من نعم الله تعالى على عباده نعمة الأرض التي فرشها الخالق بين أيديهم وجعلها قرارا، وأجرى في مناكبها عيونا وانهارا، فأنبتت زروعا وثمارا، بعد أن أرسل الله السماء مدرارا.
ولا يمكن للإنسان الذي شرفه الله باستخلافه في الأرض، وحمله مسؤولية عمارتها أن يعيش فوقها إلا إذا قام بهذه الرسالة السامية، وذلك بالعمل المتواصل على استخراج كنوزها وخيراتها و استغلال مكنوناتها، وهذا لايتأتى له إلا بواسطة زراعتها وغرسها بجد ونشاط دائمين لعله يقوم بالأمانة الثقيلة التي حملها، وهي المشي والسعي في ارجاء الأرض بحثا عن الرزق الذي ضمنه الخالق عز وجل للمشتغلين ا لعاملين السالكين منها سبلا فجاجا.
وقد وردت عدة آيات قرآنية وأحاديث نبوية ونصوص فقهية تحث كلها على الانشغال بالزراعة والغراسة، وتبين فضلها ومكانتها في الشريعة الإسلامية التي أتت لخير الدارين، والتي دعت إلى التوازن بين مطالب الروح ورغبات الجسم في وسطية يتميز بها النظام الاقتصادي الإسلامي.
آيات قرآنية تحث على الانشغال بالزراعة
ومن تلك الآيات ما ورد في سورة “عبس” وفيه لفت الأنظار إلى نعمة الله بإعداد الأرض للزراعة بواسطة نزول المطر: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (٢٧) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (٢٨) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (٢٩) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (٣٠) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (٣٢)﴾. الآيات: من 24 إلى 32.
ولا شك أن الزراعة والغراسة يمثل كل منهما في عصرنا الحاضر إحدى الركائز الاقتصادية لأي شعب يطمح في الازدهار الاقتصادي، وزيادة الدخل الوطني، والاكتفاء الغذائي الذاتي.
ومن ذلك الأيات قوله تعالى في سورة “يس”: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (٣٥)﴾ الآيات: 33-34-35.
قال ابن كثير: “ومن المظاهر الدالة على وجود الصائع وقدرته التامة و إحيائه الموتى، الأرض الميتة” أي كانت هامدة ميتة لاشيء فيها من النبات، فإذا أنزل الله تعالى عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ولهذا قال تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ﴾، أي جعلنا رزقا لهم ولأنعامهم، وقال: ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (٣٥)﴾، أي جعلنا فيها أنهارا سارحة في أمكنة يحتاجون إليها، ولما أمتن الله على خلقه بإيجاد الزروع لهم عطف بذكر الثمار وتنوعها وأصنافها، وماذلك كله إلا من رحمة الله تعالى بهم لابسعيهم ولا بكدهم ولا بحولهم وقوتهم فتكون (ما) في قوله: (وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) للنفي، ولهذا قال تعالى: (أَفَلَا يَشْكُرُونَ)، أي فهلا يشكرونه على ماأنعم به عليهم من هذه النعم التي لاتعد ولاتحصى.
وجزم ابنة جرير بأ ن (ما) اسم موصول بمعنى الذي تقديره “لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ”، أي غرسوه ونصبوه، قال: وهي كذلك في قراءة ا بن مسعود رضي الله عنه: “لياكلوا من ثمرة ومما عملته أيديهم أفلا تشكرون”.
ومن الأيات التي ذكر الله بها عباده، ولفت أنظارهم إلى نعمة الأرض وتسخيرها لهم بإعدادها للزراعة قوله تعالى في سورة الملك: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ آية: 15.
قال ابن كثير: “يذكر الله نعمته على خلقه في تسخيره لهم الأرض وتذليلها لهم، بأن جعلها قارة ساكنة لاتميد ولاتضطرب بما جعل فيها من الجبال، أنبع فيها من العيون، وسلك فيها من السبل، وهيا فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار، ولهذا يجب المشي والسفر في أقطارها، والتردد في ارجائها في انواع المكاسب والتجارات، بحثا وسعيا في طلب الرزق، إلا أن هذا البحث والسعي لاينفع إلا أن ييسره الله لكم، ولهذا قال تعالى: (وكلوا من رزقه وإليه النشور) فالسعي واتخاد السبب لاينافي التوكل كما قال رسول الله ﷺ: “لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا” رواه أحمد والترميذي وابن ماجة والنسائي عن عمر بن الخطاب، فأثبت لها رواحا وغدوا لطلب الرزق مع توكلها على الله عز وجل وهو المسخر المسير المسبب، وإلى الله النهاية المرجع يوم القيامة”.
