للثبات رحلته.. بل هي قصة الصمود الإنساني حين تتملكه الفكرة الحقة، والعقيدة الصادقة، فيؤثر أن يمنحها دمه وماله لقاء أن تواصل إشعاعها وحضورها. فكان الدم زيت السراج الذي يضيء الظلمات !
ومن الظلمات التي تناولتها كتب الأخبار ومصنفات التاريخ الإسلامي : محنة خَلق القرآن، وما تلاها من تصفية جنونية للأئمة والعلماء، وسطوة على منافذ الفكر الحر والحق في اختلاف الرأي والتعبير، وتمكين ضعاف النفوس من رقاب الكفاءات للزج بها في أتون العسف والقهر.
يحيل المناخ السياسي الذي ولدت وترعرعت فيه تلك المحنة، على صراع محتدم بين سلطة الدولة، ممثلة في الخليفة وأعوانه، وسلطة المعارضة التي يمثلها العلماء والفقهاء، وتحظى بدعم الإرادة الشعبية. وإذا استحضرنا اقتران الفعل السياسي آنذاك بالمفاهيم الدينية، من قبيل الجبر، والقدر، وحكم مرتكب الكبيرة وغيرها، تسنى لنا أن ندرك حجم المكاسب التي يمكن أن تحققها الدولة بإثارة قضية ظاهرها ديني، وباطنها سياسي بامتياز.
سعى المأمون بعد إزاحته لأخيه الأمين من عرش الخلافة وقتله سنة 198هـ-813م، إلى تفكيك المعارضة الشعبية التي يرأسها الفقهاء ورجال الحديث لأسباب في مقدمتها: إحداث هوة بين الفقهاء والعامة لمنع قيام ثورة أو حتى أعمال شغب، خاصة بعد أن أثبت الفقهاء قدرتهم على تحريك “الشارع” لوقف حالة الفوضى وأعمال النهب التي عاشتها بغداد طوال ست سنوات بعد مقتل الخليفة الأمين.
ويرتبط السبب الثاني بتبديد حالة السخط العام بعد إعلان المأمون عن إسناده ولاية العهد لعلي الرضا ابن موسى الكاظم، في محاولة منه لكسب ولاء العلويين الشيعة. وهو الأمر الذي عده الناس سعيا مفضوحا لتسليم مقاليد الحكم للعنصر الفارسي، فظهرت موجة تعاطف شديدة مع الأمويين حركها العداء التقليدي المستحكم منذ الجاهلية بين بني هاشم وبني أمية.
أما السبب الثالث فمتعلق بتمكين المعتزلة، الذين حظي بعضهم بمناصب عليا في الدولة، من مساحة واسعة للحركة، ونشر مذهبهم داخل فضاء ديني يهيمن عليه الفقهاء ورجال الحديث.
هيأت محنة خلق القرآن إذن جوا من الإرهاب الفكري والنفسي الذي استثمره المأمون ليفكك جبهة المعارضة، ويستميل إليه قلوب العامة. فحول مجالسه إلى ساحة للمناظرة، يمتحن فيها نخبة العلماء لحملهم على الانصياع لمذهبه، وبالتالي تجريدهم من مكانتهم وحضورهم في الوجدان الشعبي، أو تصفيتهم بمبرر ديني لا يثير حفيظة الناس !
غير أن المسألة اتخذت منحى خطيرا في زمن الواثق والمعتصم، لتتحول إلى حرب لإسقاط الرموز في أرجاء الدولة العباسية. وفي مثل هذا الجو الخانق سهل على الحساد وضعاف النفوس تصفية الكفاءات، واستثمار ضغائنهم على نحو أبشع. ومن جملة الذين راحوا ضحية الغيرة والتنافس غير الشريف: أبو يعقوب البويطي، وريث مجلس الشافعي وفقهه في مصر، والعالِم الذي آثر أن يموت في حديده على الرضوخ لبدعة خلق القرآن.
يمكن القول أن البويطي نموذج للخيط الرفيع بين المنحة والمحنة، أو لذاك التوقيت المذهل الذي ما إن يشرق فيه ذهن الباحث حتى يبتلى بامتحان المواقف واختبار العزيمة. ونقطة التحول في مسار البويطي تبدأ لحظة تخليه عن مذهب الإمام مالك بعد أن اجتذبته حلقة الإمام الشافعي فور قدومه إلى مصر.
ينقل عنه أبو بكر الصيرفي قوله:” قدم علينا الشافعي مصر فأكثر الرد على مالك، فاتهمته وبقيت متحيرا؛ فكنت أكثر الصلاة والدعاء، رجاء أن يريني الله الحق مع أيهما، فرأيت في منامي أن الحق مع الشافعي فذهب ماكنت أجده”. وفي استنجاد الطالب بالصلاة والدعاء ألطف تعبير عن رحلة البحث عن الحق التي لا تُفْرط في التمذهب ولا تتقيد بالرجال.
