كان الإمام أبو سليمان الخطابي (توفي388هـ) من أوعية العلم في زمانه، مبرزا على الفقهاء والأعيان من أقرانه، لكن ذلك لم يمنعه من الإحساس بغربة شديدة بين أهله وفي بلدته “بست”. فأقبل على العزلة يمتدحها ويعدد مزاياها، لا باعتبارها هروبا من المسؤولية أو هجرانا للأهل، بل لكونها شكلا تعبديا يُجنب المرء لوثة الفتن. يُروى أن روحه الزاهدة في الملذات حملته على تلمس العزلة في سلوك المخلوقات من حوله، فأنشد شاكيا، لما رأى طائرا على شجرة:
يا ليتني كنت ذاك الطائر الغردا
مـن البــرية منحــازا ومنفــردا
في غصن بان دهته الريح تخفضه
طـورا وترفـــعه أفنــــانه صـعدا
خِلو الهموم سوى حَب تُلمسه
في الترب أو نفية يروي بها كبدا
ما إن يــؤرقه فـكر لــرزق غــد
ولا عليه حساب في المعاد غدا
طـوباك مـن طـائر طـوباك طِـب
من كان مثلك في الدنيا فقد سعدا
أفضى هذا الميل القوي للعزلة إلى أن يقضي الخطابي بقية حياته مرابطا على ضفاف نهر “هندَمند” بسجستان، كما أفضى بعدد من العلماء والصالحين إلى ترجيح خيار “الهامش” و “الكهف” على مواصلة الاحتدام والتدافع، والتصدي لألوان الانحراف السياسي والفكري والاجتماعي. بيد أن أسئلة عديدة لا تلبث أن تكتسب وجاهة طرحها كلما استعرضنا سير بعض أهل العلم والفقه والصلاح ممن أثنوا على العزلة قولا وآثروها فعلا، من قبيل:
هل كانت العزلة دائما هي الخيار الأنسب؟
وكيف يمكن تحديد غليان سياسي أو اجتماعي بأنه فتنة يتوجب اعتزالها، والانصراف إلى تحقيق النجاة الفردية؟
وهل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تثني على اعتزال الناس في الشعاب، والفرار بالدين من الفتن مطلقة الدلالة، أم مقيدة بسياق تاريخي واجتماعي معين يفرضها ويُلزم بها كل قابض على كتاب ربه وسنة نبيه؟
إن إثارة موضوع العزلة يستمد وجاهته مما يبديه بعض أهل الدعوة والخير من انصراف عن خطتهم الدعوية، وفتور عن القيام بواجب النصيحة والإرشاد، لصدود يلقونه، أو لامبالاة تُفرغ كل جهد مما يصبو إليه من ثمار. وغالبا ما يحتج هؤلاء بنصوص السنة وأخبار الصالحين التي تستحث العاقل لاعتزال الناس في الشعاب، أو اتخاذ البيت صومعة للمؤمن! وقلما يمارس هؤلاء نقدا ذاتيا لأسلوب الدعوة وفحواها، وانسجامها مع متطلبات المجتمع، إذ توجه أصابع الاتهام في الغالب للمتلقي الذي لا يحقق التفاعل المطلوب مع الخطاب، ويسارع على الفور للتخلص من الانحرافات والمعاصي، وإجابة داعي الله!
بالعودة إلى أبي سليمان الخطابي الذي خص العزلة بمصنف شهير، نجد محاكمة عقلية لحجج المنكرين للعزلة، والتفريق بين عزلة الأديان، وهي المنهي عنها شرعا، وعزلة الأبدان التي آثرها جم غفير من العلماء والصالحين، ليخلص في الأخير إلى وجوب التفقه قبل الاعتزال ولزوم القصد والاعتدال. فالعزلة التي يرتضيها الخطابي مذهبا تعني ترك فضول الصحبة دون التفريط في حقوق العباد، وتعني كذلك السلامة من الآفات الاجتماعية التي يقع فيها المرء بسبب المخالطة، كآفة الغيبة والرياء، والسكوت عن المنكر، والتصنع المفضي إلى النفاق، وتطلع النفس إلى زهرة الدنيا بمجالسة الأغنياء. يقول الخطابي:
” والطريقة المثلى في هذا الباب ألا تمتنع من حق يلزمك للناس وإن لم يطالبوك به، وألا تنهمك لهم في باطل لا يجب عليك وإن دعوك إليه، فإن من اشتغل بما لا يعنيه فاته ما يعنيه، ومن انحل في الباطل جمد عن الحق. فكن مع الناس في الخير، وكن بمعزل عنهم في الشر، وتوخ أن تكون فيهم شاهدا كغائب، وعالما كجاهل.”(كتاب العزلة. ص237).
