هل يمكن للفتوى أن تتجدد دون أن تفقد جذورها؟ في قلب المجتمعات الأوروبية، تواجه المرأة المسلمة تحديات فقهية تضعها بين مطرقة النصوص وسندان السياق. وهذا ما يتصدى له كتاب ” كيف يفكر المفتون ؟ فقه المرأة في أوروبا الغربية”، الذي يقدم قراءة فريدة في تقاطعات الدين، الثقافة، والواقع المعاصر. الاهتمام المتزايد بقضايا الفتوى في الغرب يعكس تحوّلًا عميقًا في فهم الفقه الإسلامي.
كتاب”كيف يفكر المفتون؟ فقه المرأة في أوروبا الغربية” من تأليف الباحثة النرويجية المسلمة لينا لارسن، يستعرض بدقة كيف يتعامل المفتون في أوروبا مع أسئلة النساء المسلمات المتجذرة في سياقات ثقافية وقانونية مغايرة، مع التركيز على المجلس الأوروبي للإفتاء ودوره البارز. إنه أكثر من مجرد دراسة فقهية، إنه بحث عن توازن بين الانتماء الديني والعيش الكريم.
ماذا يناقش كتاب كيف يفكر المفتون ؟
يتناول هذا الكتاب دراسة معمقة في طبيعة الإفتاء المتعلق بقضايا المرأة المسلمة في أوروبا الغربية، حيث تمثل هذه القضايا واحدة من أكثر المسائل حساسية وإثارة للجدل في ظل التداخل المعقد بين القيم الإسلامية التقليدية والثقافة الأوروبية الحديثة. ألّفته الباحثة النرويجية لينا لارسن، وهي أستاذة تاريخ الأديان بجامعة أوسلو وواحدة من القلائل الذين جمعوا بين الخلفية الأكاديمية الغربية والانتماء إلى الدين الإسلامي بعد اعتناقها له. الكتاب ترجمه إلى العربية د. أحمد العدوي، وراجعه إسلام أحمد، وقد صدر عن مركز نهوض للدراسات والبحوث ضمن سلسلة اهتماماته بالفقه والدراسات الإسلامية المعاصرة.
مدخل إلى الإفتاء وقضايا المرأة
منذ بداية الكتاب، ترصد المؤلفة تزايد الحاجة في المجتمعات المسلمة، خاصة تلك المقيمة في أوروبا، إلى الإفتاء كوسيلة لفهم الحكم الشرعي في واقعٍ مغاير ومعقّد. وتوضح أن المسلمين في أوروبا يعيشون كأقليات، ويواجهون تحديات تفرض عليهم التفكير في العلاقة بين الفقه الإسلامي والقوانين الأوروبية، وخصوصًا في المسائل المتعلقة بالمرأة.
تتمثل الإشكالية المركزية في حالة الاضطراب التي تعيشها النساء المسلمات بين منظورين متناقضين: أحدهما يراهن تابعًا للرجل، في حين يُحمّلهن الآخر، المتأثر بالثقافة الأوروبية، تصورًا مساواتيًا قائمًا على الحقوق الفردية.
من فقه الأقليات إلى فقه الواقع
أحد أبرز محاور الكتاب هو عرض كيفية تفاعل المفتين، أفرادًا وهيئات، مع الأسئلة المطروحة من المسلمات. وقد أولت الكاتبة اهتمامًا خاصًا بدور المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في أيرلندا، كأحد أبرز الجهات الجماعية الفاعلة في الساحة الأوروبية.
المفتون الذين تناولتهم لارسن في دراستها لا يتعاملون مع الفتوى كمجرد نقل حرفي للأحكام، بل يأخذون بعين الاعتبار عنصري الزمان والمكان، ويستندون إلى فقه الأقليات، وهو فقه يستجيب لتحديات المسلمين في غير بلاد الإسلام.
كما تبرز المفارقة بين هؤلاء العلماء، وبين من يتشبثون بتفسيرات تقليدية دون مراعاة السياق الأوروبي. فالاجتهادات المتقدمة تنأى بنفسها عن التشنج والانغلاق، وتسعى لتطوير فقه إسلامي أوروبي يزاوج بين القيم الإسلامية وخصوصيات المجتمعات الغربية.
