الإنسان محاط بمجموعة من المخاوف؛ بعضها حقيقي وكثير منها متوهم، وهذه المخاوف قد تعرقل سير الإنسان وقد تحفزه، لكن لابد له من التمييز بين الصحيح منها والخاطئ حتى يتعامل معها تعاملا صحيحا، وإذا نظرنا إلى خوف الإنسان من الموت نجد أنه خوف من شيء حقيقي لايمكن لأحد إنكاره لكن البعض يسارع إلى إنكار ما بعد الموت، هل هو العدم؟ أم أن هناك حياة أخرى تتم فيها محاسبة الإنسان على نعم الله تعالى عليه وكيف تعامل معها؟
في كتاب الله تعالى حديث مستفيض عن الحياة بعد الموت وما يحدث فيها حتى يعد أحد المحاور الخمس التي يدور عليها القرآن الكريم، تحفيزا للإنسان على العمل للدار الآخرة وتحذيرا له من تجاوز حدود الله تعالى.
وفي السنة المطهرة كذلك حديث عن المراحل التي يمر بها الإنسان بدأ من الاحتضار حتى انصراف الناس إلى الجنة أو إلى النار وما يلقونه من ألوان التكريم أو أشكال الإهانة، وحديث كذلك عن مخاوف الإنسان تجاه الموت وما يعقبه من لقاء الله تعالى.
نذكر من ذلك ما جاء في الصحيحين – واللفظ للبخاري- أن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَجُلًا فِيمَنْ كَانَ سَلَفَ، أَوْ قَبْلَكُمْ، آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَوَلَدًا – يَعْنِي أَعْطَاهُ – قَالَ: فَلَمَّا حُضِرَ قَالَ لِبَنِيهِ: أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرَ أَبٍ، قَالَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا – فَسَّرَهَا قَتَادَةُ: لَمْ يَدَّخِرْ – وَإِنْ يَقْدَمْ عَلَى اللَّهِ يُعَذِّبْهُ، فَانْظُرُوا فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، حَتَّى إِذَا صِرْتُ فَحْمًا فَاسْحَقُونِي – أَوْ قَالَ: فَاسْهَكُونِي – ثُمَّ إِذَا كَانَ رِيحٌ عَاصِفٌ فَأَذْرُونِي فِيهَا، فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ – وَرَبِّي – فَفَعَلُوا، فَقَالَ اللَّهُ: كُنْ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: أَيْ عَبْدِي مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ – أَوْ فَرَقٌ مِنْكَ – فَمَا تَلاَفَاهُ أَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ “.
ربما كان هذا الرجل في زمن الفترة لم يدرك نبيا وعنده فطرة سليمة، نظر إلى نعم الله تعالى عليه وأدرك بفطرته أنه لابد أن يُحاسب على هذه النعم، ورأى أنه قد قصر تقصيرا كبيرا، دفعته فطرته المؤمنة بحساب الله تعالى إلى الخوف منه سبحانه حتى طلب من بنيه أن يحرقوه بعد الموت وأن ينثروا هذا الرماد مع الرياح ،كان مؤمنا بالله تعالى لكنه جاهل، قَبِل الله تعالى إيمانه الذي حمله على الخوف من الحساب وعذره في جهله بالله تعالى.
تتبدد كثير من المخاوف حين نعرف حقيقتها وكيفية التخلص منها، قيل لأبي حازم: ما لنا نكره الموت؟ قال لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم والنفس تكره الانتقال من العمار إلى الخراب[1].
.بهذه الإجابة – التي تدل على خبرة بالنفوس واطلاع على ما يشغلها – يمكننا أن نكتشف لماذا يخاف الإنسان من الموت؟ وكيف ينجو من هذا الخوف؟
إن النفس تأنس بالدنيا وما فيها من نعيم ومتع، والبعض يحب الحياة أيا كان تدني مستواه المادي والاجتماعي.
إن هذا الخوف قد يكون مرضيا فيتوقع الإنسان الموت مع كل حدث ويتصور الموت عندما يسمع بخبر وفاة ويتوقف عن دوره في أداء عبادة الله تعالى وعمارة الكون وبذلك يسجن نفسه في سجن الخوف حتى تنتهي حياته.
