الأطفال نعمة عظيمة وتربيتهم وتأسيسهم أخلاقياً ومعرفياً وعقلياً مسؤولية جسيمة لا يجوز الاستهانة بها ولا التكاسل عنها، بل ينبغي على الآباء والأمهات أن يعطوا لتربية الأبناء وتكوينهم وتأسيسهم الحظ الأوفر من أوقاتهم مهما تزاحمت وتراكمت عليهم المشاغل الحياتية داخل البيت وخارجه، وفي هذا الإطار قد يكون السؤال الأكثر إلحاحاً لدى كثير من الآباء والأمهات هو: كيف نؤسس عقلية الطفل وكيف نكوِّنه أخلاقياً ومعرفياً؟.

وكمحاولة للإسهام في الإجابة على هذا السؤال المشروع، سنستعرض في هذه المقالة مجموعة من الأفكار التي قدمها الدكتور عبد الكريم في كتابه القيّم “تأسيس عقلية الطفل” الذي قسمه إلى قسمين: تناول في الأول وعي الطفل بذاته ومبادئ حياتية عامة، وتحدث في الثاني عن الطفل المفكر وأنواع التفكير وتكوين المفاهيم.

ولعلّنا لا نبالغ إذا قلنا إن كتاب عبد الكريم بكار -الذي نحن بصدد الحديث عنه- كتاب فريد في لغته وأسلوبه عظيم بأفكاره وأهدافه، ومن المفيد لكل أسرة مسلمة أن تطّلع عليه وتستفيد من أطروحاته وإرشاداته القيمة، وأن تحرص على تدارسه فيما بينها وأن تجعله من ضمن مكتبتها المنزلية، فهو كتاب جديد بالاهتمام غني بالأفكار الجيدة والقيّم الفاضلة التي لا يستغني عنها المربون في هذا العصر المزدحم بالأفكار التي تُفسد مستقبل الأطفال وتشوّش على عقولهم.

العناية بالتربية المنزلية

ليس من المجازفة القول إن أول أمر يجب التركيز عليه من أجل تأسيس عقلية الطفل هو أن نؤمن بأن مسيرة تربية الأطفال وتأسيسهم أخلاقياً ومعرفياً وعقلياً لا بد أن تنطلق من داخل البيت لا من خارجه لأن “كل مولود يولد على الفطرة“، ولهذا لا يمكن أن ننظر إلى المدرسة على أنها المؤسسة الأفضل ونُوكل إليها موضوع تربية وتأسيس عقول أطفالنا، لأن هذا الأمر دائماً ما “يدفع الأبوين إلى التراخي في القيام بواجبهما وتأجيل ما عليهما القيام به أملاً في توليه من قبل المعلمين بعد حين”، وقد أكد عبد الكريم بكار أن “هذا المفهوم المستبطن لدى كثير من الناس ترك آثاراً سلبية وسيئة على اهتمام المربين في البيوت، وأضعف من الدور الرئيس الذي كان عليهم القيام به في تهذيب أبنائهم.

إن هذا الكلام لا يعني أن علينا أن نهمل المدرسة وأن نمنع أبناءَنا من الذهاب إليها، وإنما يعني أن يقوم الآباء والأمهات بالأدوار التربوية المطلوبة منهم تجاه أطفالهم داخل المنزل قبل بلوغ سن المدرسة، وعند بلوغ سن الدراسة لا ينبغي أن نسجل أبناءَها في أي مدرسة وكأننا نريد أن نرتاح من أصواتهم وتصرفاتهم لمدة ساعات في اليوم، بل علينا أن نتعرف على بيئة ومناهج المدرسة التي سنسجل فيها أبناءَها، وأن نختار الأفضل لتأسيس عقلياتهم تأسيساً سليماً، وأن نعلم أننا “لو بذلنا من الجهد في اختيار مدارس أبنائِنا مثل الجهد الذي نبذله في شراء سلعة معمرة، لحصلنا على نتائج تربوية كبيرة”.

