كان النبي ﷺ يحث على قيام الليل في رمضان، وكان يحثهم من غير عزيمة، يعني: لم يوجبه، بل كان يخاف ﷺ أن يواظب عليها مع الناس فيكتب ويفرض عليهم، فلذلك كان يصليها في بيته صلوات الله وسلامه عليه، وخرج فصلى بالصحابة ثلاث ليال.
وهذه الصلاة تسمى بصلاة القيام، وتسمى بصلاة التراويح، وتسمى التهجد، وتسمى قيام الليل، وتسمى الوتر، وهي واحدة.
كان يصليها النبي ﷺ في رمضان وفي غير رمضان، وكان يواظب عليها سواء في رمضان أو في غير رمضان، ولكن في رمضان كان يحث عليها الناس. فالنبي ﷺ كان يصلي صلاته المعهودة في رمضان وفي غير رمضان، وما زاد في رمضان ولا في غير رمضان على إحدى عشرة ركعة، صلوات الله وسلامه عليه.
عدد ركعات قيام الليل
وثبت عنه ﷺ أنه صلى ثلاث عشرة ركعة، ولكن أكثر الأحاديث على أنه كان يواظب على إحدى عشرة ركعة في رمضان وفي غير رمضان، بل كان إذا فاتته صلاة الليل صلاها في وقت الضحى شفعاً، يعني: يصليها اثنتي عشرة ركعة في النهار في وقت الضحى، وأخبر أن من فاته قيام الليل فصلاه في وقت الضحى كتب له قيام الليل، وهذا من فضل الله العظيم سبحانه وتعالى.
فالمستحب في ذلك ما كان أسهل على الناس فيها، سواء صلى ثلاث عشرة ركعة أو صلى إحدى عشرة، أيضاً يجوز أن يصلي أكثر من ذلك، لكن أفضل الفعل هو فعل النبي ﷺ، فقد كان يصلي إحدى عشرة ركعة ويواظب عليها.
ولكن لا إنكار على من يزيد على ذلك؛ لأنه لم يثبت عنه ﷺ أنه نهى عن أكثر من ذلك، وهذه مسألة هامة جداً، فبسببها يقع إشكال بين المسلمين كثيراً, بين الذين يرى عدم الزيادة على ما فعله النبي ﷺ وبين الذي يقول: الأمر واسع في الأمر، وهذا الصواب، فالصواب في هذا الشيء: أن الأمر واسع، فإذا صليت مع الناس إحدى عشرة ركعة، ورجعت إلى البيت وأحببت أن تصلي ما شئت، فلا يوجد إنكار في ذلك، فصل ما شئت؛ لأنه لم يأمر النبي ﷺ بعدد معين لا يجوز تجاوزه.
ولذلك فجماهير العلماء على أنه يجوز أن تصلي ما شئت في قيام الليل، سواء إحدى عشرة ركعة أو أكثر من ذلك أو أقل من ذلك؛ بحسب ما يتيسر لك.
وقد ذكر الإمام النووي في المجموع مذاهب العلماء في عدد ركعات التراويح – قيام الليل – ، والغرض منها بيان أن الأمر واسع، فلا يحتاج أننا نبقى في عراك مع بعضنا، فواحد يقول: صل إحدى عشرة، وآخر يقول: صل عشرين، وآخر يقول: إحدى وعشرين، وآخر يقول: ستاً وثلاثين، فلا يحتاج الأمر لهذا الشيء، وإنما أفضل ما يكون أن تصلي إحدى عشرة ركعة كما صلى النبي ﷺ ذلك، وإذا كان يشق على الناس التطويل في الركعات جاز أن يقلل في القراءة ويزيد من عدد الركعات، وإذا صلى الإنسان في المسجد ورجع إلى بيته ورأى أن هناك وقتاً إلى الفجر، وفيه قوة أنه يقوم من الليل، فيجوز أن يصلي أكثر من ذلك، ولم يثبت المنع في ذلك.
وأما قول السيدة عائشة رضي الله عنها: (ما زاد رسول ﷺ في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) فهذا فعل، والفعل لا يفيد التحديد، ولا يفيد أنه لايجوز إلا إحدى عشرة، وأن أكثر من ذلك يكون بدعة، أو أن أكثر من هذا يكون ضلالة، أو يكون حراماً، فإن هذا كله لم يقله النبي ﷺ، وجماهير أهل العلم على أن الأمر واسع، ومن أجمل الكلام في ذلك كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
يقول النووي رحمه الله: مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد وداود أنها عشرون ركعة، يعني: أن هؤلاء أخذوا بأن عمر بن الخطاب جمع الناس على عشرين ركعة، فعلى ذلك قالوا: نفعل كما فعل عمر رضي الله عنه.
والبعض يقول: الوارد عن عمر إسناده ضعيف، ولكن هناك روايات أخرى تعضد هذا الأثر، وهذا كان مشهوراً في عهد عمر رضي الله عنه أنه فعل ذلك.
والراجح: أن الأمر واسع، فمن صلى عشرين أو صلى إحدى عشرة فكل ذلك جائز.
لكن يا ترى هل الذي سيصلي عشرين الركعة سيقرأ فيها آية ويركع؟ إن هدي النبي ﷺ هو أفضل الهدي، فعليك أن تقرأ كما كان يقرأ النبي ﷺ؛ فإن قراءته كانت قراءة معتدلة بصلاة طويلة جميلة، وهذا أفضل من أن تصلي وتقرأ في كل ركعة آية وتركع، فهذه الصلاة تجعل الناس يلهثون وراء الإمام وهو يجري في هذه العشرين ركعة.
