منذ عدة عقود والأصوات الداعية للانفتاح الحضاري تكاد تكون هي الأعلى، والأكثر بريقًا فيما يخص العلاقة بين الأمم والحضارات؛ بحيث طغت هذه الأصوات على أي أصوات أخرى تدعو للتمهل، والتحلي ولو بقليل من الحذر؛ إذ ليس كل ما نراه عند الآخرين يصح نقله، أو تعميمه في مختلف البيئات.
ومن أشهر من بدأ هذا السجال الدكتور طه حسين حين دعا إلى نقل ما عند أوروبا من خير وشر معًا؛ رافضا أي دعوة للفرز والانتقاء؛ فقد أعلن صراحةً أن طريق النهوض هو: “أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم؛ لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة؛ خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحب منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب. ومن زعم لنا غير ذلك، فهو مخادع أو مخدوع”([1]).
ثم بعد ذلك بدأت هذه الأصوات تخف رويدًا رويدًا، وتعتدل بعض الشيء؛ خاصة حينما حدثت مراجعات فكرية من كثير من المفكرين؛ مثل محمد جلال كشك، زكي نجيب محمود، عبد الوهاب المسيري، عبد العزيز حمودة.
فرأينا تيارًا عريضًا يدعو للفرز، وينطلق من الذات، ويؤمن بالحوار على قاعدة الندية، ويرفض الذوبان والانسحاق. واللافت، كما أشرتُ توًّا، أن عددًا لا بأس به من أنصار هذا التيار هم ممن تكونت ثقافتهم ابتداءً في أحضان الثقافة الغربية؛ أي أنهم لا يمكن أن يُتهموا بالتعصب والانغلاق؛ فقد تبنوا موقف الفرز والانتقاء بعدما خبروا الحضارة الغربية جيدًا وعن قرب.
ثم جاءت أزمة وباء كورونا لتسلط الضوء من جديد على جدلية الانعزال والانفتاح الحضاري.. وعلى قاعدة الفرز والانتقاء تبعًا للأصول والثوابت في ذاتنا الحضارية، وليس فرزًا وانتقاءً عشوائيًّا.
فبمجرد انتشار الوباء سارعت الدول إلى وقف الطيران، وحظر السفر بينها، بل فُرض في بعض الدول حظر السفر بداخلها بين المحافظات أو الولايات.. بجانب إجراءات التباعد الاجتماعي، ولبس الكمامة، ومنع المصافحة، وغير ذلك.
وهذه الإجراءات ما كانت تخطر على بال أحد، أو يستسيغها العقل ونحن في زمن العولمة، وإزالة الحواجز، وتقارب المسافات، وثورة الاتصالات! لكن أزمة كورونا جعلتها، ليست فقط قريبة من الأذهان والتصور، بل واقعًا ملموسًا، وإجراءاتٍ حازمةً لا مفرّ من الالتزام بها.. وإن جاء هذا التباعد أو العزل الاجتماعي ومنع السفر والتنقل، أمرًا استثنائيًّا فرضته الأزمة؛ ويبقى التواصل هو الأصل والأساس.. ولهذا، فبمجرد انقشاع الغيمة بدأت الدول تسمح بالانتقال، وتُسيِّر الطيران، وتُعيد عجلة العمل إلى الدوران من جديد.
وعلى هذا المنوال، نستطيع أن نرى أننا قد نحتاج إلى هذا التباعد أو العزل فيما يخص العلاقة بين الحضارات؛ من حيث التناقل والتفاعل.. وذلك على مستوى الأفراد والمجتمعات.
على مستوى المجتمع
فالمجتمع الناهض يكون أشد حاجةً إلى إِحْكَام ذاته- بلغة محمد إقبال- كما تحكم قطرةُ الماء ذاتَها فتصنع لؤلؤة؛ بدلاً من أن تنفتح على غيرها، فتذوب في المحيط!
يقول إقبال: “إنَّ سر الحياة أن يغوص الإنسان في نفسه ثم يَبرز منها، كما تغوص القطرة في البحر فتصير لؤلؤة؛ وأن يجمع الشرار تحت الرماد فيصير شعلة تبهر الأبصار؛ وإن الحياة أن تجعل نفسك حرمًا لنفسك، وتبرأ من الطواف حول غيرك”([2]).
وبعد إحكام الذات، والتمكن من الثوابت والأصول المميِّزة للذات، يأتي التحاورُ على قاعدة صلبة، والتفاعلُ مع الآخرين من موقع الندية، وبهدف البحث عن المفيد لا لمجرد النقل المنبهر والمندهش!
