يهتم كتاب “كيف ربى المسلمون أبنائهم؟..”.. رحلة في تاريخ التربية الإسلامية” للكاتب المصري محمد شعبان أيوب، بالتطور الحضاري لتاريخ التربية الإسلامية، ويُعنى بالظاهر الحضارية التاريخية في ظل النسق الإسلامي، وكيف طورت الحضارة الإسلامية مفاهيم التربية محاضنها ومعاهدها بمواءمة جديرة بالإعجاب والتقدير.
محمد شعبان أيوب باحث في التاريخ والتراث والحضارة الإسلامية، مؤلف وكاتب صحفي، وباحث ماجستير في التاريخ الإسلامي، عمل بمركز الحضارة للدراسات التاريخية، ويكتب في عدد من المواقع والمجلات. وبالإضافة إلى كتابه “كيف ربى المسلمون أبنائهم؟..”..” لمحمد شعبان عدد من المؤلفات مثل: “دولة المماليك”و”رحلة الخلافة العباسية” وبيري ريس أمير البحر والحرب، وهو بصدد إخراج عدد من الأعمال الأخرى. وفي كتابه “كيف ربى المسلمون أبناءهم..” يتجول بنا من عصر إلى عصر في أسلوب جميل ومحصن يكتشف مكامن العلم والتربية في تلك الأزمنة.
ليس وصفة سحرية للتربية
“كيف ربى المسلمون أبنائهم؟..”..” عبارة عن رحلة بدأت منذ عهد النبي ﷺ” انتهاء بعهد الأندلسيين والمغاربة، سرد للتاريخ الإجتماعي فيما يخص التربية في كل عهد منهم. والكتاب لا يضع للقارئ “وصفة” للتربية ليمشي عليها، فقد طاف بنا في عهود الإسلام المختلفة وتحدث عن الجزء الخاص بالتربية وتطور أشكال التعليم والتعلم بداية من حلقات المساجد مرورا بالكتاتيب والجامعات، ومع كل ذلك يذكر لنا بعضًا من سير أهل العلم رجالًا ونساء لندرك بحق كيف أنصف الإسلام المرأة وكيف أنها استغلت كل ما توفر لها كي تبدع وتتعلم بل وتتفوق لتكون في مصاف الشيوخ الذين لهم حلقات يحضرها علماء كثر.
على خطى العالم الألماني آدم متز
يقول المؤلف في مقدمة كتابه “كيف ربى المسلمون أبنائهم؟..”..” أن لكل كتاب باعث، وباعثُ كتابه هذا حينما قرأ كتاب العلامة الألماني آدم متز “الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري” فأعجب به بشيء من الدهشة، ووجد أن هذا العالم الألماني “أحاط مؤلفه بنواحي الحضارة الإسلامية من سكان ومال وإدارة وتجارة وعلم وفن وسياسة واجتماع، وكشف ببحثه عن نواحٍ غامضة أخذ يُعالجها في صبر وأناة حتى جلاّها، وكانت طريقة معالجته تكاد تقتصر على جمع النصوص الكثيرة المتعلقة بالموضوع من مصادر كثيرة متنوعة، من غير أن يُدخل شخصيته وآراءه في المسائل إلا في القليل النادر”.
يقول محمد شعبان” ..وقد تأثرتُ بهذا الأسلوب الجذاب المبهر، الذي يتميز بالجِدة والأصالة، والظُّرف والجمال، والأسلوب العلمي والمنهجي الرائع والراقي، فعاهدتُ نفسي أن أسير على دربه في مؤلَّف يسدُّ بعض الثغرات التي لاحظتُها في هذا الكتاب، وكانت أكبر ثغرة رأيتها إهماله للجانب التربوي في الحضارة الإسلامية، هذا الجانب الذي يُطالعه الباحثُ والمُنقّب في التاريخ والتراث الإسلامي فإذا به يجده عن يمينه وشماله وبين يديه، صارخًا مستصرخًا لهذا الباحث لكي يُخرجه من براثن الظلمات، وتيه المؤلفات، وبُعد الشُّقة بينه وبين القراء العاديين الذين لا يُطالعون مصادر التاريخ والتراث الإسلامي إلا عَرَضًا ونادرًا”.
