العالم في بدايات القرن السادس عشر الميلادي شهد توازنا علميا وثقافيا وعلميا بين حضارات العالم الثلاثة: الإسلامية، والصينية، والأوروبية، واستمر هذا التوازن حتى هُدم مرصد إستنبول عام ( 987هـ=1580م)، وعلى الجانب الآخر أخذ الأوروبيون في كسر هذا التوازن بإتباع نهج علمي ومعرفي مغاير أبعدهم بخطوات ثابتة وكبيرة عن التراث الفكري والعلمي اليوناني الذي تشاركوا فيه مع الحضارة الإسلامية، وبدأت ملامح نهوض أوروبي مازال العالم يعيش إنجازاته وسلبياته حتى اللحظة الراهنة.
وقد ظهرت في القرن السادس عشر الميلادي نزعة تشكيكية في الحقائق العلمية المعتمدة على المتون القديمة عن الكون والطبيعة والإنسان[1]، قادت إلى تساؤلات جديدة، وإجابات مغايرة، ساهمت في نهم معرفي غير مسبوق، ومع تغير النظرة الشاملة للكون والطبيعة والإنسان، بدا مفهوم العلم يتغير، فظهرت نماذج جديدة من العلماء، وجدت نفسها في مواجهة مع العلماء التقليديين، وفي مواجهة مع السلطة الدينية من أجل صياغة مفهوم جديد للعلم.
وقد تزامن بناء مرصد إستنبول مع ظهور نظرية “كوبرنيكوس”[2] التي سبقت بناء المرصد بأربعة عقود، حيث نشرها عام (1543م) في كتاب الشهير “في دوران الأفلاك السماوية”،الذي نشره وهو على فراش الموت خوفا مما سيثيره من اعتراضات، وقدم فيه نظرية جديدة، ملخصها أن الشمس لا الأرض هي الثابتة في مركز الكون، وأن الأرض لا السموات هي التي تتحرك بحركتين، إحداها سنوية تدور حول الشمس، وأخرى يومية تدور فيها حول نفسها، وبذلك خرج عن النهج القديم الذي تحول بعد أكثر من ألف وخمسمائة عام من الشيوع إلى ما يشه الحقائق الدينية والكونية.
كتاب “مرصد اسطنبول:هدم الرصد ورصد الهدم..تطور ثقافة العلوم في الإسلام بعد “كوبرنيكوس” تأليف الدكتور “سامر عكاش”[3]، والصادر عن المركز العربي لأبحاث السياسة بالدوحة، في طبعته الأولى، في يونيو 2017 في (480) صفحة، ينطلق من حادثة هدم مرصد في إستنبول ليصوغ ويحدد بداية التراجع الحضاري الإسلامي، وبداية الانطلاق الأوروبي، فالمرصد بُني بأمر من السلطان “مراد الثالث”[4]، وبعد بنائه بخمس سنوات، وبداية تشغيله بعامين، والإنفاق الضخم أنفق على بناءه وتجهيزه، إذ كان مؤسسة علمية تعليمية، وكان المسؤول عن العالم الفلكي الشهير “تقي الدين بن معروف”[5]، إذا بهذا المرصد يُهدم.
كانت أجهزة مرصد إستنبول مشابهة إلى حد كبير لتلك التي ضمها مرصد في أوروبا آنذاك وهو مرصد “يورانبيورغ” للفلكي الدنماركي “تايكو براهي”[6]، وهو المرصد الذي تبناه وموله الملك “فريدريك الثاني”[7].
وقد أثارت حادثة بناء المرصد، ثم هدمه كثير من التساؤلات عن الدوافع والأسباب وراء الفعلين، لكن الدكتور “سامر عكاش” توقف عندها في أكثر من أربعمائة صفحة استغرقت من عمرة سنوات طويلة، معتبرا أن حادث الهدم يصلح أن يُؤرخ به لبداية توقف مساهمات المسلمين في العلوم التجريبية، أو ما يمكن أن نطلق عليه بداية التراجع الحضاري، أما بناء مرصد “يورانبيورغ”، فكان بداية الصعود والتألق الحضاري الأوروبي، حيث ظهرت في تلك الفترة نظرية الفلكي والرياضي “كوبرنيكوس” بشأن مركزية الشمس، والتي تعتبر الثورة الأولى، حيث كانت لها تداعياتها العلمية والدينية في المجتمعات الأوروبية، فثنائية البناء والهدم متلازمتان ومتداخلتان مع ثنائية الصعود والانحدار، من تلك اللحظة خرج المسلمون من ساحة المساهمة في تطوير العلوم الكونية رغم أنهم كانوا الأجدر بالنهوض بتلك العلوم وتحديثها، كما أشار المؤرخ “توبي هف”.
يمكن قراءة هدم الرصد في ضوء التطورات العسكرية والسياسية والدينية التي كانت تمر بها الدولة العثمانية آنذاك، وتشير بعض الروايات أن علم الفلك كان يتداخل مع التنجيم، وقد تنبأ “تقي الدين” بأن ينتصر العثمانيون على الصفويين، وهو ما حسم موقف السلطان مراد الثالث في التورط في تلك الحرب، التي انتصر فيها فعلا، لكن بخسائر فادحة، انعكست على الجيش العثماني في هزائم في جبهات أخرى، كذلك انتشار مرض الطاعون في إستنبول، وقد عزاه بعض علماء الدين إلى بناء المرصد، كذلك وفاة الصدر الأعظم[8] “صوقلو محمد باشا” عام (1579م) وكان الداعم الأكبر لبناء المرصد، كما أن المرصد تعرض لمهاجمة كبيرة من شيخ الإسلام “شمس الدين قاضي زادة”، الذي أصدر فتوى بهدمه .
