في كتاب “الجيل الأخير”(1): النشاط البيئي في العالم الإسلامي يمنع التغير المناخي والانقراض الإيكولوجي” يحاول الكاتب “فخر الدين م.مانغونجايا” Fachruddin M Mangunjaya الإكاديمي الإندونيسي، ورئيس مركز الدراسات الإسلامية في الجامعة الوطنية، بجاكرتا، أن يصوغ نظرية معرفية إسلامية لعلاج لمشكلات البيئة، وفي مقدمتها الانحباس الحراري، تكشف عن رؤية الإسلام للحفاظ على البيئة في ظل تهديدات التغير المناخي لكوكب الأرض.
أزمة البيئة
ربما يعود التدهور البيئي إلى زياة تدخل الإنسان غير الواعي في البيئة، مما يفقدها التوازن والانسجام، فالتغير المناخي نتاج لزيادة الاحترار العالمي، فتلوث الغلاف الجوي ناتج عن احتباس الغازات الدفيئة الستة (ثاني أكسيد الكربون، والميثان، وأكسيد النيتريك، والغازات المشبعة بالفلور، وسادس فلوريد الكبريت) لكن ثاني أكسيد الكربون يحتل الحصة الأكبر في الغازات التي تسبب الانحباس الحراري، إذ تبلغ نسبته 75% من تلك الغازات.
ويؤكد مانغونجايا في كتاب “الجيل الأخير” أن انبعاث تلك الغازات يؤدي إلى فقدان التوازن الطبيعي بما يؤثر على الأحياء والنباتات، فمنذ الثورة الصناعية في القرنين الـ17 و18 الميلاديين، تسبب التقدم الصناعي في نمو الاقتصاد الرأسمالي الذي استنزف الموارد بصورة أضرت البيئة، ومع نشاط حركة التصنيع زاد انبعاث الغازت، وأعربت دراسات للبنك الدولي عن قلقها أن يرفع التغير المناخي درجات الحرارة بمقدار 4 درجات، وهذا الارتفاع له تأثيرات بيئية مخيفة على المدن الساحلية، وعلى إنتاج الغذاء، ويتسبب في احتمالية حدوث الجفاف والفيضانات، وتزايد الأعاصير والعواصف وارتفاع أمواج البحر وسقوط الأمطار في غير مواسمها.
ويقول مانغونجايا في كتاب “الجيل الأخير” أن التقديرات تشير أن حرارة الأرض إزدادت بمقدار 1.1 درجة عما كانت عليه في عصر ما قبل الثورة الصناعية، وسيستمر على الأرجح هذا الارتفاع في درجات الحرارة، وتشير تقديرات أن التمدد الحراري تسبب في ارتفاع منسوب سطح البحر بمقدار 112 مم منذ العام 1970، ويعود ذلك إلى ذوبان الجليد في القطبين.
يؤثر التغير المناخي على أغلب دول العالم، ويعيق النمو الاقتصادي، ويؤثر على الحياة سلبا، فمثلا حرائق الغابات دمرت في أستراليا في سبتمبر 2019 حوالي 11 مليون هتكار من الأراضي.
يؤكد المفكر البيئي الأمريكي موراي بوكشين Murray Bookchin أن” جميع مشاكلنا البيئية الحالية تقريبًا تنشأ من مشاكل اجتماعية عميقة الجذور، ويترتب على هذا الرأي أن هذه المشاكل البيئية لا يمكن فهمها، ناهيك عن حلها، دون فهم دقيق لمجتمعنا القائم واللاعقلانية التي تهيمن عليه”.
والاختلالات البيئية المعاصرة تعود في أغلبها إلى فصل العلم عن مباديء الدين، فالدين يلزم الإنسان بمباديء تحمي البيئة وتحافظ عليها، والعلم والتكنولوجيا عندما ينفصلان عن الدين، تكون حركة الإنسان في الكون قائمة على اللذة والمنفعة، مع تجاهل العاقبة، وذهنية الثورة الصناعية تقوم على الاستغلال الشره للموارد على الأرض، ويرى المفكر “السيد حسن نصر” أن الطبيعة فقدت قدسيتها في نظر الإنسان المعاصر، بعدما أصبحت الطبيعة وسيلة للاستمتاع واللذة بحدودها القصوى، دون أي إحساس بالالتزام والمسئولية تجاه الطبيعة، فلم تعد الطبيعة مقدسة في منظور الانسان المعاصر، ولم تعد تجسد الآيات التي خلقها الله، ولكن بات يُنظر إليها كمجال للاستغلال غير المسئول، فمن أجل الأرباح والرفاه القصير تبرر الرأسمالية استنزاف الموارد، وهو ما قضى على التناغم بين الإنسان والطبيعة.
و يشرح مؤلف كتاب “الجيل الأخير” النظام الإيكولوجي (2) ويقول أنه يدعم العلاقات المتبادلة بين الكائنات الحية وبيئتها، فلكل كائن حي دور، حتى الطيور والقرود والخفافيش تقوم بمهام في حفظ البيئة من تلقيح ونثر للبذور، فتساهم في بناء طبيعة متوازنة، ولذلك فالتنوع على الأرض ضروري لاستمرار الحياة، فهو نعمة يجب الحفاظ عليها، والقضاء عليها، يعني تغييب وظائف مهمة في دورة الحياة قد لا يفهم البشر مغزاها، مثل: النباتات البرية التي يقضي عليها الإنسان، وبعضها ذو أهمية علاجية وطبية، فقد اكتشف المعهد الوطني للسرطان في الولايات المتحدة أن أكثر من ثلثي الأدوية التي ثبتت خصائصها المكافحة للسرطان تأتي من الغابات المطيرة، وتستخدم بعض مستخرجاتها لعلاج الكثير من الأمراض المستعصية.