لكن إذا صلى المرء ثمانِ ركعات يحسن فيها القيام، ويفهم الناس القرآن، ويختم فيهن كلام رب العالمين سبحانه وتعالى، فهذا أفضل من أنه يصلي ركعات كثيرة، وتكون في النهاية المحصلة أنه قرأ ربعاً أو ربعين في خلال العشرين الركعة.
يقول النووي: مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد وداود -يعني: الظاهري – أنها عشرون ركعة بعشر تسليمات: ركعتين ركعتين ركعتين ركعتين وذلك خمس ترويحات.
وسميت تراويح لأنهم كانوا يتروحون بين كل أربع ركعات، فيصلون أربع ركعات ومن ثم يأخذون راحة، ثم يصلون أربع ركعات ومن ثم يتروحون، يعني: يستريحون بعد الأربع ركعات.
وجاء عن الأسود بن يزيد أنه كان يقوم بأربعين ركعة، ويوتر بسبع ركعات.
وقال مالك: التراويح تسع ترويحات، وهي ست وثلاثون ركعة غير الوتر، واحتج مالك على ذلك بأن أهل المدينة يفعلون ذلك.
وقال نافع وهو مولى عبد الله بن عمر وشيخ مالك في الحديث أدرك التابعين وبقايا أصحاب النبي ﷺ، يقول: أدركت الناس في المدينة وهم يقومون رمضان بتسع وثلاثين ركعة، يوترون منها بثلاث.
وهذا عدد كبير جداً، ولعلهم كانوا يصلون الليل كله، فهل يطيق المسلم ذلك؟ ولو قيل: إنهم كانوا يصلون ركعات كثيرة لكنهم يقرءون في كل ركعة آية أو آيتين، فالجواب أنهم لم يكونوا يفعلون هذا الشيء، بل كانوا يصلون صلاة طويلة.
ماذا قال ابن ابن تيمية ؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى الكبرى: لم يوقت النبي ﷺ في قيام رمضان عدداً معيناً، يعني: لم يحدد أنه لازم أن يكون كذا، فلم يقل: صل إحدى عشرة ركعة ولا تزد على ذلك، فتكون الزيادة على ذلك ممنوعة، كما قال: (لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتين)، فيمنع أن تصلي بعد الفجر، فبعد أن يؤذن المؤذن للفجر الصادق لا يجوز لك أن تصلي أكثر من ركعتين، وهما سنة الفجر، فهذا توقيت وقته النبي ﷺ.
لكن في قيام الليل الأمر مفتوح، فلم يقل: لا تصل أكثر من كذا، فيجوز للإنسان أن يصلي ما شاء.
يقول ابن تيمية رحمه الله: لم يوقت النبي ﷺ في قيام رمضان عدداً معيناً، بل كان ﷺ لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يطيل الركعات، وكان يستمتع بهذه الصلاة ﷺ، فكان يقوم من النوم فيصلي ركعتين يطيل فيهما ما شاء الله سبحانه وتعالى، ثم ينام إلى أن يأخذ قسطاً من النوم، ثم يقوم مرة أخرى فيصلي ركعتين ويطيل ما شاء الله له أن يطيل.
إذاً: فهو يقوم يصلي صلاة رغبة ورهبة، صلاة إقبال على الله وليست صلاة مستعجلة وكأنه يقول: متى ننتهي منها؟ ليس كذلك، بل كان يقول: (أرحنا بها يا بلال!)، وقال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)، فهذه صلاة النبي ﷺ.
يقول ابن تيمية رحمه الله: فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة ويوتر بثلاث، وكان يخفف القراءة.
يعني: فكأنه يعوض، فإذا كانت الإحدى عشرة ركعة ستأخذ ساعتين أو ثلاث ساعات، فيصلي العشرين في نفس المقدار، إذاً: فيقلل في عدد الآيات التي في كل ركعة، لكن في النهاية هو نفس الوقت الذي كان سيصلي فيه الإحدى عشرة ركعة.
يقول ابن تيمية: وكان يخفف القراءة بقدر ما زاد من ركعات؛ لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة، ثم كانت طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة ويوترون بثلاث، وآخرون قاموا بست وثلاثين وأوتروا بثلاث، وهذا كله سائغ.
هذا كلام فقيه عظيم عالم، وقد جمع بين علم العقيدة وعلم الأصول وعلم الفقه وعلم الحديث، فتكلم كلام العلماء الراسخين، فقال: الأمر واسع في ذلك، ولكن أحب ما يكون هو فعل النبي صلوات الله وسلامه عليه، من غير تبديع لمن زاد على ذلك.
قال: والأفضل في ذلك يختلف باختلاف أحوال المصلين، فإن كان فيهم احتمال لطول القيام -أي: يستطيعون أن يصلوا صلاة طويلة- فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها، كما كان النبي ﷺ يصلي بنفسه في رمضان وغيره، وهو الأفضل على رواية؛ لأن الروايات المشهورة إحدى عشرة ركعة.
وإن كانوا لا يحتملون فالقيام بعشرين هو الأفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين، فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين.
قال في آخر كلامه: ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد موقت عن النبي ﷺ لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ.
هذا كلام جميل جداً، وكلام طيب يجمع المسلمين ولا يجعل بينهم خلافاً، ولا يجعلهم يشتم بعضهم بعضاً، ويبدع بعضهم بعضاً، فالأمر واسع في ذلك، لكن أفضل ما يكون هو أن يصلي كما صلى النبي ﷺ إحدى عشرة ركعة، ويطيل فيها بما لا يشق على الناس، كما يفعل الكثيرون من أئمة المساجد الذين يقتدون بهدي النبي ﷺ في ذلك.
هذا مختصر لكلام ابن تيمية رحمه الله.