يعد كتاب: (الإسلام والعقلانية.. ضد الجمود وضد الإستلاب) للمفكر زكي الميلاد من الكتب القيمة، وذلك لجهة موضوعه، وطريقة معالجته، وما جاء فيه من مقاربات نقدية وتحليلية غطت المجالين الفكريين العربي والإسلامي، وتتأكد أهمية الكتاب وقيمته نظرا لقلة الكتابات التي تناولت موضوع الإسلام والعقلانية.
حاول المفكر زكي الميلاد في هذا الكتاب أن يفتح –حسب قوله- الحديث عن فكرة العقلانية في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر ، الفكرة التي شهدت تقلصا وتراجعا في مجتمعات المسلمين ، وكادت تتحول إلى فكرة منبوذة وغير محبذة لا أقل عند شريحة من الناس ، لأنها تحرض على نقد تقاليد ومواقف وسلوكيات اجتماعية وتربوية وثقافية .كما أنها الفكرة التي حاولت الاتجاهات المغايرة مصادرتها ، وإعلان تملكها وبطريقة حصرية والتباهي بها والتفاخر، وسحبها من ساحة الاتجاهات الدينية ، وذلك على خلفية أن الدين بطبعه وطبيعته يفرض قيودا على العقل .
ومن حيث الوجهة فإن هذا الكتاب ينتمي إلى حقل الإسلاميات المعاصرة.
احتوى الكتاب على مقدمة وخمسة فصول جاءت بعناوين قيمة، وتكونت من عناصر مهمة، حمل الفصل الأول عنوان: (إشكالية فكرة العقلانية في المجال العربي المعاصر) وتطرق فيه للعناصر التالية:
1- فكرة العقلانية.. إشكالية مزدوجة
2- فكرة العقلانية.. والثقافة الأوروبية
3- فكرة العقلانية.. وموجة النقد
4- فكرة العقلانية.. والحجب عن الثقافة الإسلامية
5- فكرة العقلانية.. والنقد في المجال العربي
شرح المفكر زكي الميلاد في هذا الفصل إشكالية فكرة العقلانية طبيعتها وإطارها واتجاهاتها ونقدياتها في المجال العربي المعاصر، وأبان عن ذلك قائلا: “تحددت إشكالية التعامل مع فكرة العقلانية في ساحة الفكر العربي المعاصر في اتجاهين متشابكين، اتجاه يتسم بطابع التنكر والإهمال وقد يصل إلى حدّ الطمس والإلغاء ويتعلق بطريقة التعامل مع فكرة العقلانية في الإسلام والثقافة الإسلامية، واتجاه يتسم بطابع الدهشة والانجذاب وقد يصل إلى حد التبعية والافتتان ويتعلق بطريقة التعامل مع فكرة العقلانية في أوروبا والثقافة الأوروبية”.
حمل الفصل الثاني عنوان: (إشكالية فكرة العقلانية في المجال الإسلامي المعاصر)، وتطرق فيه للعناصر الآتية:
1- الخشية من العقل.. الجذور الفكرية والتاريخية
2- الخشية من العقل.. صور وتجليات
3- الخشية من العقل.. والتراجع الحضاري
4- مناصرة العقل والعقلانية
شرح الميلاد الإطار العام لهذا الفصل فكرته وإشكاليته قائلا: “تحددت بصورة عامة إشكالية التعامل مع فكرة العقلانية في المجال الإسلامي القديم والوسيط والحديث في موقف الخشية من العقل، وتجلت هذه الخشية في العديد من المواقف والصور، وتمثلت في أشكال من الاحتياطات والتحفظات تارة، وفي أشكال من القيود والإكراهات تارة أخرى، وفي أشكال من التخوفات والتحذيرات تارة ثالثة، وغيرها من أشكال أخرى شملت ميادين النظر والعمل”.
ويرى الميلاد أن موقف الخشية من العقل تكرس في ساحة الفكر الإسلامي نتيجة التراجع الحضاري الذي أصاب الأمة، وألقى بظلاله على الجوانب كافة، وفي مقدمتها الجوانب الفكرية والثقافية التي عادة ما تكون الأكثر تضررًا في مثل هذه الوضعيات.
ومع ما حدث من وضعيات التراجع الحضاري، إلا أن المواقف المناصرة للعقل والعقلانية في نظر الميلاد لم تنقطع أو تتوقف عن ساحة المسلمين، لكنها لم تكن الأرفع صوتًا والأكثر حضورًا وتأثيرًا.
