من خلال رصده لدواعي الحضور المستمر لعطاء ليوناردو دافنشي المبهر والمتنوع حتى أيامنا هذه، سلط مايكل غلب الضوء على الأسرار السبعة لعبقرية لا تكمن فيما خلفه صاحبها من آثار، بل في حثنا على الإبداع و خلق الجمال. يعرض مؤلف كتاب ” كيف تفكر على طريقة ليوناردو دافنشي ” بداية لطبيعة المرحلة التي ظهر فيها ليوناردو دافنشي ، والأثر الذي أحدثه فكر النهضة على جميع الأصعدة في أوروبا. ويرجع الفضل في ذلك إلى الطاعون الأسود الذي اجتاح أوروبا منتصف القرن الرابع عشر وأهلك ربع سكانها، ولم يميز في حصده للأرواح بين فلاح أو نبيل أو كاهن. آنذاك تبين للناس أن الولاء للكنيسة، وبذل الصلوات و الأدعية غير كاف لإبعاد شبح الوباء، ولابد من التفكير في مستلزمات دنيوية لضمان الحياة الكريمة للإنسان، باعتباره مخلوقا على صورة الله ومثاله !
دشنت الثورة النهضوية إذن مسيرة جديدة توالت خلالها المخترعات، وازدهرت الزراعة والطب وسائر العلوم والفنون. وتنوعت الأنظمة السياسية والاقتصادية لتجعل هدفا لها سعادة الإنسان وراحته. فكان أبلغ درس تعلمته أوروبا من طوفان الموت العارم هو انعتاق العقل البشري من القيود التي حالت دون تفجر طاقته.
لفت ليوناردو الأنظار إليه منذ طفولته. وما إن بلغ العقد الثاني من عمره حتى ذاعت شهرته كرسام وفيزيائي وموسيقي بارع، إضافة إلى ما تمتع به من ملكة جذب الانتباه بلباقة حديثه. فتدرج في مناصب عديدة لأمراء فلورنسا وميلانو قبل أن يستقر به المقام في قصر الملك الفرنسي فرانسوا الأول سنة 1516. لكن القدر لم يمهله ليكمل لوحاته وينفذ تصاميمه، حيث لفظ أنفاسه في أيار من عام 1519 عن عمر يناهز السبعين.
ورغم أن حياته كانت مزيجا من التناقضات والمفارقات، والترحال الدائم نتيجة الاضطرابات السياسية، إلا أنها خلدت اسمه كرمز للعبقرية. إنه، كما يقول ديميتري ميركوفسكي، أشبه برجل نهض من النوم بينما الآخرون غارقون في سباتهم. فقد صمم عدة مخترعات كالطوافة، والسلم المتحرك الذي يستعمله رجال الإطفاء حتى اليوم، و الدراجة، وبذلة الغطس، ومعاصر الزيتون، وكرسي المعاقين وغيرها. وفي مجال الهندسة العسكرية وضع تصاميم أسلحة عديدة جرى تنفيذها بعده بنحو أربعة قرون، منها الرشاشات ومدفع الهاون، و الصواريخ. وفي علم التشريح كان سباقا إلى الدراسة العلمية للجنين في رحم أمه. أما في الفيزياء وعلم النبات فإن أبحاثه مهدت لعدد من النظريات والتخصصات الحديثة، ليمكن القول أنه أحد أهم واضعي الأسس الفكرية للعلم الحديث !
شكلت الرغبة في المعرفة طبيعة ليوناردو. وهي في الحقيقة طبيعة كل مولود يولد معه ألف سؤال وسؤال. فالفضول مبني على حافز طبيعي، غير أن التحدي هو في استغلاله لتنمية مداركنا وقدراتنا العقلية، ومتابعة التوق إلى المعرفة، واكتساب الخبرات، والتساؤل عن الحقيقة والجمال. كتب ليوناردو في إحدى ملاحظاته:” جئت من الريف أبحث عن أجوبة لأسئلة تقلقني. لماذا توجد المتحجرات على رؤوس الجبال، إضافة إلى بقايا مرجان وأعشاب لا تنبت عادة إلا عند شاطئ البحر؟ لماذا يستغرق الرعد مدة أطول من تلك التي يستغرقها مسببه الرعد؟ لماذا الضوء أسرع من الصوت؟ لماذا تتشكل دوائر مائية إذا ما رميت حجرا في الماء؟ ” إن الافتتان بالمعرفة هو ينبوع التساؤل عن كل شيء، وفي حياة ليوناردو فإن حبه للمعرفة قادة إلى عشق الحرية، فلم يكتف بدراسة التحليق عند الطيور بل كان يتهجم على بائعي الأقفاص في شوارع فلورنسا، ويدفع ثمنها ثم يفتح لها الأبواب لتعانق الفضاء مجددا !
