على طالب العلم حقوقٌ واجبة تجاه أساتذته وشيوخه من التأدب في حضرتهم، وحسن الإنصات لهم، وتوقيرهم، وعدم الجدال معهم، والصبر على جفوة قد تصدر منهم… إلخ.

وعلى المشايخ والعلماء أن يصبروا على تلامذتهم، وأن يوسِّعوا صدورهم لهم، وأن يرفقوا بهم.

فهناك من المشايخ والعلماء من هو سريع الغضب على تلامذته، عنيف في ردوده عليهم، ولا يجهد نفسه في محاولة تعليمهم وإيصال المعلومة لهم، ولا يراعي الفروق بين عقول تلامذته ومستويات أفهامهم، فيخسر تلامذته واحدًا تلو الآخر.

وظني أن من هذا ديدنه فلن تكون له مدرسة تحمل سمات منهجه، وأن تأثيره يكون محدودًا؛ لانفضاض الطلاب من حوله مهما بلغ علمه.

وكانت كريمة القرشية على النقيض من هؤلاء العلماء؛ إذ إنها شهد لها كبار العلماء بصبرها على تلامذتها، ومدها حبال الصبر في إقرائهم وقراءتهم عليها.

الاسم والكنية

هي كريمة بنت أبي محمد عبد الوهاب بن علي بن الخضر بن عبد الله بن علي، القرشية، الأسدية، الزبيرية، الدمشقية.

وكنيتها أم الفضل.

فهي تنتمي إلى أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، والذي هو جد الزبير بن العوام بن خويلد ابن عمة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- صفية بنت عبد المطلب.

وتعرف ببنت الحبقبق([1]).

وقد حاولت الوقوف على معنى كلمة الحبقبق في زمانهم هذا فلم أقف على شيء في المعاجم أو كتب التراجم والتاريخ.

وإن كانت الكلمة الآن تحمل معنى التعجب الشديد في بلاد فلسطين، ومعنى الشذوذ الجنسي في الحجاز، وهو اسم لمرض معدٍ في الجزائر.

بنت المحدث العدل الأمين

والدها عالم كبير ومحدث جليل، نعته المؤرخون بنعوت تدل على علو كعبه في العلم؛ فالذهبي يقول: “كريمة بنت المحدث العدل”([2])، وفي موضع آخر يقول: “كريمة بنت المحدث العدل الأمين”([3]).

أما الصفدي فقد وصفه بقوله: “كريمة بنت المحدث العلامة الأمين”([4]).

فهو أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن الخضر بن عبد الله بن علي، القرشي، الأسدي، الزبيري، الدمشقي، الشروطي، ويعرف بالحبقبق.

نزيل بغداد.

وهو أخو القاضي الحافظ أبي المحاسن عمر بن علي القرشي، وأبو الشيختين كريمة وصفية.

مولده سنة خمس عشرة وخمسمائة.

سمع من: جمال الإسلام علي بن المسلم السلمي، وأبي الدر ياقوت الرومي التاجر، وأبي الفتح نصر الله بن محمد المصيصي، وأبي يعلى بن الحُبُوبيّ، وطائفة.

روى عنه: أخوه، وولداه علي وكريمة، وأبو المواهب بن صَصْرى، وأبو الحجاج يوسف بن خليل، وآخرون.

مات في ثالث صفر سنة تسعين وخمسمائة([5]).

وكانت عائلتها عائلة لها اهتمام خاص بالحديث وروايته؛ فقد “روى الحديث أخواها علي وصفية، وأبوها وعمها الحافظ عمر بن علي القرشي، وابنه عبد الله بن عمر”([6]).

تاريخ مولدها

ولدت كريمة القرشية في منتصف القرن السادس الهجري، وفي “تاريخ الإسلام” لم يعرف الذهبي عام مولدها على وجه اليقين فقال: “ولدت سنة خمس أو ست وأربعين وخمسمائة”([7])، وعلى نفس المنوال سار الصفدي([8]).

لكن الذهبي بعد ذلك في كتابه “سير أعلام النبلاء” قطع بعام مولدها فقال: “ولدت سنة ست وأربعين وخمسمائة”([9]).

