قد يتفاجأ المرء حين يتتبع طريقة عرض القرآن للجوانب البشرية من حياة الأنبياء عليهم السلام، ذلك بأن الاختصاص الرباني والتسامي الروحي والخلقي الذي حباهم الله به لا يكون حجة على الخلق إلا إذا كان يصدر من بشر له نوازع وغرائز، ولكنه استطاع بعزيمة صلبة وإيمان كراسيات الجبال أن يتعالى على نداءاتها المُلِحَّة التي أسقطت كثيرا من الخلق في فخاخ المعصية والاستكبار.
لذلك كان القرآن حريصا أن يؤكد هذه الخاصية (البشرية) في أنبيائه ورسله كلما عرض لقصة أحدهم، فتكرر في القرآن قوله على ألسنتهم عليهم السلام (إنما أنا بشر)(قل إنما أنا بشر مثلكم)، نعم هم بشر ولكنهم خير البشر بما اختصهم الله به من نبوة ورسالة وبما ارتقوا في إيمانهم وأخلاقهم إلى مقامات عالية،
ثم إن القرآن حرص أيضا على إبراز هذه الخاصية (البشرية) في حياتهم وكيف كانوا يسمون على نوازع النفس وغرائز الجسد في مجاهدة بشرية ظاهرة، إنه يعرض حياتهم في ثوب من الجمال السامي والبشرية المترفعة، ولكنها لا يقدمهم أنهم ملائكة لا علاقة لهم بحياة الناس ولا بنوازع النفوس، ولنأخذ أمثلة من ذلك:
آدم ووسوسة الشيطان
إن القرآن حين عرض لقصة أبي البشرية آدم عليه السلام وأمنا حواء في سبب إهباطهما من الجنة لم يتحرج من ذكر المدخل النفسي الذي دخل منه الشيطان إلى نفسيهما عليهما السلام، أي مدخل غريزة حب البقاء الراسخة في فطرة النفس البشرية، قال عز وجل:(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى)، ثم قال بعد ذلك:( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)، إنه يعرض التجربة بصدق يكشف نوازع النفس ولكنه يتبع ذلك بما يليق بمقام نبي من سرعة الإنابة والرجوع، فإن آدم وحواء عليهما السلام ما لبثا أن نهضت في نفسيهما طهارة الروح وصدق الإنابة، فقالا في اعتراف واعتذار:(قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
سليمان عليه السلام طالب المغفرة والملك الفريد
إن الله سبحانه وتعالى يعرض لنا في القرآن قصتين عن سليمان عليه السلام، تدلان على ما ذهبنا إليه ـ وهو المقرر لدى علماء الأمة ـ من أن الله أراد أن يبرز بشرية أنبيائه ورسله عليهم السلام كي يقيم الحجة على الخلق، إن سليمان عليه السلام نبي كريم ولكن القرآن لا يتردد في عرض شخصيته بواقعية مذهلة.
إنه كان ذات يوم يستعرض خيله الكرام (وخيله للجهاد في سبيل الله كما يقول المفسرون)، ثم إنه نسي الصلاة حتى غربت الشمس، فأحس بما يناسب مقامه النبوي من الندم والأسف على تأخير الصلاة والانشغال بجمال عرض الفروسية الذي كان يتابعه، والذي يظهر من السياق القرآني أنه كان عرضا في غاية الجمال (ذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ)، و(الصافنات) هي الخيل التي تقف على ثلاث قوائم وترفع الرابعة، ويروي المفسرون أنها كانت ذات أجنحة.
إن القرآن يعرض مشهد الانشغال بالخيل عن الصلاة في واقعية جميلة، ولا يلبث سليمان عليه السلام أن ينيب ويتوب كما يليق بني كريم، فيعاقب نفسه بأن يعقر كل تلك الخيل الجياد، حتى يبرهن أن قلبه مشغول بالله وأن الدنيا فيه خطرة ونزعة ولكن التربية النبوية والتسامي الذي يليق بالأنبياء يرفعه عن نزعاتها تلك.
أما الصورة الثانية الأكثر دلالة على هذا المعنى فهي دعاؤه بعد أن ألقي على كرسيه جسد (ويمكن متابعة تفاصيل القصة في كتب التفسير) فإنه لما (أَنَابَ) كما قال القرآن أتبع ذلك بدعاء مركب من طلبين؛ هما: المغفرة والملك الفريد، وإن الإنسان ليعجب ـ بل يستنكر أحيانا ـ أن يرى مثل هذا يذكر عن نبي، يتصوره الناس ملَكًا لا بشرا، لكن الله الذي اصطفاه يقول عنه ذلك.
قال سليمان:( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)، وفي هذا الاقتران المعجز بين طلب المغفرة وطلب الملك الفريد في دعاء نبي إشارة ظاهرة إلى أن المؤمنين هم أحق الناس بملك الدنيا وطيباتها لأنهم يعرفون كيف يصرفونها في مرضاة ربهم.
إن القرآن لا يترك ذكر طلب سليمان لملك لا ينبغي لأحد من بعده حتى وهو يقدم توبته الخاشعة لربه بعدما حصل له في كرسيه من إلقاء الجسد، هل يمكن بعد هذا أن يتأفف مسلم من طلب الدنيا، إن بعض كتب التربية السلوكية تجعل من طلب المؤمن ملك الدنيا وحيازة مقومات النفوذ والاستمتاع بطيباتها خطيئة تربوية ونقصا في الإيمان، والقرآن حجة ظاهرة عليهم.
نبينا عليه السلام غاية السمو البشري
أما الإلماعة القرآنية الثالثة فمتعلقة بنبينا عليه السلام، إنه أفضل الرسل وخير الخلق أجمعين ولكن القرآن يعرض لنا شخصيته في تساميها ونوازعها دون أي تحرج ولا مغالاة، يقول الله عز وجل مخاطبا نبيه عليه السلام:(لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا).
إن الذي يعنيني من الآية الآن هو قوله عز وجل(ولو أعجبك حسنهن)، وقد يتحرج بعض الناس من نسبة هذا للنبي ﷺ، ولا أحد أكرم عليه رسوله من الله عز وجل، وقد قالها بفصيح القول.
وليس الإعجاب بالنساء نقيصة، بل عدم الإعجاب بهن هو النقيصة لأنه يدل على نقص في الرجولة، وقد أكد النبي ﷺ في حديث البخاري أن حب الرجل للمرأة لا يدل على نقص عقله ولبه فقال:(ما رأيت ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل العاقل الحازم من إحداكن).
ولكنه القرآن يعرض قصص البشرية بل خير البشرية أنبيائه ورسله بواقعية محكمة تبين أنه لدى الإنسان القدرة على السمو من خلال هذه النماذج النبوية التي استطاعت أن ترتفع إلى سامي المقامات الخلقية والروحية رغم أنها تحمل نفس النوازع والدوافع البشرية.
إن حجبا كثيرة من التأويل حالت بيننا وبين هداية القرآن، وإن كثيرا من الأحكام التربوية والاجتماعية في حياتنا الواقعية تم تقريرها في غياب القرآن والسنة مما أوقع أمتنا في خلل تربوي وفكري كبير، لن يصلح إلا إذا عدنا إلى القرآن ذاته نستنطقه من جديد ونسأله عن حياتنا الإيمانية والتربوية والسياسية والفكرية إلخ، فإن به من العلم والإعجاز ما لا يمكن أن تنزحه دلاء الأقدمين ولا المعاصرين ولا اللاحقين، فهو الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه.