جاءت الآية الكريمة (لكل أجل كتاب) في في سياق الرد على شبهات الكفار الذين طعنوا في النبي فقالوا: ما نرى لهذا الرجل همة إِلا النساء، ولو كان رسولا من عند الله حقًّا لما اشتغل عن رسالته بالنساءِ. وزعموا أن من صفات الرسول الحق أن يأتي بآيات خارقة، لذلك قالوا: لو كان رسولا لجاءَ بالآيات التي طلبناها منه، فأنزل الله تعالى قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)} [الرعد].

التفسير الوسيط: نفي الشبهة وإثبات الحكمة

جاء في التفسير الوسيط التابع لمجمع البحوث:

في هذه الآية جواب عن شبهات أَوردها أعداءُ النبي محمد ، من ذلك قولهم: ما نرى لهذا الرجل همة إِلا النساء، ولو كان رسولا من عند الله حقًّا لما اشتغل عن رسالته بالنساءِ، فأَجاب الله عن هذه الشبهة بقوله: “وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً”. وفي هذا تذكير بما كان عليه سليمان وداود عليهما السلام حيث كانت لهما أَزواج كثيرات وذرية كثيرة، ولم يقدح ذلك في نبوتهما، على أَن الرسول قد اقتصرت حياته الأُول على زوجة واحدة إِلى سن الثالثة والخمسين فلما هاجر إِلى المدينة حدثت ظروف ودواع اقتضت الإِصهار إِلى القبائل لمصلحة الإِسلام، فكان من الخير أَن تتعدد زوجاته، بذلك تظهر الحكمة في هذا التعدد فلا مجال لإِثارة الشبه حول هذا التعدد في أَواخر حياته، لأَنه لا يعقل أَن يكون ذلك لدواعى الشهوة في سن الشيخوخة.

والمعنى: ولقد أَرسلنا رسلا كثيرين من قبلك أَيها الرسول شأْنهم كشأْنك، حيث جعلنا لهم أَزواجًا كثيرات وذرية كثيرة، فلست في ذلك بدعًا من الرسل.

وحين قالوا: لو كان رسولا لجاءَ بالآيات التي طلبناها منه. رد الله عليهم بقوله سبحانه: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ): أَي ليس في وسع رسول من الرسل أَن يأْتى بمعجزة وفق ما يقترحه قومه إِلا متى شاءَ الله، فهو وحده يحكم ما يشاءُ ويفعل ما يريد.

ثم بين الله سبحانه الحكمة في تغيير الشرائع بقوله جل شأنه:

(لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ): أَي لكل وقت من الزمان شرع كتبه الله يناب حال أَهله. وينتهى بانتهاءِ الحاجة إِلى هذا الشرع، فِإن الشرائع كلها لإِصلاح أَحوال العباد في المبدأ والمعاد، ويترتب على ذلك أَن الشريعة تختلف على حسب اختلاف أَحوال الناس التي تتغير بتغير الأَوقات وتتابع الأَزمان والأَجيال. ومثل ذلك كمثل اختلاف العلاج باختلاف أَحوال المرضى وبحسب الأَوقات.

تفسير ابن كثير لقوله (لكل أجل كتاب)

وما ذكرناه في التفسير الوسيط ينسجم مع ما جاء في كتب التفاسير ننقل جزءا منه للاستشهاد:

قال ابن كثير: يقول تعالى: وكما أرسلناك يا محمد رسولًا بشريًّا كذلك بعثنا المرسلين قبلك بَشَرًا يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق ويأتون الزوجات، ويولد لهم، وجعلنا لهم أزواجًا وذرية.. لم يكن يأتي قومَه بخارق إلا إذا أذن له فيه، ليس ذاك إليه، بل إلى الله عز وجل يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.

{لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}، أي: لكل مُدة مضروبة كتاب مكتوب بها، وكل شيء عنده بمقدار..

