كيف تستفيد الأسرة من رمضان : الأسر الحديثة أكثر انشغالا عن الأبناء، وأغلبها حصر العناية بالأبناء في الجوانب المادية من طعام وشراب ومدارس ذات تكلفة عالية، وماركات معينة من الملابس، وحتى القيم التي تغرسها في نفوس الأبناء، تدور في فلك المادة، لكن القليل من ينظر إلى التربية بمنظور شامل، ويمنح الأبناء ما يبقى معهم ويُمكنهم من الارتقاء الأخلاقي، والصمود أمام تقلبات الزمن.
شهر رمضان فرصة للأسرة لتربية الأبناء، وغرس الهوية الإسلامية، والقيم والأخلاق والسلوك، من خلال تجربة روحية عملية طويلة، تمتد ثلاثين يوما بلياليهن، فرمضان هو شهر للعام كله، وليس مقصورا على تلك الأيام؛ بل إن رمضان للعمر كله، وليس محصورا في تلك الأيام المعدودات.
ولعل ما يؤكد دور الأسرة في تلك التشنئة الرمضانية، هو تهيب الغالبية العظمى من الإفطار في رمضان، رغم أن البعض قد يكون أقل التزاما بالاسلام في أوامره ونواهيه، هذا الخيط أمسك به الإمام “ابن الجوزي” في كتابه “صيد الخاطر” عندما قال:”فتجلى لي من الأمر، أن العادات غلبت على الناس، وأن الشرع أعرض عنه، وإن وقعت موافقة للشرع، فكما اتفق، أو لأجل العادة، فإن الإنسان لو ضرب بالسياط ما أفطر في رمضان، عادة قد استمرت، ويأخذ أعراض الناس وأموالهم، عادةً غالبَةً”، أي أن الصوم تحول إلى عادة راسخة في الوجدان المسلم من الصعب إهدارها، ولعل ذلك يرجع إلى دور الأسرة، التي نقشت منذ الصغر قداسة هذا الشهر، ووجوب صيامه، وكذلك الالتزام بجملة من الأخلاق والسلوكيات حتى يكون الصوم مقبولا.
وهذه ملاحظه مهمة سجلها المفكر الألماني المسلم “مراد هوفمان” في كتابه “الطريق إلى مكة” من تحول صوم رمضان إلى ثقافة وعادة متأصلة، فقال:” لقد بدا لي دائما أنه من غير المنطقي أن يصوم من لا يصلي، ولكن هذا السلوك يكشف عن حقيقة أن صوم رمضان أصبح يمارس في أقسام من عالم المسلمين على نحو يجرده من مغزاه الديني، ويجعله جزء متحررا من المدنية، وهذا يفسر أيضا السلوك الغريب من جانب بعض المسلمين إذ يمتنعون عن تناول الخمور في شهر رمضان، باعتباره شهر إسلام، مقابل أحد عشر شهر للراحة من الإسلام”.
الشعائر والهوية
الشعائر تساهم في بناء الهوية، فهي تجسيد للمعتقد، وتعبير عن مدى الالتزام به، ولعل وجود الشعائر الدينية أحد المآزق المستعصية على العلمانية، فالعلمانية لم تؤمن بالشعائر، وعندما أدركت الخلل في فكرها ومنهجها الخالي من الشعيرة، ابتدعت شعائر ساذجة لم تفلح، لأن الشعيرة إحدى تجليات الدين، فلا دين بلا شعيرة.
يشير علماء الأنثربولوجيا، أن إحدى غايات الشعائر هي تحقيق التواصل، مع الإله ومع النفس ومع الخلق، والشعائر تسمح بانتقال المعتقد وما يرتبط به من إلتزام بين أفراد المجتمع لتوثق علاقتهم بالمعاني الدينية الكبرى، وتأكيد تصوراتهم عن الحياة، فممارسة الشعيرة فرصة للإحساس بالمعني، وتلبية لحاجات نفسية واجتماعية وجسدية. فحسب العلماء فمن سمات العمل الشعائري (أو الطقوسي حسب تعبيرهم) هو الشعور بالعاطفة والاحترام والرهبة.
وفيما يتعلق بالأسرة وعلاقاتها بالشعائر، فقد لاحظت دراسات أن تفاعل الأطفال مع والديهم في أداء الشعائر يؤثر على الأبناء، فالأطفال أكثر تقليدا للوالدين فيما يفعله الوالدين أكثر من تأثرهم بأقوالهم، وأن العامل الأكثر أهمية في سلوك الأبناء هو تطبيق السلوك، ولعل حرص الغالبية العظمي من الأسرة المسلمة على صيام شهر رمضان، وتحقيق الاقتران بين الصيام والسلوك في ذلك الشهر، هو ما أعطى تلك الشعيرة التعبدية أهميتها، فالأسرة ذات تأثير عميق للغاية في نقل تلك الرهبة والاحترام لشعيرة الصيام، والتي يرثها الفرد من أبويه ويورثها لأبنائه.
ومن الناحية النفسية، أظهرت دراسات أن أساليب التربية التي تستجيب عاطفيا للأبناء، ويشاركون فيها، تُنشيء علاقة إيجابية بين الأبناء والمعتقد، فالممارسات الدينية للأبناء ترتبط بتقليد الأبناء لأسرهم، وأن مواظبة الأبناء على شعائر معينة، ناجم في الغالب عن مشاركتهم لوالديهم في أدائها، فالدين ظاهرة اجتماعية، وأول من يقوم بتفعيلها هي الأسرة، فالأسرة هي أول من ينثر بذور الدين في نفس ووجدان الإنسان، ونجاح الأسرة في تحويل الشعيرة الدينية إلى حالة من الإمتاع، بجانب الاشراطات التي يفرضها الدين، يُعمق روح الإلتزام الدائم والمستمر في نفس الأبناء.
