الفساد عند أهل اللغة هو تجاوز الصواب والحكمة. وهو أيضاً خروج الشيء عن الاعتدال، قليلاً كان الخروج أو كثيراً، ويضاده الصلاح، ويستعمل ذلك في النفس، والبدن، والأشياء الخارجة عن الاستقامة، كما جاء في مفردات القرآن للراغب الأصفهاني.

كما يمكن القول بأن الفساد هو بوتقة كبيرة تضم أفعالاً وسلوكيات، منها الظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه. ومنها الفسق وهو العصيان وتجاوز طريق الحق. ومنها الطغيان وهو تجاوز الحد في العصيان. ومنها البغي وهو الظلم الذي يتعدى ويتجاوز الحد !

مقدمة مختصرة ربما تهيئ الأجواء تدريجياً للغوص بعض الشيء في الآية الرابعة الكريمة من سورة الإسراء، أو سورة بني إسرائيل، التي اخترناها عنواناً لمقال اليوم { لتفسدن في الأرض مرتين } (الإسراء: 4) لنجد أن الخطاب القرآني هاهنا بالطبع لبني إسرائيل، الذين بلغوا حداً في الفساد من ظلم بأنواعه، وطغيان وعصيان وبغي بلا حدود..

 أخبر الله تعالى اليهود في الكتاب الذي أنزله الله على نبيه موسى، عليه السلام وهو التوراة، من أنهم سيفسدون في الأرض مرتين، وستكون عواقب ذلكم الفساد أو الإفساد أليمة شديدة. لكن على رغم علمهم المسبق بذلك، وأن دخولهم عالم الفساد سيكون سبباً في دمارهم وهلاك حرثهم ونسلهم، إلا أنهم وبسبب جبلّتهم أو جيناتهم الوراثية بلغتنا المعاصرة، أبوا إلا أن يسيروا عكس ما كان يحذرهم نبيهم وكتابهم ! 

من يتأمل آيات الصفحة الأولى من سورة الإسراء، سيجد نفسه في عالم بني إسرائيل، حيث الطبيعة اللئيمة الماكرة الغادرة لهذا الجنس البشري. طبيعةٌ ميزتهم عن باقي أجناس البشر على مدار التاريخ حتى يوم الناس هذا..

بذل كثير من أنبياء الله عليهم السلام، أو أنبياء بني إسرائيل، جهوداً مضنية في إصلاحهم وإرشادهم والإبقاء عليهم هادين مهديين، صالحين مصلحين، وعلى طريق الحق والدين ثابتين.. لكن أغلبهم أفسدوا وتمردوا، وعصوا وخالفوا، وبغوا بعد ذلك في الأرض كثيراً وطويلا..  

اختلف المفسرون الأوائل الكرام في المرتين اللتين يفسد فيهما بنو إسرائيل، وعواقب ذلكم الإفساد في الأرض. منهم من قال بأن الإفساد الأول والثاني وقعا في زمن قديم، وكانت العقوبات على شكل اجتياحات قام بها جبابرة أو قادة دول عظمى في تلكم الأزمان، مثل البابليين والفراعنة ثم الروم والفرس، أهلكوا حرث بني إسرائيل ونسلهم، فعاش بعضهم في عبودية ذليلة، وآخرون مطارون تائهون في أرجاء الأرض بما كسبت أيديهم.

لكن التفسيرات المعاصرة تذهب بشكل أكثر دقة، مستفيدة من معطيات جديدة أكثر وضوحاً وتفسيراً للآيات، وتعتقد أن الإفسادين الكبيرين لبني إسرائيل بحسب الآيات الكريمة، لابد أن تكون مع أمة واحدة، فتعاني هذه الأمة المقصودة من إفساد بني إسرائيل وظلمهم لحين من الدهر يطول أو يقصر، ثم تنقلب الأمور بقدرة قادر لصالح الأمة المتضررة من أجل أن تعالج هذا الإفساد، وتُنزل العقاب المناسب على أمة الغدر والبغي والعدوان.

 الإفساد الأول

إنّ الكم الرهيب من الأذى والتهديد الذي مارسه اليهود ضد الأمة المسلمة حتى من قبل أن يظهر للعالم دين جديد يسمى الإسلام، يعتبره المفسرون المعاصرون هو بداية الإفساد الأول لبني إسرائيل.  فقد حاول اليهود اغتيال النبي العربي الكريم، ، لعلمهم المتواتر بأنه نبي آخر الزمان، وهو بعدُ فتى لا يدري ما الرسالة ولا النبوة، حتى إذا ما ظهر أمره ، بدأ يهود المدينة في نسج المؤامرات، الواحدة تلو الأخرى من أجل القضاء على هذا الدين ورسوله وأتباعه، وهم يومئذ أكثر علماً ونفوذاً وقوة اقتصادية في الجزيرة العربية كلها.

وكانت بداية التآمر والبغي والعدوان من يهود بني قينقاع، ثم استمر مع بني النضير، وأخيراً وليس آخراً، مع الخيانة الكبرى لبني قريظة، الذين وضعوا أمة الإسلام في خطر وجودي غير مسبوق، ثم توقف قطار الإفساد اليهودي في خيبر. لكنهم نالوا نصيبهم جميعاً من العقاب بالشكل المستحق، على يد عباد لله أولي بأس شديد، هم الصحابة الأكرمين، تحت لواء سيد المرسلين، فكان لهم شرف إنهاء إفساد بني إسرائيل وخطرهم إلى حين.  