ثم نقل عن الضحاك في قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}، أي: لكل كتاب أجل يعني لكل كتاب أنزله من السماء مدة مضرربة عند الله ومقدار معين، فلهذا يمحو ما يشاء منها ويثبت، يعني حتى نسخت كلها بالقرآن الذي أنزله الله على رسوله، صلوات الله وسلامه عليه.

وقوله: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ}، عن ابن عباس: يدبر أمر السنة، فيمحو ما يشاء، إلا الشقاء والسعادة، والحياة والموت.. ومثله قال تلاميذه رضي الله عنهم جميعا.

قال ابن كثير: معنى هذه الأقوال أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء…

وقال الحسن البصري: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} قال: من جاء أجله فذهب، ويثبت الذي هو حي يجري إلي أجله.

وقد اختار هذا القول أبو جعفر بن جرير رحمه الله.

تفسير ابن عاشور: المحو والإثبات وأم الكتاب

أما ابن عاشور في التحرير والتنوير، فقد ربط قوله تعالى (لكل أجل كتاب) بالآية التي بعدها فقال:

﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: 38-39] تذييل لأنه أفاد عموم الآجال فشمل أجل الإتيان بآية من قوله ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [الرعد: 38] وذلك إبطال لتوهم المشركين أن تأخر الوعيد يدل على عدم صدقه. وهذا ينظر إلى قوله تعالى (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب) [سورة العنكبوت: 53]، فقد قالوا (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) الآية [سورة الأنفال: 32].

وإذ قد كان ما سألوه من جملة الآيات وكان ما وعدوه آية على صدق الرسالة ناسب أن يذكر هنا أن تأخير ذلك لا يدل على عدم حصوله ، فإن لذلك آجالا أرادها الله واقتضتها حكمته وهو أعلم بخلقه وشؤونهم ولكن الجهلة يقيسون تصرفات الله بمثل ما تجري به تصرفات الخلائق .

والأجل : الوقت الموقت به عمل معزوم أو موعود .

والكتاب: المكتوب، وهو كناية عن التحديد والضبط، لأن شأن الأشياء التي يراد تحققها أن تكتب لئلا يخالف عليها. وفي هذا الرد تعريض بالوعيد. والمعنى: لكل واقع أجل يقع عنده، ولكل أجل كتاب، أي تعيين وتحديد لا يتقدمه ولا يتأخر عنه.

حقيقة المحو والإثبات

وجملة (يمحو الله ما يشاء) مستأنفة استئنافا بيانيا؛ لأن جملة (لكل أجل كتاب) تقتضي أن الوعيد كائن وليس تأخيره مزيلا له. ولما كان في ذلك تأييس للناس عقب بالإعلام بأن التوبة مقبولة وبإحلال الرجاء محل اليأس، فجاءت جملة يمحو الله ما يشاء ويثبت احتراسا .

وحقيقة المحو : إزالة شيء ، وكثر في إزالة الخط أو الصورة ، ومرجع ذلك إلى عدم المشاهدة ، قال تعالى (فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) [ الإسراء: 12] ، ويطلق مجازا على تغيير الأحوال وتبديل المعاني كالأخبار والتكاليف والوعد والوعيد فإن لها نسبا ومفاهيم إذا صادفت ما في الواقع كانت مطابقتها إثباتا لها وإذا لم تطابقه كان عدم مطابقتها محوا لأنه إزالة لمدلولاتها .

والتثبيت : حقيقته جعل الشيء ثابتا قارا في مكان، قال تعالى (إذا لقيتم فئة فاثبتوا)، ويطلق مجازا على أضداد معاني المحو المذكورة .

فيندرج في ما تحتمله الآية عدة معان، منها:

  •  أنه يعدم ما يشاء من الموجودات ويبقي ما يشاء منها
  • ويعفو عما يشاء من الوعيد ويقرر
  •  وينسخ ما يشاء من التكاليف ويبقي ما يشاء .

وكل ذلك مظاهر لتصرف حكمته وعلمه وقدرته. وإذ قد كانت تعلقات القدرة الإلهية جارية على وفق علم الله تعالى كان ما في علمه لا يتغير فإنه إذا أوجد شيئا كان عالما أنه سيوجده ، وإذا أزال شيئا كان عالما أنه سيزيله وعالما بوقت ذلك .