أما القرطبي فقد قال في تفسير هذه الآية: “هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا”، “أي سهلة تستقرون عليها، والذلول المنقاد الذي يذل لك، والمصدر: الذل، وهو اللين والانقياد، أي لم يجعل الأرض بحيث يمتنع المشي فيها بالحزونة والغلظة، وقيل: أي ثبتها بالجبال ليلا تزول بأهلها…وقيل: أشار إلى التمكن من الزرع و الغرس وشق العيون والأنهار وحفر الآبار…”.
ونعمة تسخير الله الأرض للإنسان يجب أن يقابل بالشكر، وذلك بالمحافظة عليها، والمحافظة عليها تكون بعدم تلوثها وإت لاف منافعها حتى تظل-كما أرادها الخالق-صالحة للاستغلال والانتفاع، قال تعالى في سورة “الأعراف”: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ الآية: 56.
لا يمكن للإنسان الذي حمل هذه الأمانة الثقيلة والمسؤولية الكبرى أن يقوم برسالة عمارة الأرض واستخراج كنوزها، والمحافظة على هذه البيئة نقية صالحة من هواء ومياه وأشجار ونباتات…إلا إذا واصل شكره العملي على هذه النعم ة لعله يضمن المزيد من خيراتها وبركاتها.
ومما ورد في القرآن من التنويه بالزراعة قوله تعالى في سورة “الذاريات“: ﴿وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ﴾، الآية: 48، أي أي بسطناها ومهدناها بين أيديكم ليسهل عليكم العمل فيها والانتفاع بثمراتها وخيراتها.
وفي آية أخرى من سورة “يس”: ﴿وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (٣٥)﴾، أي أن الله تعالى إنما أجرى العيون والينابيع في الأرض لتسقي بها الأراضي الزراعية، ثم تجني من ثمراتها وتنتفع بغلاتهاوقد ذكر الله ذلك في صدد الامتنان على البشر وتذكيرهم بالنعمة، وشكر نعمة الأرض إنما يكون بالإنفاع بها لابإهمالها على مرأى من المنعم، أي أن شكر نعمة الأرض التي فرشها الخالق تحت أرجلنا، وأجرى في جنابتها العيون والآبار القريبة من متناول أيدينا إنما يكون بالحرث والسقي والزرع والغرس، مع استعمال جميع الوسائل العصرية حتى تعطي إنتاجها أطيب، ومحصولا أغرز وأكثر، وكذلك زكاة ما تنبته منها، قال تعالى في سورة “البقرة”: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ﴾، الآية: 267.
“ولا يخفى أن زيادة الإنتاج الفلاحي وجودته إنما تكون باختيار التربة الصالحة لأي نوع من الإنتاج، وذلك يتوقف على تحليل التربة بالوسائل العلمية واستعمال الأذوية لحفظ الثمار والنباتات من الآفات التي تمنع إنتاجها، كل ذلك مطلوب لتكميل عملية الزرع والغرس حتى يسلم الإنتاج ويتضاعف المحصول، فينتفع الناس بذلك على أكمل وجه وأحسنه، ويجازي الله بفضله الزارعين والغارسين بقدر كثرة إنتاجهم وجودته.
أحاديث نبوية تشجع على الزراعة
فقد روى الإمامان البخار ي ومسلم أن رسول الله ﷺ قال: “لايزرع مسلم زرعا غرسا فياكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة”، وفي حديث آخر: “ما من رجل يغرس غرسا إلا كتب الله من الأجر قدر مايخرج من ثمر ذلك الغرس.
وهذا فضل كبير للغارسين والفلاحين، فهم يجنون أولا مختلف أنواع الإنتاج الفلاحي، وثانيا يكون لهم الجزاء ألأوفى في الأخرة، حيث يثيبهم الله من فضله على مابذلوه من جهد، وعلى ماساهموا به من رفع للمحصول الفلاحي، وكذا على مساهمتهم في الازدهار الاقتصادي وزيادة الدخل الوطني والاكتفاء الغذائي الذاتي، فينتفعون دنيا وأخرى”.