الشيوخ

كانت كريمة القرشية ذات همّة عالية في التحصيل وطلب العلم، مما جعل الصفدي يقول عنها: إنها “روت شيئًا كثيرًا”([10])، وقال اليافعي: “”روت كثيرًا عن جماعة، وأجاز لها خلق كثير”([11]).

هذا إلى جانب أنها تفردت في الدنيا بالرواية عن بعض العلماء والمحدثين.

فقد روت عن الشيخ العفيف عبد الرحمن بن أبي نصر عثمان، وهي آخر من روى حديثه عاليًا، مثل: (مسند ابن عمر) لابن أمية، وحديث ابن أبي ثابت.

وروت عن مسند العصر أبي الفرج الثقفي الأصبهاني.

وسمعت أجزاء يسيرة من: أبي يعلى حمزة بن الحبوبي وكانت آخر من روى عنه، وعبد الرحمن بن أبي الحسن الداراني، وحسان بن تميم الزيات، وعلي بن مهدي الهلالي، وعلي بن أحمد الحرستاني -على مقال فيه، وتفردت في الدنيا بالرواية عنهم.

وروت بالإجازة عن مسند أصبهان ابن ماشاذه، وعن أبي محمد عبد الله الطامذي، وأبي عاصم الأصبهاني السويقي الصوفي.

وكذا روت بالإجازة (صحيح البخاري) عن أبي الوقت السجزي، وهي آخر من روى عنه بالإجازة.

وكانت آخر من روى بالإجازة عن ابن غبرة الهاشمي وأبي الخير محمد بن أحمد الباغبان، وأبي المعالي الصَّيْرَفيّ البغداديّ الخفّاف.

وروت -أيضًا- الكثير كتابة عن: مسعود الثقفي، وأبي عبد الله الرستمي، والقاسم بن الفضل الصيدلاني، ورجاء بن حامد المعداني، وعبد الحاكم بن ظفر، ومحمود فورجة، وأبي الفتح بن البطي، والشيخ عبد القادر الجيلي، وخلق سواهم([12]).

هذا العلم الواسع كانت ثمرته أن صارت كريمة القرشية مسندة الشام بلا منازع([13]).

التلاميذ

ذاع صيت كريمة القرشية في علم الحديث، فجاءها الطلاب لينهلوا من علمها الغزير، وكان من بين طلابها الذين أخذوا عنها حفاظ وأئمة، وقد عمّرت وطالت فترة تحديثها والتي بلغت نيفًا وأربعين سنة.

حدث عنها خلق كثير، منهم: الحافظ ضياء الدين المقدسي، والحافظ شمس الدين بن خليل، والحافظ زكي الدين البرزالي، وزكي الدين المنذري، وشرف الدين بن النابلسي، وجمال الدين بن الصابوني، وجمال الدين بن الظاهري، وعلاء الدين بن بلبان، وشمس الدين بن هامل، وخديجة بنت غنيمة، وخطيب كفر بطنا جمال الدين الدينوري، والشرف الناسخ عمر بن خواجا إمام، والصدر محمد بن حسن الأرموي، والقاضي الحنبلي، وفاطمة بنت سليمان الأنصاري، ومحمد بن يوسف الأربلي، وعيسى بن عبد الرحمن المطعم، وست القضاة بنت الشيرازي، وبنت عمها ست الفخر بنت عبد الرحمن بن الشيرازي، وأخوها زين الدين عبد الرحمن، وزين الدين عبد الله الفارقي، والتقي بن مؤمن، وداود بن حمزة، وأخوه القاضي تقي الدين، والزين إبراهيم بن القواس، والشرف عبد المنعم بن عساكر، والتاج علي بن أحمد الغرافي، وأبو المحاسن بن الخرقي، وأبو علي ابن الخلال، ومحمد بن يوسف الذهبي، وأبو محمد الجزائري، وشمس الدين عبيد الله المقدسي، وشاهلتي بنت محمد بن عثمان، وأبو عبد الله البجّدي، وسليمان بن حمزة، وأبو الفهم بن أحمد السلمي، وإسماعيل بن نصر الله، وأبو الحسن البغدادي، وخلق كثير.

وبالحضور: أبو المعالي بن البالسي، ومحمد بن الكركرية، وأبو الفضل بن البرزالي.