وجاء الفصل الثالث بعنوان: (القرآن الكريم.. وخطاب العقل والعقلانية)، وتناول فيه العناصر الآتية:
1- تفرد خطاب العقل في القرآن
2- خطاب العقل في القرآن.. مفارقات متغايرة
3- خطاب العقل في القرآن.. والصيغة الفعلية
4- أركون وخطاب العقل في القرآن
افتتح الميلاد هذا الفصل شارحًا رؤيته قائلا: “تحدث القرآن الكريم عن العقل والعقلانية في آيات كثيرة مكية ومدنية، جاءت صريحة وواضحة لا تحتاج إلى تأويل أو برهان، ووردت بطريقة تلفت الانتباه بشدة، وتثير الدهشة بأعلى درجاتها، وتبعث على التأمل والنظر في خطاب العقل والعقلانية، وتستدعي الحاجة لاستكشاف حكمة هذا الخطاب ومقاصده، وضرورة التعرف على حقله الدلالي”.
وقد وجد الميلاد أن من الملاحظات التي تلفتت الانتباه بشدة في خطاب القرآن الكريم، أن جميع تسميات العقل وردت بصيغة الفعل، ولم ترد مرة واحدة بصيغة الاسم، الملاحظة التي توقف عندها كثير من الباحثين العرب والمسلمين وبعض الأوروبيين، وسوف يتوقف عندها كل من ينظر ويتأمل في خطاب العقل والعقلانية في القرآن.
أما الفصل الرابع فقد خصصه الميلاد لقضية فكرية مهمة هي قضية ختم النبوة وجاء بعنوان: (نظرية ختم النبوة.. ودور العقل في الإسلام)، قدم فيه مقاربات ومناقشات جادة ومتنوعة تجادلت حول نظرية المفكر محمد إقبال التي شرحها في كتابه الشهير (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، متطرقا في هذا الفصل إلى العناصر الآتية:
1- إقبال ونظرية ختم النبوة
2- شريعتي ونظرية ختم النبوة
3- البهشتي ونظرية ختم النبوة
4- الطباطبائي ونظرية ختم النبوة
5- المطهري ونظرية إقبال
6- سروش ونظرية إقبال
7- ملاحظات ونقد.
وبشأن هذه القضية كتب المفكر الميلاد قائلا: “لعلنا لا نختلف إذا قلنا إن وظيفة العقل في الإسلام من حيث السعة والأفق بعد ختم النبوة قد اختلفت أو تغيرت عما كانت عليه قبل ختم النبوة. بمعنى أن ختم النبوة جاء لكي يعطي سعة وأفقا أكبر لدور العقل ووظيفته في الإسلام، وبعبارة أخرى أن ختم النبوة أعلن عن مرحلة جديدة لدور العقل ووظيفته في الإسلام”.
وختم الميلاد الكتاب بالفصل الخامس الذي أعطاه عنوان: (أصول الفقه وتطور فكرة العقلانية في المجال الإسلامي) تطرق فيه إلى العناصر الآتية:
1- أصول الفقه والمقولات العقلية
2- العقل دليلا
3- بناء العقلاء
4- ماحكم به العقل حكم به الشرع
5- العقل بين اتجاهين متعارضين
6- نتائج ومستخلصات
فقد ثبت في نظر المفكر زكي الميلاد وبشكل قاطع أن أصول الفقه مثل منبعا ثريا لفكرة العقلانية في المجال الإسلامي، وأنه أسهم في تطور هذه الفكرة وأضاف إليها وإلى حقلها الدلالي مضامين وأبعادا شديدة الأهمية، وفتحها على حقل في غاية الفاعلية والتأثير هو حقل التشريع الإسلامي. وأصبح من الممكن في تصور الميلاد دراسة العلاقة بين فكرة العقلانية وأصول الفقه من جهة، ودراسة فكرة العقلانية في ساحة أصول الفقه من جهة أخرى.
وهذا في تقدير الميلاد مالم يلتفت إليه كثيرا على أهميته وقيمته، فالمثقفون من جهتهم لا يلتفتون لهذا الأمر نتيجة عدم قربهم من أصول الفقه وغربته عليهم، والأصوليون من جهتهم لا يلتفتون لهذا الأمر كثيرا نتيجة انقطاعهم أو عدم تواصلهم مع المعارف والعلوم الإنسانية والاجتماعية والانشغال الحصري غالبا بالدراسات الفقهية والأصولية.
وأخيرا أراد الكاتب زكي الميلاد أن يوضح لنا بأن هذا الكتاب يتطلع إلى تطوير المعرفة بفكرة العقلانية في المجال الإسلامي، وتنمية الوعي بهذه الفكرة، ولفت الانتباه إليها، واستعادة الحديث عنها، أملا في تحويلها إلى عمل وسلوك في حياتنا اليومية الفردية الاجتماعية، ولتكون أداة لنا وسلاحا في مواجهة وتفكيك ذهنية الخرافات والأوهام، ونبذ الموروثات الميتة والتقاليد الجامدة، وكل ما يندرج في إطار اللامعقول وما يقع ضد العقل والعقلانية.