ومهما كانت جودة المدرسة التي اخترنا لأبنائنا، فإن الدور التربوي المنزلي سيظل قائماً وملحاً ومهماً ومطلوباً من المربين الذين يرى عبد الكريم بكار أنهم يحتاجون اليوم إلى أمرين مهمين، هما: تعلم الأساليب والممارسات الصحيحة في تربية الأبناء، ومعرفة عدد جيد من المفاهيم والرؤى التي تتصل بجوانب الحياة المختلفة، وقد صرح عبد الكريم بكار بأنه قام بتأليف هذا الكتاب (تأسيس عقلية الطفل) من أجل تلبية هذين الأمرين معاً وشرحهما على أفضل وجه ممكن.

توعية الطفل بذاته

أثناء تقديمنا للطفل رصيداً أولياً من الأخلاق والقيم خلال مراحل طفولته المختلفة، ينبغي أن نهتم بتوعيته بذاته وأن نستمر على ذلك حتى يُصبح ناضجاً وواعياً بذاته ودوره في الحياة، ولكن “لا ينبغي أن نتوقع من الطفل استيعاب كل ما نلقه إياه من أول مرة”، بل ينبغي أن نصبر عليه وأن نشجعه على المشاركة في المناقشات العائلية، وأن ندعم أسلوب التدريس الحواري داخل الفصول الدراسية، وأن نحرص قبل ذلك وأثناءَه وبعده على تجسيد الأخلاق الفاضلة أمام أعين أطفالنا في كل حين، لأن “أفضل طريقة للدفاع عن الأخلاق هي أن نتمثلها في سلوكها اليومي”.

وهكذا فإن توعية الطفل بذاته وتعليمه الأخلاق والقيم الفاضلة مسؤولية جسيمة تعود بالدرجة الأولى إلى المربي الذي لا بد أن يحرص على تطوير مهاراته في التربية حتى تثمر تربيته ثماراً يانعة، إذْ لا شك أن هناك فرقاً شاسعاً بين المربي الجيد والمربي السيئ، لأن “المربي الجيد يساعد من يربيه على الإحساس بالكرامة الشخصية، وعلى تكوين المغزى الشخصي الخاص، أي بلورة ما تعنيه القيم والمبادئ والأحداث بالنسبة إليه”، في حين أن المربي السيئ لا يهتم بهذه الأمور المهمة.

لقد أشار عبد الكريم بكار في هذا السياق إلى واجب المربين في مسألة تكوين الوعي الذاتي للأطفال، فذهب إلى أن أول ما ينبغي أن أول ما ينبغي ترسيخه في عقل الطفل هو أنه أحد مخلوقات الله، ثم العمل على تشجيع الطفل على قبول ذاته، والتأكيد على محدودية الإنسان وأنه ضعيف وزائل ولكنه ليس عاجزاً، وهنا نكتشف فرقاً آخر بين المربي السيئ والمربي الجيد، فالأول يهتم بسفاسف الأمور في حين يهتم الثاني بمعالي الأمور وربط ابنه بالله جل جلاله، ويصطحبه إلى المسجد ويدربه على المشاركة في الأعمال التطوعية والإغاثية.

ومن الأمور المساعدة على تأسيس عقلية الطفل وتقبل ذاته أن نحفزه على أن يكون في الموقع الصحيح، وهذا الأمر يتم -في نظر عبد الكريم بكار- من خلال جملة أمور، منها: أن نوضح للطفل أن من الطبيعي أن يولد بعض الأطفال داخل المدن ويولد آخرون خارجها، وأننا كمسلمين جئنا إلى هذه الدنيا لعبادة الله وحده لا شريك له، وأن الدنيا دار ابتلاء والمهم عند المسلم فيها ليس نوعية الابتلاء وإنما النجاح في الابتلاء والفوز الجنة والنجاة من النار يوم القيامة.

ولا جدال في أن من أهم الأشياء التي تساعد الطفل في اكتشاف ذاته وتقبلها أن يبتعد الآباء والأمهات عن السخرية من الأبناء إذا فشلوا أو وقعوا في خطأ ما، وأن لا يستخدموا المفردات الصعبة على الصغار والكبار مثل: “لا خير فيك”، “لا مستقبل لك”، بل عليهم أن يحذروهم من الخطأ وأن يدعوا لهم بالهداية، لأن المربي لا بد أن يتذكر دائماً أنه الطرف الناضج.

