كان الفيلسوف الفرنسي “جان غيتون” يرى أنّ الإنسانيّة عندما تقف أمام خطر التهديد اللّا متناهي لوجودها، تندفع نحو ما يسمّيه بـ”التفكير الميتاستراتيجي”، وإفراغ أسئلتها في فضاء الميتافيزيقا، حيث يدخل الإيمان بالغيب كعاملٍ جوهريٍّ يدفع عنها الهلع من فنائها المحتوم.

منذ أكثر من عام والإنسان المعاصر يواجه أسئلة وجودية حول الخالق سبحانه، والحياة والموت، والمرض، والمصير، أسئلة مضطر للتعامل معها والإجابة عليها، فبعدما كان يشكو من عدم قدرته على الجلوس مع ذاته في ظل حركة الحياة السريعة، أصبح الآن يعاني من فائض كبير في الزمن، في ظل الإغلاق الإجباري للعمل، ومظاهر الحياة والاستمتاع، المقترن بحالة من الشك الطاغي في كل تعاملاته الإنسانية والشخصية من وباء لا يعرف ماهيته، أو كيفية تسلله لمداهمته.

ومع فيض الأخبار عن الوباء، كان سؤال الموت يطرح نفسه صباح مساء، وهو سؤال يتجاوز الحياة المادية، ويتجاوز الإجابات العلمية الجافة، في ظل عجز العلم عن وضع ذلك الفيروس تحت السيطرة، أو حتى فهمه من الناحية الجينية لمقاومته.

تسبب كورونا في طرح الأسئلة الوجودية الكبرى من جديد، وتسبب –أيضا- في زعزعة الإيمان المقدس بالعلم وقدرته الخارقة على التفسير والسيطرة، وأصبح الدين يطرح أسئلته على العلم الذي انكسر غروره وكبرياءه.

وفي ظل انحباس غالبية البشر خلف الجدران، وخضوعهم لسلطان الشاشة، التي تلح في طرح الأسئلة الوجودية من خلال مدخل الوباء والموت، ومع فائض الزمن، أصبح الإنسان يبحث عن طمأنينة الإيمان، ويبحث عن يقين يعتصم به أمام مداهمة الموت.

وأمام هذا التحدي شرع عدد من علماء الدين واللاهوت في الغرب، إلى استثمار هذا القلق الوجودي، لإعادة طرح سؤال الدين والإيمان من جديد، من خلال صوغ تلك العودة من منطق المنفعة، على اعتبار أن الإيمان قادر على بعث الطمأنينة وتهدئة المخاوف، ومنح الإنسان يقينا يساعده على إغماض عينيه للنوم بلا توتر.

وقد ظهرت مجموعة من الكتب في شهور الوباء الماضية، منها: “الإيمان في زمن الجائحة” Faith in a Time of Pandemic، للقس “بروس جي إيبرلي” Bruce G. Epperly، وتحدث فيه عن الراحة التي يخلقها الإيمان في زمن الوباء، وقدرة اللاهوت على شق طريق إلى الخالق من خلال الأزمة، أما كتاب “الرب لا يستطيع”[1] God Can’t فيحاول كاتبه توماس جاي أورد Thomas Jay Oord، الإجابة الدينية عن مسألة الشر والقدر وعلاقتها بالخالق سبحانه، وعلاقة الإيمان بالصدمات الحياتية، ومنها الوباء، فهو يتحدث عن المعاناة بعمق إيماني ديني.

أما كتاب ” الإيمان الصحي وأزمة الفيروس التاجي”[2] تحرير كريستي ماير   Kristi Mair فشارك فيه عشرون من كبار المفكرين المسيحيين، في محاولة لتقديم مساعدات روحية ودينية، كمدخل ليتغلغل الايمان في مناحي الحياة المختلفة، وفي كتاب “الله والوباء: تأمل مسيحي في فيروس كورونا وآثاره “[3] تأليف إن تي رايت  N. T. Wright فيتخذ من الجائحة مدخلا وذريع لطرح الإيمان المسيحي من جديد، وكذلك كتاب “أين الله في عالم فيروس كورونا؟”[4] تاليف جون سي لينوكس John C. Lennox، وهو أستاذ للرياضيات بجامعة أكسفورد ، ويرى أن  النظرة المسيحية للحياة لا تساعدنا فقط في فهمها، ولكنها تمنح أملًا مؤكدًا للتشبث به.

