، وفي المجتمع الإسلامي تقدير لأصحاب الأعمال بحسب ما يقدمونه للمجتمع. والفوائد التي تعود على الفرد والمجتمع من العمل كثيرة منها النفسي ومنها العقلي والمهاري والمالي ويكفي أن العمل يصرف الطاقات في النافع المفيد ويبعدها عن الفراغ الذي يستجلب وساوس الشياطين والأفكار الرديئة.
4. الاستفادة من الموارد المتاحة في سبيل توفير عمل، فقد جاء رجل إلى النبي ﷺ يطلب منه المساعدة فسأله ﷺ هل يملك شيئا في بيته، فسرد الرجل قائمة ممتلكاته التي كانت قطعة قماش من أردء الأنواع يلبسون بعضها ويجعلون من بعضها فراشا على الأرض، وإناء يشربون فيه، ثم طلب النبي ﷺ من الرجل أن يحضرهما وباعهما في مزاد بدرهمين، وطلب منه النبي ﷺ أن يشتري بدرهم طعام وبالآخر قدوم يقطع به الأشجار ليجمع الحطب – وكان ذلك مادة الوقود عندهم – ، وأمره كذلك ألا يعود إلى مجلس النبي ﷺ إلا بعد خمسة عشر يوما[3].
وكانت ثمرة هذه العمل خلال هذه الأيام عشرة دراهم مباركة جاءت نتيجة لعمل شاق وقبلها تدبير حكيم من النبي ﷺ إذ لفت نظره وانظارنا معه إلى استثمار الموارد المتاحة في العمل مهما كانت قليلة.
وقد قبح الإسلام الفراغ أو اللهو والحركة التي ليس من ورائها طائل، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني لأكره أن أرى الرجل سبهللا لا هو في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة يمضي وقته ويبذل جهد دون أن يعود ذلك عليه بالخير في الدنيا والآخرة.
وقدر الإسلام العمل وكسب المال، وسماه الله تعالى في كتابه الكريم ابتغاء من فضل الله { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] فأي تشريف للعمل أعظم من ذلك ووضع من يكسب المال عن طريق التجارة مع أصحاب الدرجات العلا في الجنة،عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ” وحث على العمل بالزراعة مهما كان هذا العمل قليلا ،قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَزْرَعُ زَرْعًا، أَوْ يَغْرِسُ غَرْسًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ “. وإن انضمام شخص إلى القوة العاملة يعني زيادة في الدخل القومي وتقليل نسب البطالة وحركة اقتصادية ينتج عنها أرباح للجميع.
5. اعتبار الغنى نعمة، فمما عدده الله تعالى من نعم وهبها للنبي ﷺ نعمة الغنى فقال سبحانه {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى } [الضحى: 8] ومنها الوعد بالأجر الجزيل للمنفقين فقد جهز عثمان بن عفان رضي الله عنه جيش العسرة بألف دينار فقال النبي ﷺ مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ”.
وجاء الحث على الغنى فقد قال النبي ﷺ لمن أراد أن يتصدق بماله كله:” إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ” أي: ان تتركهم أغنياء خير من أن تتركهم يمدون أيديهم إلى الناس لأنك لم تترك لهم شيئا ولا يجدون ما يعيشون به.
كما حث على الطموح ولنا في نبي الله سليمان خير مثال حين قال { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [ص: 35] ومدح الغنى بل جعل صاحبه بأفضل المنازل إذا اجتمع المال مع العلم وقام المسلم في ماله بحق ربه وحق نفسه وحقوق الناس قَالَ ﷺ :” إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ”
6. وجعل أحد أسباب الغنى الاقتصاد، ولذلك قيل: ما عال من اقتصد، الذي يسير في ماله سيرا وسطا لا يسرف ولا يقتر لا يدركه الفقر.
7. دلنا الله سبحانه وتعالى على تسخير النعم الموجودة في الكون، وفي ذلك إذن بالانتفاع بما فيها وتحويل هذه النعم إلى عوائد مالية {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل: 14]
8. وجعل أحد ثمرات الاستغفار وهو عبادة تؤدي إلى رضوان الله تعالى إعطاء المال {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح].
9. قبح الإسلام الفقر فجعله قرين الكفر واستعاذ النبي ﷺ منهما جميعا، فقال: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر
10. ما من شخص إلا ويستطيع تقديم شيئ ما يحصل من خلاله على أجر قد يوصله حد الكفاف أو يقلل من حاجته للناس، وعندما يقوم هذا الشخص بما يجب عليه من عمل يلائم قدراته، ويسعى إلى تطويرها بمعونة المجتمع يجب على المجتمع أن يمد له يد المساعدة ليكمل ما نقص من احتياجاته.
قد تجد من يكثرون الحديث عن الحظ العاثر وقلة الفرص وخيبة الأمل، وربما استخفى هؤلاء وراء الدموع التي يذرفونها أو وقفوا عند محطات الفشل، لكن طبيعة الحياة وطبيعة الإنسان السوي أنه لا يستسلم للفشل، بل كلما رأى بابا مغلقا حاول فتحه، فإن عجز بحث عن باب آخر وثالث ورابع حتى يأذن الله تعالى بالفرج.
أَخلِقْ بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
إذا كانت الزكاة أحد الموارد المهمة في سد حاجات الفقراء فإنها ليست المورد الأول ولا الأخير، بل يجب على المجتمعات أن تتعاون لفتح آفاق العمل، وتوفير فرصه، ويجب على الأغنياء أن يعينوا أقاربهم، ويتكفلوا بنفقات من عجز منهم عن توفير النفقة، إما لعجز صحي او ضيق ذات اليد وكثرة متطلبات الحياة، كما يجب على الدولة أن تعزز من برامج الدعم وتوفير فرص العمل ورعاية الفئات الأشد احتياجا .
[1] سنن أبى داود، كتاب الزكاة (1626) والترمذي في أبواب الزكاة (650)، قال الترمذي هذا الحديث حسن، وأما الألباني فقد صححه في الصحيحة.
[2] وذكره ابن عساكر مرفوعا إلى الرسول ﷺ عن أنس بلفظ: من بات كالا من طلب الحلال بات مغفورا له، وإسناده ضعيف. ويؤخذ معنى الحث على العمل والاكل من ذات اليد، وكراهة السؤال من قوله ﷺ: (ما أكل أحد طعاما قط، خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده). أخرجه البخاري .
[3] والحديث بكامله أخرجه الترمذي (1218)، وأبو داود (1641) واللفظ له، عن أنس بن مالك، أن رجلا من الأنصار أتى النبي ﷺ يسأله، فقال: «أما في بيتك شيء؟» قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء، قال: «ائتني بهما»، قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله ﷺ بيده، وقال: «من يشتري هذين؟» قال رجل: أنا، آخذهما بدرهم، قال: «من يزيد على درهم مرتين، أو ثلاثا»، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال: «اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما فأتني به،»، فأتاه به، فشد فيه رسول الله ﷺ عودا بيده، ثم قال له: «اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما»، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا، وببعضها طعاما، فقال رسول الله ﷺ: ” هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع “. وقد حسن الترمذي هذا الحديث لأنه من قبيل رواية المشاهير.