في مراهقته، كان ثروت أباظة يجلس كل صيف مع اثنين من الأدباء لقراءة “الشوقيات”، كان يقرأ، وهما يستمعان، ويعلقان على الأبيات حتى يفهمها.. يحكي ثروت قائلاً:
“وفي الإجازة التي جاءت بين السنة الثانية الثانوية والثالثة الثانوية قال الحاج أحمد لي:
أنت تكثر من اللحن بصورة مخيفة.
فقلت: لا يهم.
قال: كيف لا يهم؟ أتريد أن تكون أديباً وتلحن؟ إن القواعد مسألة بدائية يجب أن يتقنها كل متعلم، فكيف لا يتقنها الأديب الكاتب؟ لن يحترمك قارئ أو مستمع لك إذا أخطأت في النحو.
وأيد توفيق الذي أصبح توفيق أفندي كلام الحاج أحمد، وأخذت الكلمتين في ضلوعي ولم أعلق، وأكملنا السهرة، ومضينا في سهراتنا حتى انتهت الإجازة.
وجين بدأت الدراسة في السنة الثالثة الثانوية أرغمت نفسي أن أقرأ وحدي بصوت مرتفع كل ما أقرأ سواء كان مذاكرة أو كتبا في الأدب أو حتى في الجغرافيا أو التاريخ أو الطبيعة. وحرصت أن أصحح لنفسي ما أقرأ وأعرب كل كلمة قبل نطقها وأنطقها بحركة إعرابها، وبعد شهور قليلة استقام لساني.
وكتمت الأمر عن الحاج أحمد وعن توفيق، لم أقل لأحد منهما شيئا مما أفعله بنفسي، حتى إذا جاءت الإجازة الصيفية وبدأنا القراءة فوجئ كلاهما بشخص آخر مني لا يلحن مطلقاً أو يكاد لا يلحن، ودهش كلاهما وفرحا وأصبحا يستمعان إلى قراءتي للشعر في استمتاع بعد أن كان المسكينان يعانيان ما يعانيان من كثرة اللحن مني ويتجاوزان عنه لمكانتي عندهما أو لمكانة أبي… لا أدري! (ذكريات لا مذكرات، ثروت أباظة)
ينعم بعض الناس ببيئاتٍ تجعل سبيلهم إلى الكتابة ميسراً، كالطفل الذي يولد في أسرة مثقفة يتداول أفرادها الكتب كما يتداولون صنوف الحديث، ويحرصون على أن يتلو عليه وهو طفل رضيعٌ تلك الكتب المصنوعة له، والتي تكبر معه كلما كبر.. وهناك من يكتسب -بفعل سياسة والديه في التحدث إليه وهو طفل متناهي الصغر- عدداً ضخماً من الكلمات يختزنها في عقله حتى يأتي موعدٌ يملك أن يستعمل فيه رصيده اللغوي الثري.
ومن أمثلة البيئة المنزلية الحافزة، ما يحكيه ثروت أباظة أيضاً، الذي كان الأديب كامل كيلاني صديقا لوالده، وكان يهديه من كتبه الكثيرة المكتوبة للصغار، فكان ثروت يأخذ من تلك الكتب ويطالعها.. يحكي ثروت قائلا: “وكنت أدخل إلى حجرتي وأغلق الباب بالمفتاح ولا أخرج حتى أنتهي من كل الكتب التي أهداها الأستاذ الكيلاني إلى أبي. ومن هذه الكتب عرفت حكايات ألف ليلة وليلة كلها، وعرفت حكايات شكسبير مبسطة، وعرفت روبنصن كروز وحي بن يقظان. وحين كنت في العاشرة كنت أقرأ توفيق الحكيم وطه حسين والمازني، ووجدت نفسي بعد ذلك أقرأ الأدب الكبير كله في سهولة لا مثيل لها. وكان أبي معجبا بشوقي غاية الإعجاب فقرأت رواياته، وأذكر أنني وأنا أنتظر نتيجة الشهادة الابتدائية قرأت مجنون ليلى ثلاث عشرة مرة متتالية”.
بعد استغراقي في قراءة الكثير من كتب السير الذاتية التي سطرها عدد من الكتّاب في الشرق والغرب والقديم والحديث، وجدتُ أن دور الأسرة في صناعة القارئ أبلغ وأوضح بكثير من دورها في صناعة الكاتب، هذا هو الأصل، وله استثناءاته بطبيعة الحال.
يحدث كثيراً أن ينشأ المرء في أسرةٍ قارئة، تشكل المكتبة جزءاً شديد الحيوية من مساحة المنزل، ويقبل فيها الجميع على افتناء الكتب، والتهامها آناء الليل وأطراف النهار، على نحو يجعل القراءة شيئاً حاضراً في وجدان الطفل وبرنامجه اليومي، ما يجعلها عادةً من عاداته، ولكن ذلك لا يضمن أن يتحول الطفل إلى كاتب في المستقبل.
عادة ما يبزغ الكاتب أمة وحده، بلا سوابق عائلية، وإن كان للعائلة دورٌ ما في تهيئته ليكون كاتباً، وليس كثيراً أن يرث إنسانٌ من والده مثلاً سبيله في الكتابة وموهبته وروحه، لكن لا بد من استثناء، إذ يحدث أيضاً أن ينشأ المرء في أسرةٍ يكون بعض أفرادها معدودا في زمرة الكتّاب، ويتوارث الأولاد والأحفاد تلك الموهبة وذلك الاهتمام، ودونكم مثالاً صارخاً على هذا. يتمثل في الأديب الموسوعي علي الطنطاوي الذي ورّث بعض ذريته تلك الروح الساحرة وذلك القلم السيال، على النحو الذي نراه ماثلاً في عابدة المؤيد العظم ومجاهد مأمون ديرانية.
ختاماً، ثمة نماذج كثيرة لأطفال صنعت منهم أسرهم قارئين جيدين، ولكني لا أعرف الكثير من الأطفال الذين صنعت منهم أسرهم كتّاباً.. هذا ليس خبراً سعيداً، لولا أن الكتاب الجيدين يكونون في العادة قراء أجود، فإن شئت أن يكون ابنك كاتباً، فاصنع منه قارئاً، لعل وعسى!