وفي محاولة لفهم الجائحة وتأثيراتها في العالم الغربي، جاء صدور العدد العشرون في صيف 2020 من مجلة “الاستغراب“، ويقع العدد في (290) صفحة، وملفه الرئيسي هو “العالم في لجة كورونا”.

الجائحة والفلسفة

الجائحةٍ اختزلت سيلًا هائلًا من أسئلة الفلسفة، تساءلت فيها الإنسانية: هل نستمطر النجاة من السماء من هذا الفيروس المتمرد؟ ومع تلك الإشكالية كان سؤال الغيب أو الميتافيزيقا يطرح نفسه، فجائحة كورونا تعدت نطاق البيولوجيا إلى الميتافيزيقا، وطرحت استفهامات غير مسبوقة، وكأن كورونا “فيروس ميتافيزيقي”.

وانتقل سؤال البقاء للجنس البشري في مواجهة الفيروس إلى سؤال المصير، وهي جائحة أعادت أسئلة الفسلفة على امتداد قررونها الطويلة دفعة واحدة، فالإنسان الواقف على حافة القبر ينتظر أن يدفعه ذلك الفيروس إلى قعره، لم يعد العلم قادر على توفير ملجأ لاختباءه، فهو لا يميز بين أهل السلطة والثراء وبين المهمشين، فالجميع مستهدف!

الفيروس امتحان للجسد، والعقل، والقلب واليقين، ويبدو أن غفلة الانسان المعاصر كانت عصية على الاستيقاظ من خلال المواعظ، فكان لابد لها من المقارع، واستعلاء العلم كان بحاجة إلى إجبار على التواضع، فربّما للمرّة الأولى منذ تسيّد هذا العقل عرش التنوير في أوروبا يباغته خوفٌ لا قِبَل له به على المصير، والمصير يحتاج إلى تبصر إيماني غيبي لفهمه، وهذا يؤكد أن العقل الحداثي به خلل كامن في ظل ماديته وإيمانه المفرط بالعلم، فالإنسان لا يستطيع أن يكتفي بذاته معرضا عن ربه، والمحسوسات لا تخلق طمأنينة، والاستئناس بها هو قلق واضطراب، ونسيان الإنسان لكينونته هو ضياع له.

الحياة لابد أن تقرأ في بعض جوانبها بأبعاد غيبية، لأن الحواس غير قادرة على إدارك معاني الوجود، وسيادة الإنسان وخلافته في الأرض، لا تعني أنه قادر على صناعة التاريخ بمشيئته الخاصة، فهناك أحداث ونوازل تعصف بالإنسان تساهم في كتاب تاريخه من جديد، مثل الطوفان، أيام نوح عليه السلام، أو كورونا في عصرنا، فهناك أسئلة حول من الذي يقف وراء الجائحة، هل الخطأ الصيني؟ أم الخطأ العلمي؟ أم هناك إرادة عليا لها حكمتها؟ وهل رفع تلك الجائحة يأتي بدعاء الخالق سبحانه بأن يعفو عن الإنسان؟ أم بالبحث المضني عن اللقاح؟

تغيير الدين للنوازل، أو رفع الجائحة ليس سحرا ورفعا سريعا، ولكن الدين يشير إلى فكرة إلهام الخالق سبحانه وتعالى، للقلب الإنساني بمسببات مواجهة الجائحة، فالفعل يبقى في حوزة الإنسان في دفع الجائحة، وصروف الدهر الكبرى تتخفي راءها حكمة عظيمة، تحرض إمكانات الإنسان القوية على التحرك الناجز في الحياة والتاريخ، ومشيئة السماء قضت ألا يكون الإنسان دُمية في الحياة تحركها عاديات الزمن، ولكن الإنسان إرادة حرة تتصارع مع تلك العاديات، لتستكشف سبل ترويضها، فالكون والحياة ليسا صدفة، كما أنهما ليسا جبرا، والفعل الإنساني في حالة تدافع دائم معهما، واليأس عن المواجهة هو إيمان بالعدمية، كما أن الظن بأن قوة الإنسان لا تقهر هو نوع من الاستكبار.

