تاريخ الأمم جزء من حضارتها، والآثار جزء من التاريخ استطاع الأقدمون أن يدوّنوا بها تاريخهم في زمن ربما لم تتح لهم الظروف من وسائل الكتابة والتدوين غير الكتابة على الحجر والشجر، ووضع رسومات وتصاوير فنية على ما تيسر ليقول أولئك لمن يأتي من بعدهم مررنا ذات يوم من هنا و ” كنا أناسا كما كنتم فغيرنا دهر فأنتم كما كنّا تكونونا”.
لم تتعرّض أمة لنهب وسرقة تاريخها وتراثها وحضارتها مثل ما تعرَضت الأمة العربية على مرِّ التاريخ، وكأن الأمم التي تغلّبت علينا في لحظة ضعف كانت تحمل شحنة من الحقد والحنق على تراثنا وتاريخنا، الشيء الذي لم يحمله جنودنا الذين فتحوا أقاليم امتدت من حدود الصين شرقا إلى أوروبا غربا، بدليل أن أي جيش غاز لبلاد يعرب لم تشأ حوافر خيله أن تطأ أرضنا العربية إلا وبادر جنوده إلى إتلاف ما قدروا عليه من تاريخنا وآثارنا الحضارية، فالمغول والتتار أول ما دخلوا حاضرة العرب والإسلام في ذلك الوقت ” بغداد” قاموا بإلقاء ملايين الكتب في نهر دجلة حتى اسودّ ماؤه، والغزاة الأوروبيون في القرنين الماضيين نهبوا نفائس كتبنا وكنوز آثارنا وأقاموا بها وعليها متاحفهم، وبات الباحث منا يقف متوسلا أمام متحف اللوفر أو غيره من أجل السماح له بتصوير ورقة من كتاب عربي أو تصوير قطعة أثرية نادرة سرقها المستعمر ونقلها إلى بلاده ليوهم العالم أن هذا جزء من تاريخها.
لم يكن أحد من جيل الحداثة والقوانين الدولية يتصوّر أننا سنعيش نفس المأساة في القرن الواحد والعشرين، فالأميركيون عندما احتلوا بغداد 2003 نهبوا ما تبقّى من الآثار وكنوز العراق الحضارية وقاموا بتهريبها وبيعها في بلاد الغرب، وما تبقّى منها تركوه نهبة للقاعدة وأخواتها التي دمّرت ما وقعت عليه أيديها من تاريخنا العربي الإسلامي، وباسم الدين هذه المرة، ولك أن تتحدّث عن وضع مشابه تتعرَض له الآثار العربية الإسلامية في سوريا واليمن وليبيا وشمال مالي هذه الأيام.
فقد أكدت مندوبة اليونسكو آنا باوليني أثناء مشاركتها في مؤتمر منع الجريمة والعدالة الانتقالية المنعقد في قطر من 12- 19 /4/ 2015 أن ما أسمته ب ” خزّأن المعارف الإنساني” في العراق وسوريا يتعرض لحملة نهب لا مثيل لها في التاريخ، وحذّرت من أن الآثار في اليمن ربما تتعرض لنفس المصير إذا ما توسّعت الحرب الأهلية في اليمن وخرجت عن السيطرة، ومن المضحك المبكي أن اليونسكو كشفت عن تعاون تقيمه مع منظمتي الجمارك والانتربول العالميتين من أجل ضبط القطع الأثرية المسروقة من العراق وسوريا والتحفظ عليها لإعادتها إلى تلك الدولتين عندما تستقر الأوضاع التي يراد لها ألا تستقر قريبا، وكأن الدول التي تستطيع مصادرة هذه الآثار وإعادتها ليست هي الدول التي تقوم بنهبها وتباع فيها.
تدمير الآثار باسم الدين
منذ ظهور ما بات يعرف بالجماعات الإسلامية المتطرفة في هذا الجزء من العالم والآثار الإسلامية والعربية تتعرض من حين لآخر للحرق والتدمير باسم الدين على يد أناس لا يعلمون من الدين إلا ثقافة الحرق والذبح، وتحضرني هنا قصة ربما تصلح لإسقاطها على تصرف هؤلاء وتدميرهم لآثار مرّ عليها الفاتحون الأوائل – رغم علمهم وتدينهم – وتركوها كما كانت دون المساس بها، وإليكم القصة: لمّا أراد الله نهاية محنة القول بخلق القرءان التي تولّى كبرها القاضي أحمد ابن أبي دؤاد أيام خلافة المأمون بن هارون الرشيد ومن جاء بعده، والتي راح ضحيتها أجلة العلماء الربّانيين من سلف هذه الأمة، جيء في خلافة الواثق بالله بالعلم العارف محمد بن عبد الرحمن الأذرمي وطلب منه الخليفة مناظرة ابن أبي دؤاد والقول بخلق القرءان فقال له: يابن أبي دؤاد: أهذه المقالة التي تدعو الناس إليها علمها رسول الله ﷺ والخلفاء الراشدون أم جهلوها؟، فقال ابن أبي دؤاد جهلوها، فرد عليه الشيخ : ما شاء الله جهلها رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعلمتها أنت، فتعجب الخليفة، فقال ابن أبي دؤاد مهلا بل علموها ولم يدعوا الناس إليها، فقال الشيخ الأذرمي” أفلا يسعك ما وسعهم” فانتفض الواثق من مجلسه وهو يقول : ” لا وسّع الله على من لم يسعه ما وسع رسول الله ﷺ وصحابته، ثم أمر برفع هذه المحنة وإخراج إمام أهل السنة والجماعة أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله من السجن.
وهنا أعيد نفس السؤال على المتنطِّعين من أتباع القاعدة وداعش وأقول لهم: أفلا يسعكم ما وسع الفاتحين من صحابة رسول الله ﷺ ومن تبعهم بإحسان والذين مرّوا على هذه الآثار ولم يدمّروها ولم يروا أنها من مظاهر الشرك وتركوها على حالها؟
أعود إلى مندوبة اليونسكو التي ذكرت أن هذه الجماعات أحرقت آلافا من نفائس الكتب في مدينة تنبكتو الواقعة شمالي جمهورية مالي، وأن المنظمة استطاعت إنقاذ 300 ألف مخطوط نادر ووضعتها في متحف في العاصمة المالية باماكو حفاظا عليها من بطش وطيش هؤلاء الذين لا يقيمون للحضارة وزنا، ولا يعرفون للتاريخ معنى.
فهل تدمير تاريخ وحضارة الأمم من الدين في شيء؟، أتمنّى أن يتفهّم هؤلاء يوما أن هذه الكنوز هي تراث إنساني، وأن الإسلام دين حضارة وبناء لا دين ذبح وحرق وتدمير.