أصدر الدكتور خالد راتب، الباحث في الشئون الإسلامية بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، والأستاذ المساعد بالجامعة الإسلامية بمِنيسوتا، كتابًا جديدًا تناول فيه قضية الميراث بين نظام الإسلام وغيره، تحت عنوان: (دلائل إعجاز التشريع الإسلامي في الميراث.. مقارنة بالنظم والتشريعات قديمًا وحديثًا).
وأوضح د. خالد راتب ن الإعجاز هو ما يتعذر على الثقلين (الإنس والجان) الإتيان بمثله نظمًا وبيانًا وتشريعًا، وقصورهم عن ذلك قصورًا أبديًّا، قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88). وأن أوجه إعجاز القرآن الكريم والسنة المطهرة، قد تعددت وتنوعت؛ فهناك الإعجاز البياني، والعلمي، والغيبي، والنفسي، والتشريعي.
وقد اهتم د. خالد راتب في كتابه الجديد بالتركيز على الإعجاز التشريعي في الإسلام، من خلال تناول دلائل إعجاز التشريع الإسلامي في الميراث، بالمقارنة مع النظم والتشريعات قديما وحديثا.
وبيَّن أن علم المواريث من العلوم المهمة في التشريع الإسلامي، وله مكانته العالية ومرتبته الرفيعة؛ لارتباطه بقضية مهمة تتعلق بحياة البشر جميعا ألا وهي قضية المال، فالمال هو عصب الحياة يحبه بعض الناس حبا جما، وتهفو إليه نفوسهم وترنو إليه أبصارهم وقد وصف الله ذلك بقوله تعالى: { وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (الفجر: 20)، وهو زينة الحياة الدنيا، قال تعالى: { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 46)؛ لذا يكون التفصيل والدقة في مسائل الإرث وسيلة لوقف زحف الطامعين، وضمان أخذ حق المستضعفين وحقن الدماء ودفع النزاعات والخصومات.. وذلك من خلال معرفة أن أحكام الإرث وما يتعلق بتوزيعه هي من عند الله سبحانه فلا يطمع أحد في مال أخيه الوارث، فلكل منهم حقه ونصيبه الذي قرره الحكيم العليم من قبل الشرع.
فصول الكتاب
وقد جاء الكتاب في فصلين وعدة مباحث ومطالب؛ تناول الفصل الأول: نظام الإرث في التشريعات والنظم القديمة والحديثة وفي الإسلام؛ وذلك من خلال بيان أحوال الميراث قبل الإسلام وفي النظم والتشريعات الحديثة. وتناوُل أحكام الميراث وكيفية توزيع التركة في الإسلام بين التنظير والتطبيق.. إضافة إلى مقارنة بين نظام الإرث في التشريعات والنظم القديمة والحديثة والإسلام.
وأما الفصل الثاني: دلائل الإعجاز التشريعي في الميراث في ضوء القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ فقد اشتمل على سبعة مباحث:
- أوجه الإعجاز في القرآن الكريم والسنة المطهرة.
- الإعجاز التشريعي في الإسلام: تعريفه، أهميته وفوائده، ضوابطه، خصائصه.
- آيات وأحاديث الميراث موضع الإعجاز التشريعي
- أوجه إعجاز التشريعي الإسلامي في الميراث.
- مقاصد الميراث في الإسلام ودلائل الإعجاز.
- الميراث في الإسلام وتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية
- الإعجاز التشريعي في ميراث المرأة من خلال قوله تعالى: { للذكر مثل حظ الاثنين } (النساء : 11).
نتائج الدراسة
وقد انتهى د. خالد راتب من دراسته لنظام الميراث في الإسلام مقارنةً بغيره من النظم والتشريعات قديمًا وحديثًا، إلى عدة نتائج؛ أهمها:
- الميراث في الإسلام نظام رباني، تجلى في تكفل الله تعالى بتحديد الورثة وأنصبتهم وشروط استحقاقهم لها.
- أحكام الإرث ترتبط مباشرة بحياة الأفراد والمجتمعات، فمعظم فئات المجتمع – سواء أكانوا أفرادًا (رجالا أم نساء أم أطفالا) أم جماعات أم مؤسسات …تكون عرضة للتعامل مع تلك الأحكام.
- ألغى الإسلام كل النظم الاستبدادية، وسن أحكام الإرث؛ ليضمن للضعيف حقه ويحفظ له كرامته ويساوي بينه وبين القوي، وبين الكبير والصغير، وبين الرجل والمرأة، فلكل واحد منهم نصيبا مفروضا وحقا محددا.
- يشكل الإرث في الإسلام ثروة وموردا لا يستهان بها، ويتطلب ذلك ضرورة تنظيم الأموال المورثة وتقويمها والمحاسبة عليها باستخدام نظام محاسبي يتلاءم ومتطلبات أحكام الإرث.
أوجه الإعجاز التشريعي
وفيما يتصل بأوجه الإعجاز التشريعي في أحكام المواريث في الإسلام، أوضح د. خالد راتب أن هذه الأوجه قد تعدد من حيث:
- ورود آيات المواريث وترتيبها.
- التمهيد العام لأحكام المواريث قبل التعرض للأحكام نفسها.
- مجيء أحكام المواريث في سورة النساء.
- ربط أحكام المواريث بالجانب الروحي والأخلاقي.