ممارسة الشعيرة الدينية للفرد مع أسرته تحقق متعة كبيرة للأبناء، فأثبت دراسة أمريكية أن أكثر من 81% من المراهقين يجدون متعة في الممارسة الدينية إذا كانوا مع أسرهم، وأن المراهقين الذين يحضرون شعائر دينية مع والديهم هم أكثر سعادة، لأن ممارسة الشعائر مع الأسرة ذات تأثير وجدني عميق وممتد.
وأشارت دراسات أن تكرار الشعيرة يعززها كوسيلة للتعلم السلوكي والأخلاقي، ويرفع من احتمالية الديمومة في ممارستها مستقبلا، فالتكرار يعزز التعلم، لتتحول الشعيرة إلى نوع من التقاليد العائلية الواجب اتباعها، وبذلك تتحول الشعائر لوسيلة لنقل القيم والمعتقدات، وتتحول لثقافة لا يمكن سلخها عن المجتمع، ويمارسها الأفراد دون أدنى صعوبة، أي حدوث تطبيع بين الفرد والشعيرة ومقتضياتها السلوكية، وهو ما يعزز الهوية الدينية، خاصة إذا كان للشعيرة تمظهرت سلوكية في طرق المعاش واللباس.
ومن الناحية الفسيولوجية، أثبتت دراسات من ثمانينات القرن الماضي، أن ممارسة الشعائر (أو الطقوس) تنتج إفرازات تؤدي إلى الدفء والتقارب بين الناس، وهو ما يؤدي إلى الشعور بالرفاهة النفسية[1].
الصوم ..شعيرة شاملة
أكدت دراسة ميدانية أن الصيام يحقق السعادة، وأن الامتناع عن الطعام له آثار إيجابية على السلوك الاجتماعي خلال شهر رمضان، لوجود ارتباط بين تناول الطعام والسلوك، فضبط النفس (من خلال الصيام مثلا) ضروري للأفعال الاجتماعية الايجابية، ومنها العطاء والبذل، فرغم أن مشاعر الجوع تجعل المرء أكثر بُدائية، وأكثر رغبة في الحفاظ على الذات، لكن مع الصيام يبدو الأمر مختلفا، فبدلا من أن يعزز الجوع الحفاظ على الذات، فإنه يشجع سلوكا آخر وهو الكرم والبذل والعطاء.
وفي دراسة أجرتها جامعة ” جامعة كونستانز” الألمانية ( University of Konstanz )عام 2021م، أكدت تحسن الأداء الطلابي من ناحية التعليم لمشاركتهم في الشعائر الدينية مع أقرانهم، وهو ما يعني أن الصيام يساهم في تحسين العلاقات الاجتماعية، وتكوين صداقات جيدة، وأن الصيام يعزز الشعور بالانتماء وخلق هوية مشتركة.
وشعيرة الصيام في رمضان، تتميز بالتنوع في الممارسة الدينية بين أداء أفعال معينة، والتوقف والامتناع عن أخرى، كما تتميز بجوانب تتعلق بالسلوك الخارجي من حيث الضبط والأداء، والالتزام بآداب نفسية داخلية، كذلك الامتناع عن الطعام في أوقات محددة، والالتزام بأن يكون الطعام حلالا، ومن ناحية أخرى يحث الصائم القادر على صلة رحمه وإطعام غير القادرين، كما يحثه على قراءة القرآن الكريم وكثرة الذكر، وينهاه عن اللغو والكذب وآفات اللسان جميعا، كما يحثه على النظر في المصحف، وينهاه عن النظر للمحرمات، ومن ثم فالصيام يقدم الإسلام كله اعتقادا سلوكا وتخلقا في شعيرة واحدة طيلة ثلاثين يوم، وبذلك يمنح الأسرة فرصة لأن تعد أبنائها في هذا المعسكر التدريبي الطويل للالتزام بتعاليم الدين من خلال ممارسة فردية وجماعية، ومن خلال الروحانية المقترنة بالمتعة المتولدة من إلتئام الأسرة على المائدة للإفطار والسحور، وأداء التراويح وقراءة القرآن والصدقة.
ومن الخطأ أن تنحرف الأسرة بالصوم عن غايته ومقاصده السلوكية والأخلاقية، لتقتنص منه فقط جانب المتعة والدفء، وتظن أنها حققت غاية الشرع، فهذا من إهمال التربية، يقول “ابن القيم الجوزية”:” “فمَنْ أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سُدى، فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم، بسبب إهمال الآباء لهم، وتركهم دون أن يعلموهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارا، فلم ينتفعوا بهم كبارا.
وقد حذر الشيخ محمد الغزالي، من تحول الأسرة لمطعم وليس محضنا للتربية، فقال :” إذا لم يتعلم الولد الصدق فى البيت فأين يتعلمه؟
وإذا لم يتدرب على الوفاء والأمانة والرقة بين أحضان الآباء والأمهات فأين يتدرب؟
هل وظيفة البيت توفير العلف لسكانه وحسب؟!”.