ولعل لحكمة تشبه هذا، مَنَعَ النبيُّ ﷺ الأخذ عن أهل الكتاب في أول الأمر ثم أجازه بقوله: “بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ؛ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ”([3]).
قال ابن حجر: “قَوْلُهُ (وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ) أَيْ لَا ضِيقَ عَلَيْكُمْ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُم؛ْ لِأَنَّهُ كَانَ تَقَدَّمَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّجْرُ عَنِ الْأَخْذِ عَنْهُمْ وَالنَّظَرِ فِي كُتُبِهِم،ْ ثُمَّ حَصَلَ التَّوَسُّعُ فِي ذَلِكَ. وَكَأَنَّ النَّهْيَ وَقَعَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْأَحْكَامِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالْقَوَاعِدِ الدِّينِيَّةِ، خَشْيَةَ الْفِتْنَةِ. ثُمَّ لَمَّا زَالَ الْمَحْذُورُ وَقَعَ الْإِذْنُ فِي ذَلِكَ؛ لِمَا فِي سَمَاعِ الْأَخْبَارِ الَّتِي كَانَتْ فِي زَمَانِهِمْ مِنْ الِاعْتِبَارِ”([4]).
وكذلك كان الأمر بعدم كتابة السنة أول الأمر؛ حتى لا يُنشغَل عن القرآن. قال الخطيب البغدادي: “فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ كَرَاهَةَ مَنْ كَرِهَ الْكِتَابَ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، إِنَّمَا هِيَ لِئَلَّا يُضَاهَى بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُه؛ُ أَوْ يُشْتَغَلَ عَنِ الْقُرْآنِ بِسِوَاهُ”([5]).
أي لا بد أولاً من إحكام الذات قبل التعرف على ما لدى الآخر من خير أو شر؛ حتى يأتي هذا التعرف على بينة من الذات، وعلى قدرة على الفرز وتمييز الصحيح من الفاسد، وما يجوز نقله مما يمتنع، وما ينفع مما يضر.
على مستوى الفرد
وهنا، الأمر لا يبعد كثيرًا عما مرّ في حالة المجتمع.. ولهذا، مثلاً، ننصح الشاب بالقراءة في العلوم الإسلامية قبل أن يقرأ في كتب مقارنة الأديان، أو الفلسفة.. وإلا فإنه يكون عرضة لرسوخ الشبهة، أو الانبهار ببريق الأفكارِ المنحرفة.. والأفكارُ المنحرفة لها بريق!
وللأسف، فكتب الأديان والشبهات والفلسفة لها جاذبية تستطيع أن تجر الشباب؛ لأن الإنسان بطبعه يحب المقارنة، ويجذبه المختلِف عنه، والمختلَف فيه.. لكن ربما وقعت الشبهة من نفسه موقع الرسوخ، فلا يستطيع اقتلاعها!
لهذا، كان الأولى والآمن أن يبدأ الشباب بالتعرف على كتاب الله تعالى، ويُقبِل على السنة النبوية وسيرة رسوله الكريم ﷺ، ويطالع حياة المصلحين والمجددين.. قبل أن يطالع كتب الآخرين.. حتى يكون على بينة من اعتقاده، وأدلة من أفكاره..
الخلاصة
إذن، كما نحتاج لشيء من العزلة والتباعد الاجتماعي، في زمن كورونا.. فنحن أيضًا، على مستوى الأفرد والمجتمعات، نحتاج لشيء من الانعزال الحضاري- الذي يهدف إلى إحكام الذات، وتثبيت الأصول- قبل الإبحار في فضاءات الآخرين، والاغتراف من عوالمهم..
وليطئمن دعاة الحوار والتواصل والتلاقح! فلسنا ندعو للانغلاق والانقطاع، وإنما لشيء يشبه “الاستثناء”.. كما أن التباعد الاجتماعي هو استثناء بسبب كورونا، وليس أصلاً في زمن العولمة وتلاشي المسافات!
([1]) مستقبل الثقافة في مصر، طه حسين، ص: 43.
([2]) محمد إقبال.. سيرته وفلسفته وشعره، عبد الوهاب عزام، ص: 93.
([3]) رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو، حديث رقم 3461.
([4]) فتح الباري، ابن حجر، 6/ 498.
([5]) تقييد العلم، البغدادي، ص: 57.