خرج لها الحافظ زكي الدين البرزالي (مشيخة) في ثمانية أجزاء قد تفرد بروايتها عنها الزين إبراهيم بن الشيرازي([14]).

صبرها على طلابها

ومما حبا الله الشيخة كريمة القرشية أنها كانت صبورة جدًّا على طلابها، مترفقة بهم، يقول الذهبي: كانت “طويلة الروح إلى الغاية على الطلبة، لا تضجر من التسميع”([15]).

وأكد على نفس المعنى في كتاب آخر فقال: كانت “طويلة الروح على الطلبة، لا تمل من الرواية”([16]).

ولعل هذا من أسباب إقبال الطلاب عليها.

أقوال العلماء فيها

قد مدحها المؤرخون وأثنوا عليها خيرًا، ومما أثنوا به عليها قولهم: “كانت امرأة صالحة صينة، جليلة”([17]).

وفي السير قال الذهبي -أيضًا: “الشيخة الصالحة المعمرة، مسندة الشام”([18])، وفي نهاية الترجمة لها كرر الثناء عليها فقال: “كانت امرأة صالحة جليلة”([19]).

من مروياتها

وبإسنادها إلى أبي هريرة -رضي الله عنه، عن رسول الله -- قال: “لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله([20]).

وفاتها

كانت الشيخة كريمة معمرة، ماتت ببستانها بالميطور في رابع عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين وستمائة، عن خمس وتسعين سنة، ودفنت بسفح جبل قاسيون([21]).


([1]) انظر: سير أعلام النبلاء، (23/92)، وتاريخ الإسلام، (14/392)، وتذكرة الحفاظ، (4/1434-1435)، ومرآة الجنان، (4/81)، والوافي بالوفيات، (24/254)، وشذرات الذهب، (7/368).

([2]) سير أعلام النبلاء، (23/92).

([3]) تاريخ الإسلام، (14/392).

([4]) الوافي بالوفيات، (24/254).

([5]) انظر: سير أعلام النبلاء، (21/230-231)، وتاريخ الإسلام، (12/912).

([6]) تاريخ الإسلام، (14/393).

([7]) السابق، (14/392).

([8]) انظر: الوافي بالوفيات، (24/254).

([9]) سير أعلام النبلاء، (23/93)، وانظر: تذكرة الحفاظ، (4/1434-1435)؛ حيث ذكر أنها توفيت عن خمس وتسعين سنة وذلك في أحداث عام 641هـ.

([10]) شذرات الذهب، (7/368).

([11]) مرآة الجنان، (4/81-82).

([12]) انظر: تاريخ الإسلام، (9/320، 12/91، 160، 168، 282، 298، 378، 513، 14/392)، وسير أعلام النبلاء، (17/366-368، 20/333، 378-379، 397، 469-470، 491-492، 501-502، 528-529، 543-544، 23/93).

([13]) انظر: تاريخ الإسلام، (14/392)، وسير أعلام النبلاء، (23/92)، وتذكرة الحفاظ، (4/1434)، والوافي بالوفيات، (24/254)، ومرآة الجنان، (4/81).

([14]) انظر: تاريخ الإسلام، (14/392-393، 15/467، 571، 801)، وسير أعلام النبلاء، (23/92-93)، والوافي بالوفيات، (2/103، 17/323، 358)، وذيل طبقات الحنابلة، (4/193، 399)، وشذرات الذهب، (7/673، 8/66)، وأعيان العصر، (1/527، 2/400، 733، 3/504، 712، 4/249، 576).

([15]) تاريخ الإسلام، (14/392).

([16]) سير أعلام النبلاء، (23/93).

([17]) تاريخ الإسلام، (14/392).

([18]) سير أعلام النبلاء، (23/92).

([19]) السابق، (23/93).

([20]) السابق، (16/334).

([21]) انظر: تاريخ الإسلام، (14/392-393)، وسير أعلام النبلاء، (23/93)، وتذكرة الحفاظ، (4/1434-1435)، وشذرات الذهب، (7/368)، والوافي بالوفيات، (24/254)، ومرآة الجنان، (4/81)، والنجوم الزاهرة، (6/349)، والأعلام، (5/225).