التاريخ ليس مطية هينة الركوب، ولكنه ابتلاء كبير للإنسان ليصوغ من شيئا جديدا، ومسؤلية الإنسان في الكون تكمن في خلافته لاقامة ميزان العدل والاستقامة، وإذا اختل هذا الميزان كان الإنسان مُعرضا للنوازل.

تشير الأديان أن حياة الإنسان وحيوته تكمن في الحرية والاختيار، لذا منحتها له السماء قبل خلقه، وربما أعطى الفيروس لبعض الناس الفرصة ليتخففوا من كثير من الإصر والأغلال التي عليهم، كإدمان العمل، والترف، والصخب، والاستهلاك، فأصبح الإنسان مضطرا أن ينظر إلى باطنه قليلا، وإلى مصيره مليا، وصار اللاوعي حاضرا في الوعي، والوعي أصبح يقف حائرا خاشعا أمام الأسئلة الوجودية.

الانعتاق من العبوديات

المؤكد أن العلوم شيأت الواقع، والعلم الحديث لا يستطيع أن يشفي الوعي الحداثي، إذ هو سبب في أزمته، فالعلم صور العالم وكأنه عصي على التدبر، وإيجاد المعنى، فالمال والسلطة والقوة ليسوا هم الوجود، ولا ينجو الإنسان من أزمته إلا من خلال إصلاح علاقته مع الكون، والغرب فقد بعضا من إنسانيته بتنمية الاستهلاك المفرط، وتحويله للذات الإنسانية إلى شيء مهمل، فأثبتت الجائحة أن العلم يحتاج إلى أن يخضع لقوة تلهمه القيمة والمعنى والخلق، وأن يدرك أن الذات الإنسانية عصية أن تكون مادة معملية.

وقد منح كورونا الناس القدرة أن يحيوا بعيدا عن الاستهلاك الشره، وأصبحت عبارة “لا وقت عندي” في زمن كورونا وكأنها عبارة متحفية، ففائض الزمن يغمر الجميع، ومع إبطاء عجلة الأحداث أخذ المعنى يتسلل إلى الأشياء، وتوارت هيمنة المادية قليلا، وأرخت قبضتها لصالح الأسئلة الوجودية، وأخذ الإنسان ينعتق من فكرة العبودية للعمل شيئا ما، بل طرأ تغير ثقافي على مفهوم العمل ذاته في الأذهان.

ومع توقف الاستنزاف للطاقة الإنسانية في العمل، تنفست كثير من المعاني والتساؤلات والأفكار، لذا كان الفيروس خلاصا من عبوديات كثيرة، وأصبحت فكرة أنسنة العمل محل اهتمام مع التوسع في العمل الرقمي من خلال المنازل، وأجبر البقاء بين الجدران على ضرورة البحث عن التواصل الأسري الاضطراري بعيدا عن الرقمي، فلم يعد الإنتاج هو الغاية ولكن الحفاظ على الحياة والبقاء أمام الفناء المنتشر على الأسطح وفي الهواء وفي كل شيء، وتسيد شعار “الحياة قبل الإنتاج”، ولم تعد السعادة في اقتناء الماديات، ولكن في الطمأنينة في النجاة من مداهمة الفيروس، والنجاة من انتقامه وتوحشه، واقتناص لحظة العافية وعدم التفريط فيها تحت رغبات الاستزادة من الأشياء المادية.

تخفف الجسد من ضغط احتياجاته، والنفس من إلحاح رغباتها، وأخذ العقل مكانه في ضبط الرغبة والحاجة، بعدما كان يلهث ورائهما، وصار بإمكانه الإنسان الانعتاق من القيود والأغلال، بل حصل على تدريب حقيقي في التخلي عما لا يحقق النفع والفائدة، فإطفاء نيران الرغبة لا بد أن يصاحبه تدبر وتأمل حتى يتحصل الإنسان على طاقة تغريه بالاستمرار في الحياة، وانخفاض ضجيج الآلات والسيارات وهب الإنسان قدرة على استراق السمع إلى حديث النفس الخفيض الصوت.


[1] العنوان الكامل للكتاب God Can’t: How to Believe in God and Love after Tragedy, Abuse, and Other Evils

[2] Healthy Faith and the Coronavirus Crisis: Thriving in the Covid-19 Pandemi

[3] God and the Pandemic: A Christian Reflection on the Coronavirus and Its Aftermath

[4] ؟Where is God in a Coronavirus World