حتى وقت قريب لم يكن لي حساب (account) على الفيس بوك (facebook) ليس من منطلق اعتراضي؛ فلا يختلف اثنان على أهمية مواقع التواصل الاجتماعي ، التي قربت البعيد ، ونقلت المعلومة بسرعة كبيرة ، وجعلت العالم كغرفة صغيرة . ولكن مخافة أن يشغلني عن القراءة ، ويفرق بيني وبين الكتاب ؛ رفيق الدرب ، وصديق العمر، في الحل والترحال .
وبعد متابعة وفحص ودراسة لعدد من الأصدقاء الذين لديهم حسابات على الفيس بوك، وجدتهم خملة ، أصابهم الفيس بالترهل ، والكسل ، وعطل مواهبهم وقدراتهم ، وضرب على عقولهم النعاس ، وأبعدهم عن القراءة والبحث والتحليل .
وجدت جُل همهم منصب على المجاملات ، وأصابعهم لم ُترفع عن زر الاعجاب (like) لمعظم المشاركات المُرسلة من أصدقائهم (posts) ، أو صور الملفات الشخصية (profile) ، أو الفيديوهات والصور الشخصية ، والتي شاركوا في نشرها (share) ، ومن المجاملات كثرة التعليقات (comment) . وليس عندي أدني مشكلة ، فهذا مقدر ومحترم، ودليل على الشعور الطيب، والعلاقات الحميمة . ولكن في اكتفاء البعض بتلك المجاملات . نشرت بوابة الأهرام الالكترونية دراسة ، تستند نتائجها على استطلاع بريطاني حديث للرأي أجرته شركة “إتش تي سي” للهواتف الذكية، أظهر أن ما يقرب من ثلثي مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي ينشرون صورًا على حساباتهم الشخصية لتبدو حياتهم الشخصية أكثر إثارة ومليئة بالمغامرات. وقال أكثر من ثلاثة أرباع من شملهم الاستطلاع إنهم يقيمون أصدقاءهم على أساس ما يرونه على حساباتهم الشخصية على الانستجرام أو سنابشوت أو الفيسبوك. كما وجد الاستطلاع، وفقا لصحيفة “ديلي ميل البريطانية” أن 6% اعترفوا بالاستعانة ببعض الصور التي لا تخصهم ووضعها على حساباتهم الشخصية بمواقع التواصل الاجتماعي لتبدو وكأنها خاصة بهم وذلك لتظهر حياتهم أكثر إثارة. كما اعترف أكثر من نصف من شملهم الاستطلاع بأنهم ينشرون صورًا لأشياء وأماكن معينة فقط من أجل إثارة الغيرة في قلوب الأصدقاء وأفراد العائلة.
ما يقرب من ثلثي مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي ينشرون صورًا على حساباتهم الشخصية لتبدو حياتهم الشخصية أكثر إثارة ومليئة بالمغامرات
رأيت أحدهم يجلس منذ الصباح الباكر، وحتى نهاية يومه لا يفارق هاتفه ، يتصفح حسابه، ويضحك على كل ما يأتيه من صور وفيديوهات، أراني بعضها فوجدتها تافهة لا تستحق المشاهدة. وربما شغله ذلك عن علم نافع ، أو قراءة كتاب مفيد . من هذه الفيديوهات التي أضحكته ، وأحب أن نشاركه الضحك، في زمن بكى فيه الضحك! رجل افريقي بدين يحاول أن يمتطي حماراً صغيراً فلم يستطع ، ويحاول ويضحك من يصوره ، ويضحك صاحبنا ، لا أدري لماذا ! ثم ينجح الإفريقي في النهاية فيرفسه الحمار برجليه فيقع أرضاً ، ومن ثم انهار صاحبي من الضحك ؛ وعمره فوق الأربعين .
والأمثلة كثيرة ، وخاصة من الشباب الذين شاركوا الإعجاب لصورة لاعب الأهلي المصري الذي وقف على الكرة بقدميه ، في مباراة الأهلي مع الزمالك بمدينة العين الإماراتية ، حتى وصل إلى 37000 إعجاب في أقل من 40 دقيقة . في الوقت الذى لم تحظ فيه صورة أي من شباب فلسطين أو شهدائها أو بناتها وهن يجمعن الحجارة ، ويواجهن المحتل ، ولو بألف متابعة أو إعجاب !
والفيس ملئ بالكثير من الفيديوهات التي لا تستحق المشاهدة ، ولا تستحق عناء رفعها؛ تلك الفيديوهات التي تستهلك أوقات متابعيها ، وتحول بينهم وبين الاستفادة من هذه الأوقات فيما ينفعهم في معاشهم ومعادهم .
لقد امتد الفيس ليملأ الفراغ النفسي والوقتي والثقافي للإنسان العربي ، صاحب مقولة ” قتل الوقت ” ولم أجد أمة تقتل وقتها كأمة العرب! وانشغل الناس بتصوير كل شيء تقع عليه أيديهم ، حتي سجل أحدهم فيديو لابنه وهو يبكي في البيت خوفاً من قطة تلاعبه ، وهم يضحكون . ولا أدري لماذا رفعوه ؟ ألكي نشارك الطفل بكاءه وخوفه؟! أم لنشارك والديه ضحكهم عليه !