حاول إذن أن تفعل شيئا، وارخ العنان لفضولك كي يتجدد السعي نحو اكتساب المعرفة و الوصول للحقيقة.
في المبدأ الثاني نتلمس فضيلة التتلمذ على يد أساتذة أكفاء، يؤمنون بأن الخبرة هي مصدر الحكمة، و الإثبات هو المفتاح لتحصيل الخبرات. لقد اكتسب ليوناردو معظم خبراته من أستاذه الرسام و النحات أندريا ديل فيروتشي، حيث تشكل نزوعه المعرفي بفضل أستاذ يعتمد الملاحظة المباشرة والتجربة أكثر من النظريات. وتتجلى عبقريته هنا في استقلاليته الفكرية، و انتقاده للمفاهيم المتبعة في التعليم، خاصة الغموض الذي يشوب بعض معارف عصره آنذاك، كالكيمياء الكاذبة والتنجيم. إن رفضه تقليد الآخرين، واعتماده الشك طريقا للحقيقة أسسا لاحقا لعظمته التي عبر عنها بقوله:” إن من أراد الاستفادة من كرم الطبيعة فعليه التعامل معها مباشرة، وليس من خلال أي شيء، أو عبر أي أحد “
شكل مبدأ الإثبات ميزة أساسية لعصر النهضة، حين وُضعت الأحكام المسبقة والافتراضات الأساسية على محك التجربة. وإذا أردنا اقتباس طريقة ليوناردو فلا مناص إذن من تحدي الذات أولا، وإعادة النظر في آرائنا ومفاهيمنا، والإيمان بأن كلا من النجاح و الفشل هما مصدران للتعلم !
آمن ليوناردو بأن سر إثبات الشيء يكمن في الحواس باعتبارها مفاتيح أبواب الخبرة اليومية. فكان يمضي وقته في النظر، واكتشاف عناصر الطبيعة. وسمحت له حدة نظره بتجسيد الأحاسيس البشرية عبر لوحاته، والاهتمام بتنمية الحواس الخمس لكونها مجلس وزراء الروح على حد قوله. ومن يراجع مخطوطته عن تحليق الطيور يقف على وصف لأدق تفاصيل حركة الجناحين والريش، مما اعتُبر آنذاك ضربا من الخيال قبل ظهور تقنية التصوير البطيء !
يشكل ترهيف الحس والنظر استمرارا في استعمال عقولنا واكتساب الخبرات، لذا يتحدث سيرج براملي، أحد كتاب سيرة دافنشي، عن برنامجه لتنمية الإدراك الحسي، وإخضاع العقل لتدريبات معينة تحقق وحدة الذهن و اليقظة، خاصة في عصرنا هذا، عصر زحمة السير و الضوضاء و المنبهات، حتى صرنا كما قال ليوناردو ” ننظر دون أن نرى” .
ينص المبدأ الرابع على الشك والتساؤل كمدخلين لتبديد الغموض الذي يحيط بنا، وتفسير التناقض لمواجهة كل ما هو غير مؤكد أو مثبت علميا. ويظهر هذا المبدأ جليا عند ليوناردو في عدم مجاراته للآخرين، سواء في دراساته، أو في لوحاته الفنية. لقد أدى به بحثه عن الجمال مثلا إلى اكتشاف مختلف بشاعات الحياة، ليصور الطوفان أو المعارك كما يصور الزهرة الموحية والمفعمة بالدفء. واستمد من التناقضات حبه لكل مظاهر الحس الإنساني. ويكفي في هذا الصدد ما تثيره ابتسامة الموناليزا حتى اليوم لدى نقاد الفن من دلالات متضاربة، يلتئم فيها الخير مع الشر، والإجرام مع البراءة، و الإغواء مع الطهارة، والزمني مع الأبدي.