وآخرون يتخذون قول النبي ﷺ : “مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ فَقَدْ بَلَغَ الْمَنْزِلَ”[2] نورا يضيء لهم الطريق ويحفزهم عند الكسل ويصبرهم كلما رأوا الطريق طويلا مليئا بالعقبات.
التأمين على الحياة وتأمين المستقبل
من بين مخاوف الإنسان التي تشغله هي الخوف من المستقبل والعجز عن توفير حياة مناسبة عندما يكبر السن ويعجز الإنسان عن العمل وتزداد حاجات الأبناء والبنات، العقلاء يعملون في أوقات الرخاء استعدادا لأوقات الشدة ويجتهدون في زمن الشباب حتى يستريحوا في زمن الشيخوخة، بل إن النمل يخزن الطعام في الوقت الذي يتمكن فيه من الحركة والعمل استعدادا للوقت الذي لا يستطيع فيه العمل، هذه الفكرة تنير لنا الطريق وتدفعنا إلى أن نقدم بعض الأعمال التي تساعدنا على تجاوز الخوف من الموت وتحببنا في لقائه جل جلاله ومنها:
- علم الإنسان أن هذه الحياة لها مدة ستنتهي حياته أولا ثم تتوقف الحياة على ظهر الأرض وينتقل بعد انقضاء مدته في الحياة إلى الحياة البرزخية وبعدها إلى الجنة أو النار وأن الوسيلة للأمان في دار الدنيا وفي الحياة البرزخية وفي الدار الآخرة هي أن يزرع خيرا في دنياه؛ كلمة طيبة وإحسانا للخلق وعبادة للخالق سبحانه والقيام بحقوق النفس وتعمير الأرض، كل حسنة تضاف إلى رصيد الإنسان وتثقل من ميزانه.
- إذا فاتنا عمل الخير في مرحلة من الزمن علينا أن نضع البذور الصالحة وأن نرعاها، فلنصدق الله تعالى فيما بقي من أعمارنا ولنبدأ في أعمال الطاعة فكل عمل صالح يقربنا إلى الله تعالى ويؤنس وحشتنا في القبر، ولنعمل بقول النبي ﷺ: “لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ [3].
- نؤنس أنفسنا بما ذكره الله تعالى من بشريات للصالحين من عباده {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [التوبة: 21، 22]
- إن فراق الأحبة مؤلم لكن الصالح يودع أحبابه في الدنيا ليجتمع بأعظم منهم ،يلتقي بالنبي ﷺ، ولذلك كان قول عمار بن ياسر وقت أن شعر بالموت: اليوم نلقى الأحبة محمدا وحزبه [4].
- نخاف من الموت شفقة على أبنائنا الصغار وزوجاتنا وهم لا يستطيعون أن يقوموا بأمر أنفسهم، يرشدنا الله تعالى إلى ما يسكن هذا القلق فيقول:{وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } [الأعراف: 196]
- نخاف من سكرات الموت وشدته وهي أمور يخففها الله تعالى،قال ﷺ: “إِنَّ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ إِذَا كَانَ فِي قُبُلٍ مِنَ الْآخِرَةِ وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَيَنْزِلُ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ مَعَهُمْ أَكْفَانٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، فَيَقْعُدُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ” قَالَ: ” فَيَقُولُ مَلَكُ الْمَوْتِ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ ” قَالَ: ” فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنَ السِّقَاءِ، فَلَا يَتْرُكُونَهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ [5].
- نخاف أن تعجز حسناتنا عن الوفاء بما أوجبه الله علينا، فنتذكر قول النبي ﷺ: ” إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ “[6] لتكون هذه الأعمال عطاء ممتدا لنا بعد الموت.
- نستحضر سعة رحمة الله تعالى وكريم عفوه جل جلاله، قال ﷺ:” إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ”[7].
- نعفو من ظلمنا طلبا للعفو من الله تعالى.
- نخاف من الموت ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين، فنطير إلى الله تعالى بجناحين جناح الخوف وجناح الرجاء.