وقد ختم عبد الكريم بكار حديثه عن قضية وعي الطفل بذاته بالتأكيد على أهمية “النقد الذاتي” الذي يتطلب من الأسرة عدة أمور عند وقوع الطفل في الخطأ، منها أن تشجع صغارها على الاعتراف بالخطأ من خلال ممارسة الأفراد الآخرين للاعتراف بالخطأ واستخدام مفردات من قبيل: “عفوا، آسف”، “أنا مخطئ، أنا مستعد لإصلاح ما أفسدته”، وبهذا يفهم الأطفال قيمة الاعتراف بالخطأ، فيحرصون على الابتعاد عن الأخطاء والاعتذار عند الوقوع في الخطأ.

ثم إن هناك أمراً مهماً أيضاً في هذا المضمار وهو أن الأسرة تحتاج إلى “أن تجعل من المصارحة والمفاتحة أسلوباً أساسياً في التعامل مع بعضها: الأم والأب يصارحان الأبناء والبنات ويتحدثان معهم حول معظم الشأن العام”، وعند وقوع الطفل في خطأ ما لا ينبغي أن تكون العقوبة قاسية حتى لا يدفعه الخوف من العقوبة إلى ستر الأخطاء التي قد يقع فيها في المستقبل، فيلجأ إلى الكذب والنكران أو الهروب من المنزل الذي قد يشكل بداية للانحراف الخطير.

صناعة الطفل المفكر

في القسم الثاني من الكتاب، ركز عبد الكريم بكار على ثلاث قضايا رئيسية، هي: الطفل المفكر، وأنواع التفكير، وتكوين المفاهيم، ولا شك أن هذه القضايا تمسّ صميم جوهر الطفل وتساعد في تأسيسه تأسيساً نموذجياً، فنحن إذا نظرنا إلى فكرة الطفل المفكرة سنجد أنها فكرة رائعة وضرورية، فإذا كان الناس في العصور السابقة يعتمدون على الجهد العضلي بشكل كبير فإن الوضع في عصرنا اليوم مختلف، لأن “الجهد العضلي في بناء الحياة وازدهارها وفي الحصول على المال آخذ في التراجع شيئاً فشيئا لمصلحة الجهد الذهني والمعرفي”، وهذا الأمر يتطلب منا أن نبرمج عقلية أطفالنا على التفكير النموذجي، وأن نضع أمام أعيننا فكرة “الطفل المفكر” حتى ولو قال البعض إن التفكير عملية شاقة وأن الأطفال غير مؤهلين لها.

ومن هنا لا ينبغي أن نتكاسل عن تشجيع الأطفال على ممارسة عملية التفكير والعمل على فكرة “الطفل المفكر”، فقد أكد عبد الكريم بكار أن أفضل ما يقدمه الكبار للصغار هو مساعدتهم على إنارة عقولهم، من خلال التأمل وطرح الأسئلة، وتقديم المقترحات، وتعويدهم عدم القناعة بظواهر الأمور، والتفكير الذي يدعو إليه عبد الكريم بكار هنا ليس التفكير الذي يتمثل في تشغيل العقل من أجل تسيير الحياة اليومية الاعتيادية، بل “النشاط العقلي الذي يمارسه النابهون والممتازون من أجل كسب المزيد من المعرفة ومواجهة المشكلات وإبداع وسائل جديدة لجعل الحياة أسهل وأكثر أماناً”.

ولكي لا يحصل لبس لدى البعض بين هذين النوعين من التفكير، قدم عبد الكريم بكار مجموعة من الأمور التي تميز الطفل المفكر عن غيره وسماها “خصائص الطفل المفكر”، ومن أبرزها: الترحيب بالجديد، والتسامح مع الغموض، والتروي والأناة، وحب اللعب والمرح، والميل إلى الاستقلال، والاستقلال لا يكون في مجال واحد بل يكون في مختلف المجالات الحياتية، ولذلك نجد عبد الكريم بكار يدعونا إلى أن نسمح للطفل باستخدام طاقة التفكير لديه، لأننا “حين نتطوع للتفكير عن الطفل ونقوم بحل مشكلاته بالنيابة عنه، فإننا ندفع بإمكانياته الذهنية في طريق الخمول والضمور”.