وكما آمن بالشك والتساؤل فقد حرص أيضا على المزاوجة بين رؤيتي الفنان و العالِم، ودافع عن التكامل كمبدأ أساسي مادامت العلوم ،كما الفنون، تهدف لشيء واحد هو فهم الطبيعة. وحذر من الفصل بينهما في مقالة له عن الرسم قائلا:” إن أولئك الذين انجذبوا نحو الفن دون الاهتمام بدراسة العلوم، مثلهم مثل قبطان السفينة العائمة في البحر، إنما دون بوصلة أو مجاديف، مما يجعله عاجزا عن الوصول إلى المرفأ الذي يريد” .
إيمانه بإحداث توازن بين نصفي الدماغ البشري حمله على تعويد طلابه على تقوية قدراتهم التخيلية، جنبا إلى جنب مع قدراتهم العقلية والتحليلية. فأوجد بذلك تقليدا جديدا قوامه الإبداع الجماعي والفكر الخلاق كمنهج عقلي.
وإذا كانت الصورة النمطية التي تسود أذهاننا عن العبقري هي تمثله في هيئة شخص نحيل يرتدي نظارات سميكة، فإن ليوناردو يعكس الصورة تماما ليجعل اللياقة البدنية والقدرات الجسدية المميزة من مبادئ العبقرية. فكان حريصا على ممارسة التمارين الرياضية، كالمشي والسباحة والمبارزة وركوب الخيل، مما أكسبه ليونة بارزة. بل إن الملاحظات التشريحية التي تهم تصلب الشرايين، ونظام مناعة العصاب راجعة بالأساس إلى اهتمامه بالرياضة، واتباع نظام غذائي متوازن. إنها مقاربته الخاصة لتحقيق اللياقة والتناسق بين الجسد والفكر، حتى اشتهر بين الناس باتزانه وسيره المستقيم دون بذل جهد، فكان سكان فلورنسا يتجمعون فقط لرؤيته يمشي في الشارع !
ويشير المبدأ الأخير إلى الترابط الذي يجمع بين الأشياء، ويحدد العلاقات والصور الموجودة في العالم، تماما كالتموجات المائية التي يُحدثها حجر في بركة الماء الراكدة. ولعل أحد أسرار عبقرية ليوناردو يكمن في اعتماده طول حياته على تجميع ووصل العناصر المختلفة لخلق نماذج جديدة. لذا عندما طُلب منه رسم وحش على درع أحد المزارعين، جمع في غرفته عددا من الزواحف والسحالي والخفافيش والصراصير ليمزج بين أشكالها، ويرسم وحشا مرعبا يُخرج من فمه أنفاسا سامة وألسنة نار. الرسم الذي صُعق والده حين رآه، فأعطى المزارع درعا آخر، وباع الذي أعده ليوناردو بمبلغ طائل لتاجر فلورنسي.
ومن العادات التي يوصي بها ليوناردو لالتماس الترابط واكتساب مهارة مزج الأشكال المختلفة، أن يراقب المرء الغيوم في تشكلها وتلاشيها، وتصاعد بخار الماء إلى الهواء، وظهور طبقة الجليد على الأحجار في الأماكن الباردة. وإذا كان الباحثون يعيبون عليه العشوائية في تدوين آلاف الملاحظات دون الحرص على وضع تصميم أو فهرسة، فلكونه يدرك وحده حجم الترابط بينها دون الحاجة إلى تفييء أو رسم مخطط، وتلك صورة اخرى من صور عبقريته التي لا تؤمن بالقوالب المعدة سلفا .
إلى جانب المبادئ السبعة الملهمة لإحداث التغيير، والتخلص من السلبية والخمول، والرؤى المنحازة وغير الواقعية، أثرى المؤلف مايكل غِلب في كتابه ” كيف تفكر على طريقة ليوناردو دافنشي ” بقائمة دسمة من التطبيقات والتمارين، وقوائم التوجيهات والملاحظات التي تجعل استيعاب كل مبدأ أمرا في غاية اليسر. وبذلك أضاف للحضور المتجدد لليوناردو دافنشي وهجا وألقا مميزين، في عالم سمته التخصص والتشرذم، والانزياح المفرط عن خط الحياة المستقيم !
إقرأ أيضا :5>