- الجمع بين الشمول والإيجاز والدقة.
- مجيء قواعد الميراث قبل أحكامه وربط القواعد الكلية للميراث بالأحكام التفصيلية.
- آيات المواريث جاءت محكمة لا اجتهاد فيها إلا في أضيق الحدود.
- أحكام المواريث جاءت تساير الفطرة الإسلامية وتتلاءم معها.
- تدرج الإسلام في أحكام المواريث؛ نظرا لظهوره في بيئة مجحفة تقوم على هضم حقوق الضعفاء والأطفال والنساء ؛لذا بدأ الإسلام أول ما بدأ بتقرير حق توريث تلك الفئات المستضعفة وإثبات أحقيتها في الميراث سواء أكان كثيرا أم قليلا.
- تقديم الوصية على الدين في النظم القرآني- مع أن الدين فرض، والوصية مستحبة- هو تنبيه الناس وحثهم على تنفيذ الوصايا، خشية أن يتهاونوا في أدائها من تركة مورثهم، بوصفها نوعا من التبرعات في الأصل.
- امتداد تصرف المورث حتى بعد موته في حدود الثلث، ويظهر ذلك في الوصية المستحبة، ولكن هذا التصرف في الوصية المستحبة جعل الشارع لها شروطا وضوابط؛ حتى لا يترك مطلق التصرف للموصي في المال حتى ولو أضر بالآخرين، فأحكم الشرع أمر الوصية وجعل شروطا في الموصي، والموصي له، والموصي به.
كما بيَّن د. خالد راتب أن أحكام المواريث قد راعت المقاصد الشرعية؛ من حيث:
أولًا: الحفاظ على تدين العباد، من خلال:
- الأوامر والنواهي الخاصة بأحكام الميراث، ووضع المعايير المحكمة في توزيع التركة، وجعل هذه المعايير فريضة متبعة يجب الالتزام بها، واجتناب كل أمر يضيع تحقيق هذه الفريضة.
- تأكيده أن الأحكام الخاصة بالميراث تعد حدودا يحرم على الإنسان أن يتعداها، فهي غير قابلة للاجتهاد- في مجملها- لذا عقّب سبحانه بعد ذكر أصحاب الفروض ونصيب كل واحد منهم بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} (النساء : 13).
- يضاف لحب المال سيطرة النفس على الإنسان- إلا ما رحم ربي- مما يدفع كثيرا من الناس إلى حرمان كثير من حقهم في الميراث أو الوصية، فالميراث قطع على هؤلاء جميعا أن يتخوضوا في مال الناس بالباطل، ولم يتم ذلك إلا عن طريق التشريع الحكيم في مسائل الميراث.
ثانيًا: الحفاظ على النفس في نظام التوريث، وذلك عن طريق:
- إعطاء كل واحد نصيبه من الميراث .
- الحفاظ على الدماء المعصومة، فقد منعت الشريعة بل حرمت توريث القاتل الذي يهدر بنيان النفس البشرية من أجل المال والحصول على إرث المقتول .
- كما أن نظام الميراث فيه حماية لحقين من حقوق الإنسان؛ هما: الحق في الحياة، والحق في التملك.
- والميراث كذلك يحافظ على النسل، فعندما يعلم القاتل أنه يمنع من الإرث فإن ذلك يمنعه من القتل، وذلك فيه حفاظ على النسل.
ثالثًا: الميراث وحفظ العرض وماء الوجه:
فما يتركه الميت لورثته يحفظ لهم عرضهم وماء وجههم، فلا يسألون أحدًا ولا يبيعون دينهم بعرض من الدنيا قليل، من أجل ذلك بيَّن ﷺ أن الخير أن تترك لورثتك مالا ينفقون منه بدلا من ذل السؤال.
رابعًا: الميراث وحفظ العقل:
فمسائل الميراث مبنية على الشرع والعقل، فلا يستطيع العالم أن يوزع التركة من خلال النصوص فقط؛ فتوزيع التركات وما يترتب عليها من حسابات وتصحيح بعض المسائل.. إلى غير ذلك، ينمي الملكة العقلية ويجعلها في يقظة، كما أن تشريعات الميراث فيها تربية عقلية، فالشخص الذي يتلقى أحكام الميراث قد تتشكل عقليته وعواطفه على حب أسرته الضيقة وحدها والانغلاق على مصالحها وحدها.
خامسًا: الميراث والحفاظ على المال:
فنظام الميراث في الشريعة الإسلامية يحافظ على المال الذي هو نعمة من الله، ولكن إذا تم ذلك وفق الضوابط الشرعية، ويظهر هذا الحفظ من خلال:
- تداول المال بين الورثة وتوزيعه على أكبر فئة؛ لتوسيع دائرة الانتفاع، مما يجعل المال يفيض بين الورثة.
- الحفاظ على ميراث اليتيم القاصر، فأحكام الميراث تمنع اليتيم القاصر من التصرف في ميراثه، خوفا من تضييعه نتيجة عدم الرشد العقلي، وقلة التجربة، قال تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْدًا فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } (النساء: 6).
- ومن وسائل حفظ أحكام الميراث للمال: احترام الملكية الخاصة، وقد ظهر احترام الملكية الخاصة جليا في: الموازنة بين حق المورث وحق الورثة، حيث قررت الشريعة حق الملكية الفردية.