ولم يقتصر الأمر على عوام الناس ، بل شمل جميع أطياف المجتمع وأنواعه ، منهم طبيبة كتبت على صفحتها ، أن زوجها لا يريدها أن تعالج الرجال بل تُعالج النساء فقط .فسألت الملأ ماذا تفعل؟ فنقرأ كثيراً من الردود السخيفة ، والمضحكة .. وهكذا حتى الأمور الشخصية التي ينبغي لها أن تظل داخل البيت، وتناقش في حدود الأسرة أو العائلة، تراها تُنشر على الملأ لتكشف سوءة المجتمع، وتلهى الناس عن قضاياهم المهمة، فبدل أن يناقشوا حلولاً لأزمة الأمة الحائرة، وقضاياها الشائكة، ويجدوا مخرجاً لها من حالة التخلف والتيه التي تعيشها، تراهم بعمد أو جهل يبعدون الشباب عن المسار الصحيح الذى ينبغي له أن يسير فيه.
الويل لأمة يُصبح الفيس بوك هو ميدان جهادها ونضالها وتعليمها ، فتكون كمن يحرث في الماء، ويحارب بغير عدو
وتكثر الصور والفيديوهات المشكوك في صحتها ، والتي لم يتسنَّ لأحد التأكد منها ، ويستطيع المهرة في برامج الفوتوشوب أن يُغيروا كما شاؤوا ، بالإضافة والحذف ، ثم ترى الكثير منها منشور ، ويشاركه الشباب على صفحاتهم ، بل ويدافعون عنها عاطفياً دون علم أو وعي . ورأيت الكثيرين يتأففون ، ويضجرون من القراءة ، أو متابعة المشاركات الطويلة ، ويفضلون الصور ذات التعليق .
والخوف من أن تنصرف الأجيال عن القراءة والبحث ، واعمال العقل الذى هو أداة التمييز، وسبيل النهضة ، والانصراف من ثقافة العقل ، إلى ثقافة شبكات التواصل – إذا جاز التعبير- فتنحرف البوصلة ، ويُصبح الفيس بوك هي المرجع والدليل والمصدر، فيتصدر المشهد الفارغون ، والجاهلون الذين يجهلون أنهم جاهلون .
وقد يظن البعض أنهم بمشاركتهم بعض الفيديوهات ، أو الأعجاب بها، يكونون بذلك قد أدوا ما عليهم ، وناموا قريري العين .
ومن السلبيات التي شاهدتها ، تحول البعض إلى نقاد ، مع عدم أهليتهم وكفاءتهم . بعضهن كتبت ناقدة ، ومعترضة ، وهى جالسة مستريحة وربما تأكل بعض ثمار الفاكهة في غرفة مكيفة ، تنتقد مشاركة بنات فلسطينيات في الانتفاضة الشعبية ضد المحتل الصهيوني ، ودفاعاً عن المسجد الأقصى، لأنهن لآبسات بناطيل الجينز الضيق. هكذا بكل بساطة تحولت سيدة المقعد الوثير إلى سوط وجلاد . فلم تجد في الصورة سوى الجينز الضيق ، ولم تر الجنود المُدججين بالسلاح ، ولم تر قنابل الغاز المسيل للدموع ، ولم تر مشقة المقاومة وخطورة المواجهة التي من الممكن أن تودى بحياتهن. ولم تر أن هؤلاء البنات المُترفات قد تركن حياة الترف والدعة للدفاع عن أوطانهن ومقدساتهن .
الخوف أن تنصرف الأجيال عن القراءة والبحث وإعمال العقل الذى هو أداة التمييز، وسبيل النهضة.. إلى ثقافة شبكات التواصل.. ويُصبح الفيس بوك هي المرجع
فلا تكن عزيزي فيسبوكياً من هذا المنطلق، وعليك أن تعي بأن الفيس وسيلة وليس غاية وأن تستغل هذه النعمة فيما يفيد ، فتُعلم الجاهل وتزيد الوعي وتنشر النافع ، ولا تدعه يحول بينك وبين القراءة والبحث والعمل .
علينا أن ننقل جراح الناس ومشاكلهم ومعاناتهم وخاصة المُحاصرين منهم والمشردين الذين لم يستطيعوا نقل معاناتهم لتكون وسيلة ضغط من أجل تحسين أوضاعهم والحصول على حقوقهم .
عليك أن تكون الصحفي الذى يبحث عن الحق والحقيقة ، وينقلها بكل حيادية وأمانة للناس دون تزييف أو هوى، وتأمل صورة الطفل السوري الذى وجد مُلقياً على أحد شواطئ تركيا في طريقه للهجرة إلى أوروبا ، هارباً من ضربات الطائرات،كيف كان تأثيرها حين تم التفاعل معها عبر مواقع التواصل .
لا تكن فيسبوكياً : لأن الفيس لا يغنى عن الواقع والميدان، فإذا كانت دعوات ثورة يناير في مصر، كانت عبر الفيس بوك، فإن أحداث الثورة ومعاناتها وشهداءها وضحاياها كانت في الشوارع والميادين.
والويل لأمة يُصبح الفيس بوك هو ميدان جهادها ونضالها وتعليمها ، فتكون كمن يحرث في الماء ، ويحارب بغير عدو .والويل لأمة لا تقرأ ، ولا تفهم ما تقرأه ، ولا تعمل بما فهمته ، ولا تكافح وتدافع عن أعمالها ومنجزاتها .
والويل لأمة تبخل عن دفع ثمن نهضتها وحريتها، وتفر من ميدان الكفاح والعمل إلى ميدان القول والفيس بوك.