في حين يبدو ابن حبان البُستي (توفي 354هـ) أكثر تشددا في تبني خيار العزلة، بل هي فعل العاقل الذي يرجو صفاء القلب وعدم تكدر الأوقات في الطاعات. أما العذر الوحيد الذي يسوقه في هذا الباب فهو ما عُرف به الناس من دفن الخير ونشر الشر: «فإن كان المرء عالما بَدعوه، وإن كان جاهلا عيروه، وإن كان فوقهم حسدوه، وإن كان دونهم حقروه، وإن نطق قالوا: مهذار، وإن سكت قالوا: عَيي، وإن قدر قالوا: مقَتر، وإن سمح قالوا: مبذر، فالنادم في العواقب المحطوط عن المراتب من اغتر بقوم هذا نعتهم، وغره ناس هذه صفتهم.” (روضة العقلاء ونزهة الفضلاء. ص83). وللمرء أن يتساءل هنا كيف يصلح حال المجتمع، وتخف حدة الشرور والانحرافات إذا خلا الميدان من المصلحين، وقرر أهل الخير الانسحاب من الحياة العامة؟
أما ابن الجوزي فيؤمن بأن لا عزلة على الحقيقة إلا لعالم أو زاهد. إذ أن مخالطة الناس شر لهما، لأنها تمنع الأول من الترقي بعلمه، وتحجب الثاني عن الأنس بمعبوده. غير أن المتتبع لآراء ابن الجوزي عن العزلة، خاصة تلك المبثوثة في ثنايا كتابه “صيد الخاطر” يقف على تأرجح بين الفكرة ونقيضها، وتبدل في الموقف بين خاطرة وأخرى. فتارة يرى فيها كل النفع لأنك ” لا تكاد ترى إلا شامتا بنكبة أو حسودا على نعمة، ومن يأخذ عليك غلطاتك. فيا للعزلة ما ألذها، سلمت من كدر غيبة، وآفات تصنع، وتضييع الوقت”(ص260).
وتارة أخرى ينتقد اعتزال الزاهد لأن زهده لا يتعدى عتبة بابه، وأكثرهم ترك المباح لنيل الحظوة عند الخلق. ويعيب العزلة قائلا: ” فكم فوتت علما يصلح به أهل الدين، وكم أوقعت في بلية هلك بها الدين”(ص135). ثم يلجأ في موضع آخر إلى رسم خطة اعتزال للعالِم، يصون بها علمه، ويحظى بتقدير العامة، تماما كالملوك الذين لم يعظم قدرهم إلا لاحتجابهم عن الخلق:
” فإن أردت اللذة والراحة فعليك أيها العالِم بقعر بيتك، وكن معتزلا عن أهلك يطب لك عيشك، واجعل للقاء الأهل وقتا، فإذا عرفوه تصنعوا للقائك، فكانت المعاشرة بذلك أجود.. وليكن لك مكان في بيتك تخلو فيه، وتحادث سطور كتبك، وتجري في حلبات فكرك.. واحترس من لقاء الخلق وخصوصا العوام.. واجتهد في كسب يعفك عن الطمع، فهذه نهاية لذة العالِم في الدنيا.” (ص231)
إن مخالطة الناس واستيعاب مشاكلهم، والصبر على أذاهم وعنادهم هو ما يجعل من الداعية محل اقتداء، وليس يصح في الأذهان مطلقا استقامة حال مجتمع انصرف عنه علماؤه ودعاته إلى خلواتهم، وباتت العزلة خيارهم وديدنهم.
لقد كانت النبوة استشعارا للمسؤولية تجاه الإنسانية جمعاء، وكدا متواصلا لترميم النفوس ونفي البدع والانحرافات؛ فكيف لمن يحمل ميراثها أن يؤثر الوحدة على الجماعة، وينسحب من خضم النزال اليومي ضد تجليات الباطل، وما أكثرها؟!
إن الذي يستدل على صواب تدينه بالعزلة والسلامة من المشكلات والبعد عن مواقع الفتن، لا يدرك أنه بانسحابه ذاك يصبح إنسانا خارج الاجتهاد والعقل والتفكير، يقول الأستاذ عمر عبيد حسنة، لا يخطئ ولا يصيب أيضا، فهو يساوي العدم لأنه يلغي نفسه ودوره ورسالته، ويعيش في المقابر لكن مع وقف التنفيذ.
من طريف ما نُقل من التراث في هذا الباب أن سفيان الثوري حكى عن شيخ في مسجد الكوفة كان يردد باستمرار: ” أنا في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة أنتظر الموت أن ينزل بي. لو أتاني ما أمرت بشيء، ولا نهيت عن شيء، ولا لي على أحد شيء، ولا لأحد عندي شيء”. ولعلها نكبة إنسانية أن يصير التدين سلبية وهامشية، وأن يُلجم المصلحون ومعلمو الناس فاعليتهم، متحججين بمثل المقولة الساخرة التي يرددها الكسالى في أزمنة التخاذل:” نأكل القوت وننتظر الموت.