الإفساد الثاني

عاد اليهود تارة أخرى بعد قرون من التيه والتشرد في الأرض، ولكن هذه المرة بفكر صهيوني ضال مضل منذ قرن من الزمان، حتى اعتبره المفسرون المعاصرون بداية الإفساد الثاني لبني إسرائيل. عادوا ليفسدوا ليس في أمة محمد فحسب، بل العالم كله، لكن هدفهم الرئيسي هو الأمة المسلمة.

بدأ يعلوا كعبهم شيئاً فشيئا، وصار لهم كيان صنعه الغرب لأجل أن يكون قاعدة غربية متقدمة في قلب العالم المسلم، يمدونهم بكل احتياجاتهم من مال وبنين، وخبرات وتقنيات، حتى صاروا أصحاب شأن ونفوذ وتأثير كبيرعلى معظم العالم، أو معظم جهات صناعة واتخاذ القرار في عالم اليوم، وهو ما يمكن وصفه بلغة القرآن {وَلَتَعْلُنَ عُلُوًاً كَبيراً } (الإسراء : 4).

هذا العلو الكبير حرّك فيهم جينات الظلم والبغي والعدوان تارة أخرى. ها هو خطر اليهودية المتصهينة يلف العالم كله، وإن كان تركيزه الشديد والعميق في فلسطين المحتلة أكثر من غيرها من المواقع. وربما شاءت الحكمة الإلهية أن يبلغ البغي والعدوان في غزة ذروته، وعلى مرأى ومسمع من العالم كله لأول مرة، من أجل أن يدفع ويحرك هذا العالم المُخَدَر ويجعله يتساءل عن هذا الخطر الذي أدخلهم في سبات عميق عقوداً طويلة !

العلو الكبير المُهلك

العلو اليهودي المتصهين لم ولن يتم استثماره كما ينبغي في صالح الأرض والبشر والشجر والحجر، وإنما تم، بل ما زال يتم استخدامه في إهلاك الحرث والنسل، والتعالي على أمم الأرض كلها، وليس أمة محمد . هذا ما استدعى بحسب المتأملين والمفسرين للآيات الأولى من سورة الإسراء، نهوض عباد لله أولي بأس شديد ومن نفس الملة المحمدية، وعلى نفس خطى عباد الله الأوائل الذين كانوا أولي بأس شديد أيضاً، وجاسوا خلال ديار اليهود في المدينة وما حولها.

العدوان والبغي اليهودي المتصهين الذي زاد عن حده في فلسطين، وغزة تحديداً، استدعى فعلياً نهوض عباد لله، أولي بأس شديد، الذين على عاتقهم، كما نعتقد، ستقع سنّة تأديب هذه الأمة الغادرة، وتفكيك عوامل قوتها وعلوها، بغض النظر عن الخسائر المادية الظاهرية لعباد الله الصالحين هؤلاء، وإن كان أيضاً ليس شرطاً أن يكون التفكيك فورياً وسريعاً، لكن نحسبُ أن ما قامت به المقاومة في غزة خلال العامين الفائتين حتى يوم الناس هذا، هو بداية النهاية لأمة الغدر هذه، وأن الوقت لن يكون طويلاً بإذن الله حتى يجوس عباد الله الصالحين هؤلاء خلال ديار اليهود المتصهينين في كل مدن فلسطين المحتلة وليست غزة فقط . ويومئذ سيفرح المؤمنون بنصر الله، وما ذلك على الله بعزيز.

خلاصة الحديث

أحداث غزة لابد وأن تدعو علماء الأمة في التفسير، إلى إعادة تأمل سورة الإسراء، وقراءة مرّتي الإفساد المرتبطة ببني إسرائيل بشكل يختلف عما قرأه المفسرون القدامى. وهذا يستدعي أيضاً من خلال الجهات المسؤولة عن التربية والتعليم في العالم العربي والإسلامي، جعل سورة الإسراء من المقررات الأساسية في مادة العلوم الشرعية بالمرحلة الثانوية، بحيث يتم حفظها وتفسيرها وفق معطيات هذا العصر.

وأحسبُ في الختام، أن فهم الإشارات القرآنية من خلال تفسير واقعي عصري للسورة، هو جزء من منهج التعامل مع أمة الغدر والبغي هذه، وخارطة طريق لإعادة السيناريو القديم الذي قام بتنفيذه عباد الله الصالحين في العهد النبوي مع هذه الأمة الغادرة، كي تتهيأ الأجواء تارة أخرى لعباد لله صالحين، وأولي بأس شديد، كي يجوسوا خلال ديار أهل الغدر، قال تعالى : { ليَسُوؤوا وُجُوهَهم وليَدخُلُوا المسجدَ كما دَخَلُوهُ أَول مرَّة وليُتَبّرُوا ما عَلَوْا تَتبِيراً } (الإسراء7).

وقال تعالى : { ويَقولونَ متى هوَ قُل عسَى أن يكُونَ قريبا } (الإسراء: 51).