وصلني موضوع مثير وشائق بهذا العنوان عبر الواتساب، كيف تكون فاسداً ؟، وقد تحدث كاتب الموضوع عن طرق ووسائل عديدة لدخول عالم الفساد – ليس من باب الحث عليه بالطبع – ولكن من باب السخرية وبيان كيفية ولوج الناس لهذا العالم الرديء الواسع، والكثيرة أبوابه، ونوافذه، وثغراته. وبالطبع لن تجد كيفية دخول عالم الفساد هاهنا، ولكن فرصة للحديث عنه بعض الشيء.
الفساد في اللغة هو الخروج عن الاعتدال، سواء كان قليلاً أم كثيرا. وهو ضد الاستقامة. أما منظمة الشفافية العالمية، فهي تعرّف الفساد بكل اختصار على أنه إساءة استغلال للسلطة، أو الصلاحيات الممنوحة للشخص، في سبيل تحقيق مصالح شخصية على حساب المصلحة العامة.
عالم الفساد هذا كبير ومتنوع، بل متشعب أو كشجرة متداخلة أطرافها وفروعها وأغصانها. وكلما تُركت شجرة الفساد دون علاج حاسم حازم، كلما تعمقت جذورها وغاصت في الأرض، فتقوى بذلك أغصانها وفروعها وتتمدد، ويقوى قبل ذلك كله، جذعها الرئيسي، فتظهر شامخة ثابتة وكأنها لا تتزعزع، فيما المجتمع الذي تتفرع فيه وتزدهر تلك الشجرة، فهو الضحية بكافة المقاييس.
أي إنسان منا عنده القابلية لأن يكون فاسدا أو مصلحا مستقيما. كل إنسان بحسب فطرته، تجد في تركيبته الخير والشر، {إنا هديناه النجدين} [البلد:10]
أي طريقين. طريق الخير والشر. وقد ” استُعيرت الهداية هنا للإِلهام الذي جعله الله في الإنسان يدرك به الضار والنافع – كما قال ابن عاشور في تفسيره – وهو أصل التمدن الإنساني وأصل العلوم والهداية بدين الإسلام إلى ما فيه الفوز”.
معنى ذلك أن الفساد أو الدخول إلى عالمه، قرار شخصي يتخذه الإنسان بنفسه أو بتأثير من الآخرين. إلا أن القرار النهائي عند الشخص نفسه، مهما كان تأثير الغير قوياً عليه. وإن دخول هذا العالم، ليس كالخروج منه. قد يدخله الشخص بسهولة ويسر، وتكون أبوابه مشرعة مفتوحة وكأنما تهش وترحب به، مع شيوع تبريرات تبدو منطقية للشخص الراغب في عالم الفساد، بل ويقتنع بها!.
لكنه بعد حين من الدهر لا يطول كثيراً، يكتشف سوء فعله، من بعد أن يستيقظ ضميره أو دافع الخير فيه، ليجد الخروج صعباً، والأبواب قليلة جداً وقد تكون مغلقة موصدة، وإن وجد باباً للخروج فسيكون مخزياً ومؤلماً في الوقت نفسه.
الناس على دين ملوكهم
الفساد السياسي هو أس أو أم الفساد. بسببه يظهر الفساد الاجتماعي، والتجاري، والمالي، والإداري، وغيره. ذكر الإمام البخاري أن “امرأة سألت أبا بكر- رضي الله عنه – قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم. قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى. قال: فهم أولئك على الناس”.
تأثير الزعماء والحكام أو الطبقة السياسية، كبير على شعوبهم. هم بمثابة بوصلة للشعوب، وعليها تكون وجهتهم ومسيرهم. ذكر الحافظ ابن كثير في هذا المعنى عن الفاروق عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بعدما أرسل إليه سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – غنائم الفرس ورأى كثرتها وعظمتها، فقال: “إن قوماً أدوا هذا، لأمناء. فقال له علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – إنك عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعَت”. والرتع في اللغة العيش في رغد ورخاء ونعيم.
وقال أيضاً رحمه الله في ترجمة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك في كتابه التاريخي، البداية والنهاية: “قالوا كانت همة الوليد في البناء، وكان الناس كذلك، يلقى الرجلُ الرجلَ، فيقول: ماذا بنيت؟ ماذا عمّرت؟ وكانت همة أخيه سليمان في النساء، وكان الناس كذلك يلقى الرجل الرجل، فيقول: كم تزوجت؟ ماذا عندك من السراري؟ وكانت همة عمر بن عبد العزيز في قراءة القرآن وفي الصلاة والعبادة، وكان الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل، فيقول: كم وِرْدك؟ كم تقرأ كل يوم؟ ماذا صليت البارحة؟ والناس يقولون: الناس على دين مليكهم؛ إن كان خماراً كثر الخمر، وإن كان شحيحاً حريصاً كان الناس كذلك، وإن كان جواداً كريماً شجاعاً كان الناس كذلك، وإن كان طماعاً ظلوماً غشوماً، كان الناس كذلك، وإن كان ذا دين وتقوى وبر وإحسان كان الناس كذلك. وهذا يوجد في بعض الأزمان وبعض الأشخاص والله أعلم”.
خلاصة الحديث
مما سبق ذكره، يتضح أهمية صلاح الراعي لتصلح رعيته، فإن فساده هو إفساد لمن تحته، إلا ما رحم ربي، وقليلٌ ما هم. ولك أن تتخيل فساد صاحب القرار في أي مجتمع، أو مؤسسة، أو وزارة، أو هيئة، أو أي كيان يجتمع فيه الناس، كيف يكون الوضع. ستجد عدوى الفساد تنتقل بشكل طبيعي من الأعلى إلى الأدنى فالأدنى وهكذا.
إن كان المسؤول صاحب القرار هذا، أو الوزير أو المدير، يسرق ويرتشي، فالبيئة تكون مهيأة للمساعد أن يسرق ويرتشي، وهكذا العدوى تنتقل حتى تصل إلى أدنى الدرجات. ولا يتسع المجال هاهنا لسرد كل أنواع الفساد، الذي لا يقتصر على الفساد الإداري أو المالي أو غيرهما، ففي كل نطاق تجد فساد ومفسدين بصورة وأخرى، وبدرجة واضحة أو مستترة. ولأن المسألة تهم جميع المتضررين من الفساد، فالمنطق يتطلب هاهنا من الجميع أيضاً الوقوف ضد شجرة الفساد تلك، واجتثاثها من جذورها، لأن قطع بعض الأغصان أو الفروع أو الأوراق، ليس حلاً ولا علاجا. والأمثلة حولك في هذا العالم، أكثر مما يمكن ذكرها أو حصرها.