صور من المحو والإثبات

ثم ذكر ابن عاشور بعض صورا من تجليات  المحو والإثبات فقال:

“أبهم الممحو والمثبت بقوله ما يشاء لتتوجه الأفهام إلى تعرف ذلك والتدبر فيه؛ لأن تحت هذا الموصول صورا لا تحصى، وأسباب المشيئة لا تحصى .

  • ومن مشيئة الله تعالى محو الوعيد ، أن يلهم المذنبين التوبة والإقلاع ويخلق في قلوبهم داعية الامتثال. ومن مشيئة التثبيت أن يصرف قلوب قوم عن النظر في تدارك أمورهم، وكذلك القول في العكس من تثبيت الخير ومحوه .
  • ومن آثار المحو تغير إجراء الأحكام على الأشخاص، فبينما ترى المحارب مبحوثا عنه مطلوبا للأخذ، فإذا جاء تائبا قبل القدرة عليه قبل رجوعه ورفع عنه ذلك الطلب، وكذلك إجراء الأحكام على أهل الحرب إذا آمنوا ودخلوا تحت أحكام الإسلام .
  • وكذلك الشأن في ظهور آثار رضى الله أو غضبه على العبد فبينما ترى أحدا مغضوبا عليه مضروبا عليه المذلة لانغماسه في المعاصي إذا بك تراه قد أقلع وتاب فأعزه الله ونصره .
  • ومن آثار ذلك أيضا تقليب القلوب بأن يجعل الله البغضاء محبة ، كما قالت هند بنت عتبة للنبي – – بعد أن أسلمت : ما كان أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك واليوم أصبحت وما أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك. وقد محا الله وعيد من بقي من أهل مكة فرفع عنهم السيف يوم فتح مكة قبل أن يأتوا مسلمين ، ولو شاء لأمر النبيء – – باستئصالهم حين دخوله مكة فاتحا .

وبهذا يتحصل أن لفظ ( ما يشاء ) عام يشمل كل ما يشاؤه الله تعالى ولكنه مجمل في مشيئة الله بالمحو والإثبات وذلك لا تصل الأدلة العقلية إلى بيانه ، ولم يرد في الأخبار المأثورة ما يبينه إلا القليل على تفاوت في صحة أسانيده . ومن الصحيح فيما ورد من ذلك قول النبي – – : إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها . وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها .

معنى أم الكتاب

ثم قال ابن عاشور عند قوله تعالى (وعنده أم الكتاب):

والذي يلوح في معنى الآية أن ما في أم الكتاب لا يقبل محوا ، فهو ثابت وهو قسيم لما يشاء الله محوه .

ويجوز أن يكون ما في أم الكتاب هو عين ما يشاء الله محوه أو إثباته سواء كان تعيينا بالأشخاص أو بالذوات أو بالأنواع ، وسواء كانت الأنواع من الذوات أو من الأفعال ، وأن جملة وعنده أم الكتاب أفادت أن ذلك لا يطلع عليه أحد .

ويجوز أن يكون قوله وعنده أم الكتاب مرادا به الكتاب الذي كتبت به الآجال وهو قوله لكل أجل كتاب ، وأن المحو في غير الآجال .

ويجوز أن يكون أم الكتاب مرادا به علم الله تعالى، أي : يمحو ويثبت وهو عالم بأن الشيء سيمحى أو يثبت . وفي تفسير القرطبي عن ابن عمر قال سمعت النبي – – يقول : يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا السعادة والشقاوة والموت ، وروي مثله عن مجاهد . وروي عن ابن عباس. وعن عمر وابن مسعود ما يقتضي أن السعادة والشقاوة يقبلان المحو والإثبات .

فإذا حمل المحو على ما يجمع معاني الإزالة ، وحمل الإثبات على ما يجمع معاني الإبقاء ، وإذا حمل معنى ( أم الكتاب ) على معنى ما لا يقبل إزالة ما قرر أنه حاصل أو أنه موعود به ولا يقبل إثبات ما قرر انتفاؤه ، سواء في ذلك الأخبار والأحكام ، كان ما في أم الكتاب قسيما لما يمحى ويثبت .