نحو نظرية معرفية للبيئة
التغير المناخي ظاهرة بيئية معاصرة، لم يتنبأ بها الفقه القديم، ورغم ذلك فالتحديات البيئة المعاصرة ذات ارتباط وثيق بالرؤية الإسلامية للكون، فالأضرار البيئة ما هي إلا أحد أشكال الفساد والإفساد للكون والطبيعة، فالله سبحانه وتعالى، خلق توازنا في الأرض، وأي تلاعب أو إضرار بهذا التوازن، ينعكس سلبا على البيئة، في أضرار يمتد تأثيرها إلى الإنسان نفسه.
الرؤية الإسلامية تذهب أن الله سبحانه وتعالى، عندما سخر الأرض للإنسان، أمره بتأهيلها أو إعمارها وفق منهج السماء، وتتجلى التعاليم الإسلامية المتعلقة بالطبيعة من خلال المباديء الأربعة: التوحيد، والخلافة، والميزان، والفطرة، فالتوحيد يكشف عن حالة الانسجام والتناغم بين الخالق سبحانه وتعالى، وبين القوانين الكونية التي وضعها، والتي أوجدت إنسجاما في الكون، وهناك الكثير من الآيات التي تؤكد هذا الانسجام، فالجميع يسبح لله (3)، ولكن الانسان يغفل عن هذا التسبيح، كذلك تؤكد الرؤية التوحيدية أن الكون لم يوجد بشكل مستقل، وهذه الرؤية تفرض على البشر أن يحترموا الطبيعة والكون، وألا يسعوا إلى استنزافها أو تدميرها، وألا ينظروا إليها كوسيلة لاشباع لذاتهم، وذلك حتى لا يضطرب التوازن، أو “الميزان” بالمفهوم القرآني.
والانسان وفق الرؤية القرآنية هو خليفة في هذه الأرض وليس مالكا لها، وعلى الخليفة أن يقوم بواجباته، مثل تلبية احتياج الأرض الصالح للزراعة في المكان المناسب وفي الوقت المناسب والزراعات النافعة، والعلم وحده لا يحمي الإنسان من الهبوط، ولكن لابد من القيم الدينية والأخلاق، فالقيم الأخلاقية والدينية تضبط المواقف البشرية السلبية تجاه الكون والطبيعة، نظرا لأن خلافة الإنسان في الأرض هي مسئولية في أن يعتني بالأرض ولا يُفسد فيها، وجزء من المسئولية أن يتصرف الإنسان وفق معرفة وليس انطلاقا من الأهواء، فالجشع يقود إلى كوارث واستنزاف للموارد؛ بل ربما يؤدي إلى انقراض سلالات نبايتة وحيوانية.
وأمام هذا التحدي تأتي المعرفة والأخلاق لتشيد هذا التوازن أو الميزان، فالقرآن أمرنا ألا نطغى في الميزان قال تعالى “والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان” فهناك ميزان يحقق الانسجام في الكون.
والدين يلزم المؤمنين بالتقوى، وأن يمارسوا الاحسان في حياتهم، ومن الإحسان رعاية البيئة، ويوفر القرآن الكريم مادة توجيهية في حماية البيئة، وتتماهي الأوامر والإرشادات الدينية في الاعتناء بالأرض وما عليها مع أهداف الناشطين البيئيين، في عدم التبذير، وعدم الإسراف واستنزاف الموارد، حتى وصف البعض الإسلام بأنه دين البيئة، فالطاهرة للصلاة والتعبد لا بد أن تأتي من ماء نظيف وطاهر، وهو ما يفرض على المسلم عدم تلويث المياه.
ويؤكد كتاب “الجيل الأخير” على دور الدين في الحد من التغير المناخي، فهو يعالج المشكلة بشكل جذري، من خلال أخلاقه وآدابه في عدم الاسراف والحرص على الطهارة، ورفض تلويث الأرض والمياه، فالدين محفز للسلوك تذكر بعض الدراسات أن في القرآن حوالي (1108) آية تتحدث عن الكون بما فيه من ماء ونار وشمس وقمر وأرض ونجوم وذرة، وفي كتابه “الجواهر في تفسير القرآن” يذكر الشيخ طنطاوي جوهري أن في القرآن (750) آية تتحدث عن الكون، في حين هناك (150) آية تتحدث عن الفقه، ومن ثم فالقرآن قوة جبارة في حماية البيئة.
1- الكتاب صادر في يونيو 2021 في 164 صفحة باللغتين الانجليزية والعربية، عن مركز الدراسات الاسلامية التابع للجامعة الوطنية الإندونيسية PPI ويتكون من ستة فصول، منها: نظرية المعرفة الإسلامية والتنمية المستدامة، وعلم البيئة والمناح من منظور إسلامي، والرؤية الإسلامية لأزمة المناخ.
2- الإيكولوجيا أو علم البيئة Ecologyهو العلم الذي يهتم بدراسة العلاقة بين الكائنات الحية – بما فيها البشر- وبين بيئتهم المادية، ويسعى إلى فهم الروابط الحيوية التي تربط بين النباتات والحيوانات وبين البيئة من حولهم. كما يوفر علم الإيكولوجيا أيضًا المعلومات الكاملة حول فوائد النظم البيئية، وكيف يمكن للبشر استغلال موارد الأرض بطرق تجعل البيئة صالحة للعيش بالنسبة للأجيال القادمة.
3- جاء في السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه سلم نهى عن قتل الضفادع، قائلا: “نقيقها تسبيح”