لزم البويطي مجلس الشافعي حتى صار أخص تلاميذه، ومكنته نجابته ودقة فهمه من التقدم على بقية أقرانه، فكان يؤلف ويناظر ويفتي. أما على المستوى الخلقي فقد ذاع بين الناس ورعه وصلاحه وتقشفه، وبذلك تضافرت الأسباب الجديرة بإذكاء نار الحسد في صدور أقرانه، لتلوح شرارتها لحظة إعلان الشافعي عن استخلافه على حلقته، ليحسم خلافا حركه المزني ومحمد بن عبد الحكم الذي كان أحرص الثلاثة على تولي المنصب، وبادر إلى مفارقة مذهب الشافعي نهائيا!
يتعلق الأمر إذن بحلقة عظيمة هي حلقة الإمام الشافعي، وبمناخ فكري متشدد امتدت خلاله حبال الخليفة الواثق وأعوانه لتلتف حول رقاب الفقهاء والقضاة، بل حتى معلمي الصبيان ممن أبوا القول بخلق القرآن. وفي منزلة كالتي بلغها البويطي كان بمقدور أي موظف دولة آنذاك أن يقذفه بالتهمة الجاهزة ليقطع الخيط الرفيع بين المنحة والمحنة. وهو الأمر الذي تم فعلا على يد أبي بكر الأصم، بتواطؤ مؤسف مع عبد الله بن الإمام الشافعي !
لاشك أن المحن نار تختبر معادن الرجال، وفيها تختلف الأقيسة والموازين بحسب ولاء الرجل ومبادئه، وتقديره لحجم المكاسب والخسائر. وفي حالة البويطي فنحن أمام فقيه لم يرث فقط مجلس الشافعي، بل تحمل كذلك مسؤولية التبليغ وشرف العلم، وضرورة بذل النفس حتى لا يُفتن الناس عن دينهم إن رأوا في العالم ترددا أو تراخيا، أو حرصا على بقاء يستوي فيه مع الأراذل. وتكشف عبارة من الحوار الذي لم تنقل لنا الأخبار تفاصيله بين والي مصر والبويطي، عن تبصر هذا الأخير ودقة فهمه للسياق العام.
لما أرسل الوالي ليمتحنه في مسألة خلق القرآن، بأمر من الوزير سيء الذكر أحمد بن أبي داؤد، حاول أن يجد للبويطي منفذا يفلت به من المؤامرة فقال: قل فيما بيني وبينك، أي تظاهر بموافقتهم لتنجو بحياتك! فأجاب البويطي : إنه يقتدي بي مئة ألف ولا يدرون المعنى، فإن أجبت أجابوا.
بمأساوية واضحة تصف المصادر رحلة البويطي من مصر إلى بغداد، وهو محمول على بغل وفي رجليه سلسلة وزنها أربعون رطلا. مشهد لا يليق حتى بمجرم فكيف برجل قال عنه الشافعي : هذا لساني، وائتمنه على إرثه العلمي ! لكن البويطي لا يلتفت لأحقاد صغيرة مادام في ثباته صونٌ لجناب الشريعة، لذا ما فتئ يردد: “ إنما خلق الله الخلق ب “كن”، فإذا كانت “كن” مخلوقة فكأن مخلوقا خلق مخلوقا؛ فوالله لأموتن في حديدي هذا حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم .“
لم تفلح محاولات إقناعه بالعدول عن موقفه داخل السجن فتم تشديد القيود عليه، حتى قيل أن السجان لفه بالحديد من أعلاه إلى أدناه ،فشق عليه الوضوء والصلاة. وكانت تلك شكواه الوحيدة التي أبكت الإمام الذهلي وطلابه بخراسان، لما أرسل إليه يلتمس منهم الدعاء لتفريج كربته.
فاضت روح البويطي الطاهرة وهو مكبل في قيوده سنة 231هـ، وانضاف اسمه إلى قائمة الرجال الذين صبروا على الابتلاء في زمان موسوم بغيبوبة الوعي وانقلاب المعنى. وإذا كان المعتزلة قد استفادوا من “ظل” الخليفة لاضطهاد خصومهم، فقد لقوا مصيرا مماثلا زمن الخليفة المتوكل، غير أن السؤال الذي لا يتطلب نباهة في الإجابة عنه هو : من المستفيد أولا وأخيرا من تغليب الدموية على اختلاف فكري، تقابل فيه الحجة نظيرتها، وتسعى أطرافه إلى إنضاجه ضمن شروط هادئة؟
ما أشبه الليلة بالبارحة !