القيود في حياتنا كثيرة. منها مادية وأخرى معنوية نفسية، والأخيرة هي الأشد من بين كل القيود، والأكثر تأثيراً على المرء منا في كثير من مناحي الحياة. فالقيود النفسية، أو إن صح التعبير الذهنية، هي خليط من معتقدات أو أنماط تفكير يكون الإنسان قد نشأ عليها في بيئات معينة وفي أزمنة مختلفة، بعضها تكون غاية في السلبية، تحد من إمكانياته وتؤثر على سلوكياته وقراراته.
ربما تلك القيود تكون نتاج تجارب حياتية سابقة، كالفشل في دراسة، عمل، زواج، تجارة، أو غيرها من مجالات الحياة المتنوعة، أو ربما عن تأثيرات خارجية مبرمجة، تهدف إلى وضع الإنسان في بيئة افتراضية مغلقة، بحيث يشعر أنه مقيد لا يستطيع حراكاً !!
تلكم السلبية أو عدم القدرة على التحرك الإيجابي أو التخلص من تلكم القيود الذهنية الافتراضية، يسمى عند المشتغلين على سلوكيات الإنسان بالتردد، الذي يعني بكل وضوح، أن همساً أو صوتاً خافتاً يأتي من أعماق المرء يدعوه إلى عدم خوض ما هو بصدد الخوض فيه، أو ما يمكن تسميته بالرغبة في التغيير، بل يدعوه ذاك الصوت الهامس الخافت إلى التوقف والتفكر مرات ومرات، ويدخل عالم الوسواس القهري، حيث يبدأ الصوت الخافت ذاك، يقرأ عليه أوهاماً ويضع له افتراضات متنوعة لا أساس لها من الواقع الحقيقي، ثم يدعوه إلى تخيل صور سلبية بائسة فقيرة، إن هو خالف تلك الافتراضات أو الأوهام إن صح التعبير !
عند هذا النوع من البشر، تجد المستحيل عنده هو المحور الأساس في حياته، والذي تدور حوله غالبية المهام المطلوبة منه، أو التي له رغبة في القيام بها، حيث يعتبر بعضها أو جلها ضمن نطاق المستحيل، وذلك نتيجة القيود الذهنية الراسخة في أعماقه. وما من شك في أن تلك القيود تؤثر على انتاجياته، بل سائر شؤون حياته، فلا تجده تبعاً لذلك يخطو خطوة واحدة إلى الأمام يوماً، إلا وقد تراجع خطوتين أو أكثر، وهكذا تكون حياته.
القيود الذهنية هي التي جعلت المسلمين في حواضر إسلامية عظيمة مثل خوارزم وبخارى وبغداد على سبيل المثال لا الحصر، غاية في السلبية أمام جحافل المغول. فقد كان المقاتل المغولي الواحد يوقف عشرات من رجال ونساء المسلمين في مكان ما، ويطلب منهم السكون وعدم الفرار ريثما يأتي بسيف يقتلهم به !! وكان هذا الذي يحدث، كما تصف كتب التاريخ تلك الفترة المأساوية من تاريخ المسلمين !
السلبية نفسها جعلت بني إسرائيل تعيش حياة المذلة عند الفراعنة عقوداً طويلة. والسلبية أو القيود الذهنية هي التي أوصلت العالم العربي إلى حالة من الهوان اليوم أمام الكيان الصهيوني، والأمثلة كثيرة، لا تتسع المساحة لذكرها..
لكن حينما جاء الملك سيف الدين قطز مع الشيخ العز بن عبدالسلام وساهما في كسر القيود الذهنية التي صنعها المسلمون لأنفسهم في تلكم الفترة الحالكة، تم دحر الخطر المغولي، وكانت معركة عين جالوت بداية اندثار أولئك الهمج وخروجهم من التاريخ.
الإيمان بالله حين يضعف في القلب، لاشك أنه مسبب رئيسي لنشوء روح سلبية بالنفس، تعيق عن العمل والتقدم إلى الأمام. الإيمان وحده هو الذي يجعلك تؤمن بأقدار الله وقضائه، فيطمئن قلبك أولاً وبالتالي يدفعك إلى أن تتخذ كل أسباب التغيير وتحقيق النجاح، فتتوكل على الله في مسيرة التنفيذ، مصداقاً لقوله ﷺ: «اعقلها وتوكل». أي خذ بكل الأسباب الميسرة والمشروعة، ثم توكل على الله واتخذ قرارك ونفذ الأمر، وستجد التوفيق والنجاح أمامك وحليفك بإذن الله.
روى الإمام أحمد عن ابن الديلمي قال: أتيتُ أُبيّ بن كعب فقلت له: وقع في نفسي شيء من القدر فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي؟ فقال: لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم. ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم. ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله، ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار. قال: ثم أتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك. ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك. ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي ﷺ مثل ذلك». (1)
إن عمليات التغيير كخلاصة لهذا الحديث، تحتاج إلى تلكم النوعية الصافية من الإيمان بالقضاء والقدر، لأنها عمليات لا تتحمل التردد والبطء، أو الركون إلى الأوهام والافتراضات، أو ما اتفقنا على تسميتها بالقيود الذهنية. ولو كان كل البارزين على مدار التاريخ من القادة والحكام وعظام الرجال من المترددين، أو مثقلين بقيود ذهنية لا أساس لها من الواقع، لما برز أحد في هذا التاريخ ولما حدثت تغييرات دراماتيكية حاسمة تغير معها التاريخ.