وهناك أحاديث أخرى تشجع على الزراعة وإحياء الأرض الغير الصالحة:
من ذلك الحديث الذي قال فيه النبي ﷺ: “من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يستطع وعجز عنها فليمنحها آخاه المسلم ولا يؤاجرها إياه” أخرجه مسلم، وأخرجه البخاري بلفظ: “من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها آخاه فإن أبى فليمسك أرضه.
وفي رواية مسلم عن جابر أن النبي ﷺ قال: “ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ماأكل منه له صدقة، وما سرق له منه صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة” سرزؤه: ينقصه.
وفي حديث آخر: ” ما من امرىء يحيي أرضا فيشرب منها ذو كبد حَرَّى أو تصيب منها عافية إلا كتب الله بها أجرا” والعافية هنا كل طالب رزق من إنسان أو بهيمة أو طائر، فالشارع يقول للزراع: عن لك من وراء منفعتك الخاصة الحاصلة من إحياء الأرض، منفعة عليك، وهي الأجر والثواب على ما تتناوله الطيور من ماء أرضك وثمارها، وإن كنت أنت أحيانا تكره ذلك ولاتريده، أي يكون لك الأجر بغير اختيارك، ولاينبغي أن يستغرب من ذلك، فقد روى البخاري ومسلم وأحمد والطيالسي من طريق جابر أن النبي صلى الله ع_ليه وسلم قال: “للغارس والغارس أجر في كل مايصيبه الناس والطير من ثماره”.
لكن كيف يكون إحياء الأرض؟
إن الأرض التي جعلها الشرع الاسلامي لمن أحياها تشجيعا للزراعة والعمران هي الأرض غير الصالحة بتاتا، وأما الصالحة بالأصالة فليست بالموت، ولاتحيي بالزرع وحده، أو تحجر بأعمال صورية بسيطة، وإنما الإحياء المطلوب يكون بالخلق والإبداع، ويتم باختفار العيون والآبار، وإجراء المياه في القنوات، وإيجاد تربة صالحة للتشجير والسقي، ثم مايتبع ذلك من مصالح البناء..”
وقد أشار القرآن الكريم إلى إحياء الأرض بالماء فقال تعالى في سورة فضلت: (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير)، الآية 39، والأرض الخاشعة هي اليابسة.
قال ابن آدم: “إحياء الأرض أن يستخرج منها عينا أو قليبا أو يسوق إليها الماء، وهي أرض لم تزرع ولم تكن في يد أحد قبله يزرعها أو يستخرجها حتى تصلح الزرع”.
ثم قال في صفحة 324: “وقال ابن حزم: “الإحياء هو قلع ما فيها من عشب أو شجر أو نبات بنية الإحياء لا بنية أخذ العشب والاحتطاب فقط، أو جلب ماء إليها من نهر أو عين أو حفر بئر لسقيها منه أو حرثها أو غرسها أو تزبيلها أو مايقوم مقام التزبيل من نقل تراب إليها أو رماد إلخ….
وجاء في الكتاب نفسه ص: 314 ما يأتي:
“ومن شرط الإحياء أن يقع في الإطار الذي حدده الشرع الاسلامي، وإذا وقع على يد الأخرين يعتبر باطلا ويسمى بالعرق الظالم، وفيه يروي الترمذي وابن آدم والبخاري معلقا أن النبي ﷺ قال: “من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق”.
قال ابن آدم في “تفسيره” قال هشام: “العرق الظالم أن يأتي ملك غيره فيخفر فيه”.
وقد روى البخاري ومسلم والإمام أحمد البيهقي أن النبي ﷺ قال: “من اقتطع شبر أرض ظلما طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين”…كما روى عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: “لعن الله من غير تخوم الأرض.
وأمام هذا النهي الصارخ يكون على الذين يقتطعون ويغيرون الحدود سواء حدود الأملاك أو حدود الدول أن يستعدوا لو عيد الله ورسوله”هـ.
