تناول الهوية من خلال اللغة أو الدين أو التقاليد لم يعد كافيا للوصول إلى التوصيف الدقيق، لا سيما في زمن مواقع التواصل الاجتماعي وأشهرها “فيسبوك”، و”تويتر”.
انطلاقا من هذا المبدأ يوجه الباحث المغربي عبد الحكيم أحمين، انتباه المفكرين والباحثين إلى ضرورة إعادة النظر في مسألة الهوية.
تلك المحاولة جاءت عبر كتابه “الهويات الافتراضية في المجتمعات العربية..أي دور لمواقع التواصل الاجتماعي في تشكيل الهوية؟”.
الكتاب الصادر مؤخرا عن دار الأمان بالرباط، يقع في حوالي 190 صفحة، ويتوزع على ثلاثة فصول يهتم الفصل الأول فيه بالهوية في عصر الاتصال والإعلام، وفيه يعرج الكاتب عن المحددات المفاهيمية للهوية ومواقع التواصل الاجتماعي وعلاقات التأثير والتأثر بينهما.
فيما يفصّل الفصل الثاني في مسألة الهويات الإفتراضية، متوقفا عند مفاهيم الهوية الإلكترونية، والهوية الشخصية، والهوية الطائفية، والهوية الجمعية، والهوية الوطنية، والهوية العربية، والهوية الإسلامية.
أما الفصل الثالث فهو عبارة عن دراسة تطبيقية للدور الإعلامي لمواقع التواصل الاجتماعي في تشكيل هوية المجتمعات العربية والإسلامية.
ويحاول الكتاب، حسب صاحبه، إماطة الحجب الذي يحول دون رؤية الهويات المتعددة والمتصارعة في الواقعين الحقيقي والافتراضي.
ويسعى إلى التعريف بها وكيفية نشوئها، ويوضح بعض عناصرها ومقوماتها وسماتها، ويحلل بعض آلامها وآمالها.
ويركز في ذلك على مواقع التواصل الاجتماعي باعتبار أنها صارت قبلة للملايين، خاصة الشباب والأطفال، ليوضح الأجواء المحيطة بهذه الهويات في الواقع الافتراضي أو الرقمي.
إعلام جديد
ينطلق الكاتب من أن الإعلام الجديد، بما في ذلك مواقع التواصل الاجتماعي، كشف الكثير من القضايا والأمور والمسائل التي كانت خاملة أو مضمرة في واقع الناس، لكنها لم تجد الوسيلة الأوسع انتشارا، ولا الفرصة المناسبة للتعبير عن نفسها.
هكذا صارت حلبة الإعلام الجديد تعجّ بخطابات متنوعة -وأحيانا متضاربة- عن الهوية، وتشهد ميلاد هويات جديدة وأخرى تقليدية تبحث عن موطئ قدم بين نظيراتها.
وحسب الكاتب فقد أدت التطورات، على مستوى الوسائط، إلى بروز “الكثير من الهويات التي كان يظن البعض أن أغلبها هويات افتراضية في عقول بعض النخبة والمثقفين ..وغيرهم، أو أنها انقرضت بفعل السطوة الأمنية للدولة القطرية، أو أنها انكمشت إلى مجموعة من الناس منزوية في شعب من الشعاب أو جبل من الجبال، أو في بيوت معدودات”.
عوامل تاريخية
يرى الكاتب أنه بسبب عدد من الأحداث التاريخية، منذ حادث 11 سبتمبر 2001، وغزو أفغانستان في العام نفسه، واحتلال العراق عام 2003، تم إحياء هويات من الماضي لتصير هويات جديدة، مثل الهوية العرقية والهوية الدينية والهوية الطائفية.
وبينما كثفت الهويات السالفة الذكر حضورها بين أفراد من المجتمع عبر أشكال الاتصال والتواصل التقليدية، يذهب المؤلف إلى أنها استغلت الخدمات التي توفرها الوسائل الاتصالية المتجددة، فأنشأت لها مواقع إلكترونية ومدونات وصفحات تواصلية على يويتوب وتويتر وفيسبوك وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي.
بالمقابل ساهمت عوامل عدة -حسب الكتاب- في إعادة إحياء الهوية الشخصية المنعزلة تارة، والمتشابكة واقعيا وافتراضيا مع هذه الهوية أو تلك، كما أفرزت البيئة الاتصالية الجديدة ما تسمى الهوية الإلكترونية التي قد تطابق الهوية الشخصية الحقيقية أو تخالفها تماما أو تناقضها في جوانب محددة.
لذلك يعتبر الكاتب أن ما استحدث بسبب الإعلام الجديد يزيد من صعوبة التوصل إلى تعريف جامع ومتفق عليه للهوية وتحديد مضامينها وعناصرها ومقوماتها الثابتة والمتغيرة، والأساسية والثانوية، لكنه في الوقت نفسه يزيد من توسيع دائرة التعريف.
هويات افتراضية
ويتبنى الكتاب تسمية الهويات الافتراضية لكون هذه الهويات ما تزال افتراضية وغير واضحة المفهوم لدى عموم الناس.
وأيضا باستحضار أن الشباب والفتيان، الذين يبحرون في عوالم الإنترنت عبر أجهزة إلكترونية متعددة، صاروا يملؤون ذاكرة هويتهم الشخصية بما يروج فيها، ما أدى إلى غرقهم فيما يسميها البعض “ثقافة التفاصيل”.
ومما يزيد من تأكيد مفهوم الهويات الإفتراضية عند المؤلف هو أن “بعض الهويات الموجودة بين شعوب المجتمعات العربية لا تزال هويات افتراضية برزت على شبكة الإنترنت وتتفاعل عبر هذه الشبكة، لكنها لا تستطيع أن تعيش على أرض الواقع، أو أنها لا تزال في مخاض لبلورة نفسها في صورة محددة”.
ويخلص الكاتب إلى أن ترك الهويات افتراضية وعدم توضيحها توضيحا شافيا، من شأنه أن يساهم في تناسل هويات افتراضية أخرى.
كما أنه يحول دون التعارف بين الهويات، التي توجد على أرض الواقع، ويحول أيضا دون التعايش بينها.
ويشدد على أنه “كلما كشفت كل هوية عن وجهها الحقيقي، إلا وساهمت في ردم هوة سوء الفهم وهو ما سيعطي للفرد والأمة مزيدا من الشعور بالأمن والاستقرار النفسي والثقافي والسياسي ويعزز من المصلحة العامة”.