وإذا حمل على أن ما يقبل المحو والإثبات معلوم لا يتغير علم الله به، كان ما في أم الكتاب تنبيها على أن التغيرات التي تطرأ على الأحكام أو على الأخبار ما هي إلا تغيرات مقررة من قبل وإنما كان الإخبار عن إيجادها أو عن إعدامها مظهرا لما اقتضته الحكمة الإلهية في وقت ما .

و أم الكتاب لا محالة شيء مضاف إلى الكتاب الذي ذكر في قوله (لكل أجل كتاب). فإن طريقة إعادة النكرة بحرف التعريف أن تكون المعادة عين الأولى بأن يجعل التعريف تعريف العهد ، أي : وعنده أم ذلك الكتاب ، وهو كتاب الأجل .

فوائد تربوية من قوله (لكل أجل كتاب)

  1. الأنبياء قاطبة بشر، يقضون ما أحلّ الله من شهوات الدّنيا، ولهم زوجات وأولاد، وإنما التّخصيص بالوحي.
  2.  آية {وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً} تدلّ على التّرغيب في النّكاح والحضّ عليه، وتنهى عن التّبتّل، وهو ترك النّكاح، وهذه سنّة المرسلين. ذلك أنّ النّكاح يعفّ عن الزّنى، والعفاف أحد الخصلتين اللتين ضمن رسول الله عليهما الجنّة، فقال فيما رواه الموطأ وغيره: «من وقاه الله شرّ اثنتين، ولج الجنّة: ما بين لحييه، وما بين رجليه»، وتقدم حديث وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي».
  3.  ليس للرّسول بإرادته أن يأتي بمعجزة خارقة للعادة، وإنّما ذلك بإذن الله ومشيئته.
  4.  لكلّ أجل كتاب، أي لكلّ أمر قضاه الله كتاب عند الله تعالى. يمحو الله من ذلك الكتاب ما يشاء أن يوقعه بأهله ويأتي به، ويثبت ما يشاء، أي يؤخّره إلى وقته. وعنده أصل الكتاب الذي لا يتغيّر منه شيء، فنزول العذاب على الكفار، ونصر المؤمنين لهما وقت معيّن مخصوص.

والمحو يشمل الأقدار، والدّعاء يفيد في ردّ القدر، وقد يحرم الإنسان الرّزق بسبب ذنب يرتكبه، وقد يزداد عمره بصلة الرّحم وبرّ الأقارب.

وأصول الأشياء لا تتغيّر: وهي الخلق والأجل والرّزق، والسّعادة والشّقاوة. والذي في علم الله ثابت لا يتبدّل، مثل قيام السّاعة، وأجل بقاء النّاس في القبور وكلّ ما كتب من الآجال وغيرها.

عقيدتنا هي أنه لا تبديل لقضاء الله تعالى، وهذا المحو والإثبات مما سبق به القضاء. والقضاء منه ما يكون واقعا محتوما، وهو الثّابت، ومنه ما يكون مصروفا بأسباب، وهو الممحو. ويكون المحوّ إما بالدّعاء أو بصلة الرّحم وبرّ الأقارب، أو بالذّنب المقترف. ويشمل المحو نسخ الشّرائع، فقد تنسخ شريعة بأخرى، كالنّسخ بالقرآن لما عداه، لمصلحة وحكمة تقتضيها، ونسخ التّوجّه إلى بيت المقدس وتحويل القبلة إلى الكعبة، ونحو ذلك. [التفسير المنير]

الخاتمة

إن قوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} قاعدة قرآنية عظيمة تدعو الإنسان للتفكر في علم الله وحكمته، وتؤسس لفهم سُنن التغيير والمصير، وتشجع على الرجاء والتوبة، وتزيد المؤمن يقينًا بأن الأمور كلها مقدرة، وأن التوبة والدعاء والعمل من أسباب الخير والتثبيت.