المرأة في مرمى الفتاوى: من الشعائر إلى الحياة اليومية
تشكل المرأة المسلمة المحور الرئيسي للكتاب، حيث ترتكز أغلب الأسئلة المطروحة على مشكلات تتعلق بالزواج والطلاق، وتقصير الشعر، ودخول المسجد، والإجهاض، وتأجير الأرحام، وشراء العقارات بالقروض الربوية، وبقاء المرأة في عصمة زوج غير مسلم بعد اعتناقها الإسلام.
وما يميز هذه الفتاوى هو أنها تكشف عن تمزّق داخلي تعيشه النساء المسلمات في الغرب، بين الولاء لقيم دينية يرونها جزءًا من هويتهم، وبين منظومة ثقافية ترفع شعارات المساواة الكاملة.
مقاصد الشريعة والأخلاق العامة
ينقل الكتاب النقاش إلى مستوى أعمق، عبر المقارنة بين نظرية مقاصد الشريعة، كما عرضها عدد من كبار العلماء مثل يوسف الـقرضاوي ومحمد خالد مسعود، وبين نظرية الأخلاق العامة الحديثة كما طوّرها الفيلسوف النرويجي كنوت إريك ترانوي.
تحاجج لارسن بأن هناك إمكانية للبحث عن لغة أخلاقية مشتركة بين القيم الإسلامية والأوروبية، استنادًا إلى مفاهيم مثل “العدالة” و”المصلحة” و”جودة الحياة”. وتخلص إلى أن ما يسميه ترانوي بـ”القيم الأخلاقية الحيوية” (كالحياة، والكرامة، والرعاية) يتقاطع كثيرًا مع ما يُعرف في الفقه الإسلامي بـ”الضروريات الخمس” في مقاصد الشريعة.
غير أن هذا التقاطع لا يعني تطابقًا تامًا، فالرؤى تتباين في تفسير القيم نفسها. فبينما يرى الـقرضاوي أن المصلحة يجب ألا تتعارض مع النصوص القطعية، يتبنى مسعود موقفًا أقرب إلى القول بأن المصلحة بناء اجتماعي يمكن أن يتغير.
الفتوى بوصفها خطابا أخلاقيا
يقدّم الكتاب تصورًا متقدمًا للفتوى باعتبارها نظامًا خطابيًا أخلاقيًا لا يعتمد على العقوبات، وإنما على قوة الحُجة والمرجعية. ولذلك، فإن للفتاوى دورًا في تحديد ما يُعتبر “العمل الصحيح”، رغم عدم وجود سلطة تنفيذية تجبر الناس على اتباعها.
وتمثل الفتاوى خطابًا معقدًا يتفاعل مع الجمهور المسلم وغير المسلم، مما يجعل من مهمّة المفتي معقّدة، فهو بحاجة لصياغة حكمه بطريقة قابلة للفهم والتقبّل في المجال العام الأوروبي.
خاتمة: نحو فقه أخلاقي تواصلي
في الفصل الختامي، تتساءل المؤلفة إن كان بالإمكان بناء أخلاقيات عامة إسلامية جديدة، تقوم على مقاصد الشريعة، وتكون متصالحة مع القيم الإنسانية الحديثة، دون التفريط بجوهر العقيدة. وتقرّ بأن تحقيق هذا الهدف ليس يسيرًا في ظل الخطاب الصاخب والمعارك حول الهوية والانتماء.
وتشير إلى أن الفتاوى التي يتناولها هذا الكتاب تُمثّل محاولات جادة لإيجاد صيغ توافقية جديدة، تحفظ الكرامة وتتيح للنساء المسلمات حياة أخلاقية أصيلة ومعاصرة في آنٍ واحد.
معلومات الكتاب
- العنوان : كيف يفكر المفتون؟ فقه المرأة في أوروبا الغربية
- المؤلف : لينا لارسن
- الناشر : مركز نهوض للدراسات والبحوث – الكويت 2023
- ترجمة : د. أحمد العدوي