بالإضافة إلى هذه الأحاديث وجدت أحاديث ونصوصا فقهية أخرى في مؤلف مخطوط بخزانة المسجد الأعظم بتازة، تحدث فيه مؤلفه السيد عبد الرحمان بن عبد القادر عن المغارسة وأحكامها، وقد سمى مؤلفه: “التيسبر والتسهيل في ذكر ما أغفله الشيخ خليل“.
يقول المؤلف بعد أن ساق بعض الأحادث السابقة الذكر:
“وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام: “من بنى بنياينا في غير ظلم ولاا عتداء، أو غرس غرسا في غير ظلم ولااعتداء كان له اجره جاريا مانتفع به أحد من خلق الرحمان تبارك وتعالى”.
قال بعضهم: “لا يختص حصول الثواب بمن باشر الغرس والزراعة، بل يتناول من استؤجر لذلك وتسبب فيه بوجه”.
قال النووي: “اختلف في أطيب الكسب فقيل: التجارة“، وفي: الزراعة وهو الصحيح، وقيل: الصناعة باليد” هـ.
وجاء في آخر هذ المخطوط ما يأتي تحت عنوان: خاتمة ختم الله لنا ولأحبتنا بالحسنى .. : “تقدم في أول هذا الكتاب مايتعلق بفضل الغراسة وفي معناها الزراعة لأنهما من باب واحد وعلى وجه متقارب، والمقصود بالكل إنما هو استعمال الأسباب مع التوكل على رب الأرباب والاستناد للملك الوهاب.
قال الله تعالى: (مايفتح الله من رحمة فلا ممسك لها ومايمسك فلا مرسل له من بعده)، وقال تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله).
وقد أردنا أن نذكر هنا كلاما للأئمة يناسب لما في أول الكتاب، لتكون الخاتمة مناسبة للفاتحة، والنهاية مرتبطة مع البداية، فنقول-والله المستعان-وعليه التكلان، ولاحول ولاقوة إلا بالله.
قال الشيخ القدوة الحافظ الأسوة محيي السنة ومميت البدعة أبو عبد الله ابن الحاج:
“اعلم-وفقنا الله وإياك-أن جميع الصنائع فرض على الكفاية، لكن بعضها آكد من بعض، فإذا فعل المكلف شيئا منها فينبغي أن تكون نيته فيه أن يقوم عن نفسه، وعن إخوانه المسلمين بنية فرض الكفاية ليسقط عنهم فرض ذلك، فيدخل في قوله ﷺ: “الله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه”.
ثم قال بعد كلام: “الزراعة منه أعظم الأسباب وأكثرها أجرا، لأن خيرها متعد للزراع ولإخوانه المسلمين وغيرهم من الطيور والبهائم والحشرات…وهي من اكبر الكنوز المخفبات في الأرض، لكنها تحتاج إلى معرفة الفقه وحسن المحاولة في الصناعة مع النصح التام والإخلاص فيها، فحينئذ تحصل الخيرات وتأتي البركات، وقد ورد أن من غرس غرسا لايأكل منه إنسان ولابهيمة إلا كان له صدقة، وورد ايضا: “أن الملائكة تستغفر للزراع والغارس مادام زرعه أخضر”، وإذا كان كذلك فمن أراد أن يشتغل بهذه الصناعة فإنه يتعين عليه تعلم مايتعلق بها من الأحكام إن كان أهلا للتعلم، وإلا فليسأل العلماء عما يحتاج إليه والذي ينبني عليه الأمر هو تقوى الله…
“وقد كان سيدي أبو محمد بن أبي جمرة رحمه الله تعالى يقول: “إن الهمم قد تقاصرت في العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، فعليكم بالزراعة فإنها تحصل الأجور الكثيرة أرادها أو لم يردها” وماقاله رحمه الله هو بين حتى أن كثيرا ممن هو مشتغل بهذه الصناعة مع نيته الصالحة يقال فيه أنه وجد كنزا، ولهذا المعنى كان أصحاب الرسول ﷺ قد انقسموا في تسببهم على قسمين: فمنهم من كان يعمل في الحائط والبساتين، منهم من كان يعمل في الأسواق وكلاهما حسن، لكن الزراعة لمن يحسنها أولى وأفصل إنما تقدم مما فيها من الثواب لمن يحسنها أولى وأفضل إنما تقدم مما فيها من الثواب والنفع والعام…”.