ليس تنظيرا للتربية الإسلامية
وهكذا بدأت رحلة محمد شعبان في مسارات كتابه “كيف ربى المسلمون أبنائهم؟..”..” وكانت رحلة شاقة من البحث والتقصي عن المادة العلمية ووضع الهيكل الملائم للكتاب، والغوص في أعماق المصادر التاريخية التي –كما يقول الكاتب- “استمتعتُ بها كثيرًا كثيرًا”، حتى منّ الله عليه بإنهاء مشروعه وإتمام كتابه وإخراجه إلى العلن.
ويقل محمد شعبان عن كتابه، أنه “لا يُعنى بالاسقصاء المُغرِق، وجمع التفاصيل المملة، ولا يُشبه المؤلفات الأكاديمية الموضوعية التي يُتحرّى في كتابتها القواعد والأصول الصارمة، ثم هو لا يُنظّرُ للتربية الإسلامية”، ويضيف “كتابة أُبعدُ فيها نفسي عن التدخل والشرح إلا ما يستدعيه الموقف، لإفسح لعلمائنا ومؤرخينا وأدبائنا وفقهائنا المجال للحديث عن التربية التي عايشوها، والتأديب الذي لامسوه، ثم لحضارتنا التي لا زلنا نجهل كثيرًا من معالمها الغائصة في المصادر والمظانِّ، أو الشائهة في بعض المراجع التي لا تُسمن ولا تغني من جوع!”.
حالة خاصة من الكتابة الحضارية
يقول المؤلف محمد شعبان أن كتاب “كيف ربى المسلمون أبنائهم؟..” عبارة عن “حالة من الكتابة الحضارية التي لم تتقيد بقيد أو شرط”، كما يصفه بأنه “عملٌ أُفسح بالفعل المجال للكتابة الحضارية أن تتحدث وتقول ما تشاء فيه”، ويعترف ببعض الطول في بعض الاقتباسات التربوية أو التاريخية، معللا ذلك بأنه “مقصود لإجلاء الغبار عن المقصد التربوي المراد إجلائه وتبيانه”. ويطلب محمد شعبان من القارئ بأن “لا يندهش من المفهوم الرحب للتربية في الحضارة الإسلامية الذي طال كل ما يتعلق بالإنسان المسلم!”.
ويؤكد محمد شعبان أن رحلة الكتاب بدأت بالحديث عن أصالة التربية الإسلامية في العصر النبوي والراشدي وعرض فيه لبعض أقوال وأفعال النبي (ﷺ) وعلاقته بالأطفال والصبيان، ثم العصر الراشدي الذي يتضح للقارئ فيه التطور الحاصل في المفهوم التطبيقي التربوي سواء على المستوى الرسمي أم المستوى الشعبي والمجتمعي.
التربية من العصر النبوي إلى العصر الأندلسي
وقد أكد في هذا الفصل أن هذا العصر هو عصر الانطلاقة التربوية المنهجية والحضارية التطبيقية، وهو الأصل الذي ينهل منظّرو وعلماء والإسلام في كل زمن لاحق المفاهيم والمعاني التربوية التي جاء بها الإسلام.
ثم كان الفصل الثاني عن التربية في العصر الأموي، هذا العصر الذي يتسم بجانبه العربي القبلي ثم فتوحاته في الاتجاهات الأربع، وقد لاحظ الكاتب في هذا العصر ظهور معان ومصطلحات جديدة سواء في العملية التربوية التطبيقية أم المنهجية التنظيرية.
ثم جاء الفصل الثالث وهو بعنوان نضوج التربية في العصر العباسي، وبالفعل فقد نضجت التربية ووصلت للذروة في الفكر والتطبيق، وهو عصر إنشاء الجامعات والمدارس والمكاتب المتخصصة في التربية الإسلامية.
أما الفصل الرابع فجاء بعنوان “عظمة التربية في العصر المملوكي”، ويلمس القارئ العظمة التي توصلت إليها التربية الإسلامية في ذلك العصر على جميع المستويات، وأصبح العلم أصلاً واضحًا من أصول التربية الإسلامية، وأيضًا يتجلى في هذا العهد نوع جديد من أنواع التربية وهي التربية العسكرية التي أفردت الحديث لها.
وفي الفصل الخامس والأخير تناول الكاتب “سحر التربية في المغرب والأندلس” وهو أكبر فصول الكتاب، وذلك للروعة والإبهار والجمال والأصالة التي يلمسها القارئ للتربية في هذا العصر.