وعندما فرغ عبد الكريم بكار من الحديث عن الطفل المفكر، انتقل إلى الحديث عن أنواع التفكير المهمة وضرورة مساعدة الطفل على ممارستها، فبدأ بالتفكير الإبداعي الذي تعتبر الطلاقة والمرونة من مكوناته الأساسية، ثم التفكير الإيجابي، والتفكير الواقعي، والتفكير الناقد، والتفكير الموضوعي.

تكوين المفاهيم الأساسية

وهناك قضية ثالثة اهتم بها عبد الكريم بكار في القسم الثاني من كتابه “تأسيس عقلية الطفل” -كما أشرنا آنفاً- تتمثل في تكوين المفاهيم الأساسية التي قد تواجهه في يوميات حياته، والظاهر أن هذه القضية تعد مسألة مهمة في تأسيس عقلية الإنسان بشكل عام والطفل بشكل خاص، لأن “قصور المفاهيم يشكل عاملاً مشتركاً بين كل المشكلات والأزمات التي تعاني منها الأمة” حسب تعبير عبد الكريم بكار.

إن أول المفاهيم التي توقف معها المؤلف في هذا المضمار هي “الحوار المثمر” الذي لا يهدف إلى إشعال الخصومة بين المتحاورين، بل يعتبر أداة أساسية للتفاهم وحماية المجتمع من التعانف والتباغض، ولهذا فقد ذهب عبد الكريم بكار إلى أننا لا بد أن ندرب الطفل على أن يعبِّر عن آرائه بأدب ولطف، وأن يشجع محاوره على أن يقول كل ما عنده، كما لا بد أن نؤكد للطفل أن الحوار فرصة للتعلم والتبصر وزيادة الوعي، وأن المحاور الجيد ينبغي أن يستعد للحوار، ويحرص على الشرح المفصل لوجهة نظره وسماع محاوره والاستفادة منه.

أما المفهوم الثاني فيتعلق بالحكم على الأشياء، حيث ينبغي أن نشجع الأطفال على أن يكون لهم حكمهم الخاص على ما يرونه من الأشياء ويشاهدونه من الأحداث والوقائع، ولكن مع ذلك ينبغي أن نرشدهم في هذا السياق إلى جملة أمور، منها: أن التريث في إصدار الأحكام خلق عظيم وعادة حميدة، وأن الأحكام ليست على درجة واحدة، فهناك أحكام شخصية ذوقية عامة قد تختلف حولها الناس، وهناك أحكام شرعية ليس مسرحاً للعامة بل متروكة للعلماء الراسخين وأهل الاختصاص.

ونظراً لأن هناك تداخلاً بين أحكام العقل وضغوطات العواطف، فإنه من المهم جداً أن نساعد الطفل في وضع بعض الحواجز بينها، خاصة إذا تذكرنا “أن قدرة الطفل على ضبط عواطفه محدودة، مما يجعل وقوعه في الكذب سهلاً، كما يجعل اختلاط الحقيقة بالخيال لديه أمراً وارداً”، ولهذا فإن الآباء والأمهات مطالبون بتعليم الأبناء ضبط عواطفهم والحرص على الصدق والابتعاد عن الكذب، ولا بد أن يكون الأب أثناء كل هذه المحاولات التأسيسية لعقلية الطفل متفائلاً وودوداً، لأن “الأب المتفائل يجذب أطفاله إليه، في حين يبعدهم المتشائم عنه.

ولا شك أن مفهوم الصداقة من المفاهيم المهمة عند الناس عامة والأطفال خاصة، ولهذا توقف عبد الكريم معه وحاول أن يتخيّل ما يخطر على بال الأطفال من أسئلة حول الصداقة وأجاب عليها، وقال إن من المهم للمربين أن يناقشوا تلك الأسئلة والأجوبة المتخيلة مع الأطفال، ومن أبرزها: هل كل الذين نختلط معهم يكونون أصدقاء لنا؟ هل كل من نعده صديقاً يكون موثوقاً؟ هل هناك من يتشاجر مع أصدقائه؟ هل يمكن للمرء أن يصادق أعداءَه؟ هل هناك صداقة دائمة؟

وقبل أن ينهي المؤلف حديثه عن مفهوم الصداقة، أشار إلى أن رعاية الصداقة تتم من خلال ثلاثة أمور، وهي: الكرم والبذل بين الأصدقاء، والحرص على مصلحة الصديق، وتحمل أذى الصديق والصبر عليه.