“وإذاكانت الزراعة بهذه المثابة وعلى هذه الحالة فينبغي بل تتعين المعرفة بلسان العلم في محاولتها، لأن بصلاح القوت يصلح القلب ويصفى الباطن، وقد ورد: “أن من أكل الحلال أربعين يوما نور الله وجهه وأرى ينابيع الحكمة من قلبه” وقال الرسول ﷺ: “طلب الحلال فريضة على كل مسلم بعد الفريضة”، أي بعدفريضة الإيمان والصلاة، وقال: “من بات تعبان من طلب الحلال بات مغفورا له، وأصبح والله راض عنه”.
ثم قال بعد كلام: “هذه الزراعة إنما تفعل مع وجود السلامة في الدين والعرض والمال، وأما مع ضدها فتركها متعين ويشتغل بغيرها، لأن آفاتها في هذا الزمان قد عظمت، وأما الغراسة فهي أخف من الزراعة لما فيها من سلامة أهلما غالبا من الذل والإهانة، لكن لابد فيها من العلم بها والعلم فيها، فالأول معرفة مايتعلق بها من الأحكام، (انتهى كلامه رحمه الله).
وقال الشيخ الحافظ النووي: اختلف في اطيب الكسب فقيل، التجارة، وقيل: الصناعة باليد، وقيل: الزراعو وهو الصحيح، إذا كان يتولى ذلك بنفسه لما فيها من كونها عمل اليد، ولما فيها من التوكل، ولما فيها من النفع العام، ولأنه لابد في الغالب أن يوكل منها بغير عوض…”، وفي الحديث: “ماأكل أحد طعاما قط أحل من كسب يده.
ومما تقدم من الأحاديث نتأكد أن الإسلام جعل على كل الغلات والإنتاج الفلاحي صدقة يكتبها الله للزراع والغارس في صحيفة حسناته، وقد قال بعض العلماء: أطيب الكسب الزراعة وهذا صحيح، لأن الزراعة يتوقف عليها المجتمع في كل وقت باستمرار، بينما كثير من الصنائع وسيلة إلى الزراعة والانتاج الفلاحي، ومن نظر إلى الثواب الذي وعد به الرسول عليه السلام الغارسين والزارعين يرجح هذا ولاشك.
يقول أحد الكتاب المعاصرين:
“وبما أن الانتاج الزراعي بمختلف أنواعه يعتبر إحدى ركائز النهضة الاقتصادية، فينبغي أن نشير هنا إلى ميزة كبرى يتميز بها النظام الاقتصادي الإسلامي، هذه الميزة هي: أن الإسلام لاينظر إلى الم عاملات الاقتصادية على أنها معاملات بين الناس بعضهم مع بعض فحسب، بل ينظر إليها كذلك على أنها معاملات بين العبد وربه، ولايجعل ثواب يسير على تعاليمه في شؤون الاقتصاد مقصورا على ماعسى أن يناله من خير في الدنيا، بل يعده كذلك بأجر كبير في الأخرة، ولا يجعل عقاب من ينحرف عن تعاليمه في شؤون الاقتصاد مقصورا على ماعسى أن يصيبه من ضرر في الدنيا، بل يتوعده كذلك بعذاب أليم في الآخرة، وبذلك يضم الإسلام في شؤون الاقتصاد إلى الوازع الدنيوي وازعا آخر أقوى كثيرا وأشد تأثيرا وهو الوازع الديني الأخروي”.هـ.
وبعبارة أخرى أن الإسلام لايفصل الدين عن الدنيا كما فعلت الدول الغربية، وإ نما تسير جميع تعاليمه الدينية والدنيوية متوازية في وشطية واعتدال محمودين.
ولعل في هذه الآيات التي سقناها، والأحاديث الن بوية التي ذكرناها، والنصوص الفقهية التي جلبناها مايعطينا صورة جلية- ولو مختصرة-عن مدى اهتمام وعناية شريعتنا السمحة بزراعة الأرض وغراستها، هاتان الركيزتان تعتبران في عصرنا إحدى أعمدة ا لنهضة الاقتصادية.
وتنمية هذين الموردين الغذائيين بالطرق العصرية تساهم بكيفية فعالة في ازدهار الاقتصاد الوطني، وزيادة الدخل الفردي، والاكتفاء الغذائي الذاتي المنشود.