شواهد على تطور النظام التربوي
ويلقي الكاتب الضوء على جملة من الإضافات التي ظهرت معالمها في تلك الأزمنة، وكانت شاهدة على تطور النظام التربوي والتعليمي والتثقيفي، ظهور المدارس العامة والموقوفة، التي كانت بمثابة كليات وجامعات متخصصة في وقتها. فقد كانت مظاهر الحياة في عصر الخلافة العباسية مثلا آخذة نحو النضوج والظهور والاكتمال، بل والإضافة أيضًا في كافة ميادين الحياة، حتى كانت بغداد واسطة عقد الأرض، وعاصمة الحضارة الإنسانية في وقتها، واستمرت على ذلك عدة قرون لا يُنازعها منازع، ولا يجاريها مجارٍ، حتى بدأت تظهر في الأفق القاهرة وقرطبة وسمرقند ومراكش والقيروان وتونس، وغيرها من منارات العالم الإسلامي وقتها.
نظام وقفي ومدارس مجانية أهلية خيرية
لكن الرائع أن غالبية المدارس والجامعات في الحضارة الإسلامية كانت مدارس أهلية خيرية، يقوم بإنشائها الأمراء والأغنياء، وحتى أصحاب المكانة الاجتماعية المتوسطة رغبةً في الخير والبر، وكان يُنفق من خلالها على طلاب العلم من كل حدب وصوب. فالنظام الوقفي الرائع الذي يُعَدُّ إضافة كبرى من إضافات الحضارة الإسلامية – وهو (تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة) أي: حبس أصول الأموال الثابتة أو المنقولة والاستفادة من ريعها وأرباحها للإنفاق على هذه المؤسسات التربوية- كان أحد الحلول الاقتصادية والاجتماعية العبقرية التي سنها النبي ﷺ، وجاء بها التشريع الحكيم رحمة ورأفة وخدمة لأوليائه وأنصاره.
وانطلاقًا من هذا العمل الخيّر حرص كثير من الواقفين على وقف أموالهم وحبسها في إنشاء المؤسسات التعليمية وعلى رأسها المدارس، وهنا ظهر الإبداع، وانتشرت سوق العلم، وتسنمت الحضارة الإسلامية ذروة سامقة، ومكانة عالية فلم يتمتع طلاب العلم بهذا الخير العميم في أي أمة مثلما تمتع به أبناء الحضارة الإسلامية. فالمدارس منتشرة في أصقاع البلدان الإسلامية، وهي مدارس مجانية، بل كثير منها يُنفِق على الطلاب.
مدارس لا حصر لها
ويقول الكاتب محمد شعبان في كتابه “كيف ربى المسلمون أبنائهم؟..” أن محاولة استقصاء عدد هذه المدارس، أو كَمِّ تنوعاتها العلمية والإدارية أمر صعب للغاية، بل يُعجز الباحثين حقًّا، ويضرب الكاتب عدة أمثلة: فهذا أبو حاتم البستي محمد بن حبان (ت354هـ) عالم الحديث والرجال يقول عن وقفه أبو عبد الله الحاكم النيسابوري (ت404هـ) يقول: “إن داره وقفت مدرسة لأصحابه، ومسكنًا للغرباء التي يقيمون بها من أهل الحديث والمتفقهة”.
وأمثلة ابن حبان من العلماء الذين أوقفوا دورهم أو كتبهم ومؤلفاتهم، وحوَّلوها إلى مدارس للعلم والتربية يستفيد منها أبناء الأمة كثيرون، مثل أبي بكر البستي أحمد بن محمد (ت429هـ)، قال تقي الدين الصيرفيني عنه: “من كبار فقهاء أصحاب الشافعي، والمدرسين المناظرين بنيسابور، وكانت له المروة الظاهرة والثروة الوافرة، بنى لأهل العلم مدرسة على باب داره برأس سكة المسيب، ووقف عليها جملة من ماله، وهو معروف بأوقاف أبي بكر بشتيان. وهناك العلامة الخطيب البغدادي أحمد بن علي بن ثابت الذي “تصدَّق بجميع ماله، وهو مئتا دينار، فُرِّق ذلك على أصحاب الحديث والفقهاء والفقراء في مرضه، ووصى أن يُتَصَدَّق بجميع ما يخلفه من ثياب وغيرها، وأوقف جميع كتبه على المسلمين”.