تحدث المؤرخ التركي “خليل إينالجيك” في كتابه “تاريخ الدولة العثمانية من الصعود إلى الانحدار” أن الفترة التي هُدم فيها المرصد شهدت تعصبا دينيا، حيث ظهرت حركات دينية متعصبة مثل حركة “قاضي زادة” التي أثرت في مواقف السلاطين العثمانيين وتوجهاتهم، وكذلك “الشيخ “محمد البركوي”[9] الذي تأثر به تلميذه “قاضي زادة” المتوفى (1635م) الذي أسس حركة أصولية نُسبت إليه واستمرت حتى بداية القرن الثامن عشر، غير أن دراسات أخرى تشير أن حركة “قاضي زادة” كانت مناهضة للصوفية، كما أن وجود تلك الحركة لم يؤثر على تطور الصوفية ذاتها، كما أن الشيخ “محمد البركوي” ذاته كان يشجع على الاشتغال بالعلوم الهندسية والفلكية والعقلية، كما أن علماء السنة المسلمين الذين هربوا إلى الدولة العثمانية هربا من بطش الدولة الصفوية، ساهموا في تطوير العلوم العقلية في الدولة العثمانية.
[1] وضع أرسطو في كتابه “في السموات” تصورا للكون، استنتج فيه أن العالم دائريا وليس منبسطا، وثبت أرسطو الأرض كمركز للكون، وجعل النجوم والشمس والقمر تدور حولها، وتصور أن النجوم ثابتة، وبعد خمسة قرون على موت أرسطو، جاء العالم المصري الإغريقي “بطليموس” ووضع كتابه “المجسطي” الذي أُعتبر المرجع الأول والأهم في علم الفلك في العالمين الإسلامي والمسيحي على السواء على مدى أكثر من خمسة عشر قرنا متواصلة، حيث طور بطليموس التصور الأرسطي للكون دون أن يغيره في اعتبار ثبوتية الأرض ومركزيتها للكون، وظل التصور الأرسطي-البطليموسي هو المسيطر على العالم الإسلامي والمسيحي أكثر من ألف وخمسمائة عام.
[2] نيكولاس كوبرنيكوس (1473 –1543م) راهب وعالم رياضياتي وفيلسوف وفلكي وقانوني وطبيب وإداري ودبلوماسي بولندي كان أحد أعظم علماء عصره، يعتبر أول من صاغ نظرية مركزية الشمس، وكون الأرض جرماً يدور في فلكها في كتابه “حول دوران الأجرام السماوية”.
[3] أستاذ العمارة في جامعة أدلايد الأسترالية، وعميد كلية الهندسة المعمارية في الجامعة العربية الدولية. حاصل على دكتوراه في فلسفة العمارة من جامعة سيدني. تشمل بحوثه التاريخين الفكري والاجتماعي – العمراني للحقبة العثمانية في بلاد الشام.
[4] هو حفيد سليمان القانوني، ولد مراد الثالث، عام 953 هـ وتولى الخلافة عام 982 هـ بعد وفاة أبيه، استهل حكمه كعادة سلاطين آل عُثمان بنحر إخوته الخمسة دخل حروب عنيفة مع الدولة الصفوية،. يرى المؤرخون أن اضمحلال الدولة العثمانية بدا في عهده، توفي عام 1003 هـ.
[5] تقي الدين ابن معروف الشامي الراصد، هو عالم مسلم دمشقيٌّ وأحد أهم العلماء الذين برعوا زمن الدولة العثمانية في القرن (10هـ=16م)، كان عالمًا، فلكيًّا ومنجمًا، مهندسًا ومخترعًا، وصانع ساعات الحائط والساعات اليدوية، رياضيًّا وفيزيائيًّا، خبيرًا زراعيًّا وجنائنيًّا، طبيبًا وصيدليًّا.
[6] عالم فلكي دنماركي (1546 ـ 1601) أنشأ مرصد “يورانبيورغ” فوق جزيرة “فين Hveen” قرب ساحل الدنمارك بعد أن قام بجولة في أوربا اشترى فيها الكثير من الآلات الفلكية، مَهَّدت أبحاثة في الفلك للعديد من الاكتشافات، كانت أرصاده الفلكية الأدق على الإطلاق قبل اختراع التلسكوب، وكان آخر العلماء الذين رصدوا السماء وأفلاكها بالعين المجردة، إذ أُخترع التليسكوب بعد وفاته بسبع سنين.
[7] فريدريك الثاني (ولد في 1 يوليو 1534) كان ملك الدنمارك والنرويج من 1559 حتى وفاته في 4 أبريل 1588.
[8] منصب يعادل رئيس الوزراء في العصر الحالي
[9] محمد أفندي البركوي وشهرته الإمام البركوي (929 – 981 هـ = 1521 – 1573 م) من علماء الدولة العثمانية، كان لكتاباته أثر كبير على أتباع حركة قاضي زاده. ولقب بالإمام وقيل أنه الوحيد الذي حمل هذا اللقب من بين العلماء الأتراك في زمانه، ترك البركوي نحو ٥٦ كتابا، أشهرها: “رسالة البركوي”، المعروفة بـ “وصية نامة”، و”الطريقة المحمدية “