يحاول هذا المقال إثارة مسألة مهمة  وقَفَ لها الإمام أبو سليمان الخطابي (ت: 393هـ) مقدمة كتابه النفيس (معالم السنن في شرح سنن أبي داود)، وهي مسألة القطيعة التي كانت –حسب وجهة نظره- قائمة في مناهج التحصيل المعرفي لدى كل من الفقهاء والمحدثين، الذين يمثلون النخبة المسؤولة –بشكل أساسي- عن تفسير وتأويل النصوص الشرعية، وما يترتب على ذلك من بناء القيم وتوجيهها وصناعة أشكال التدين وأنماط الثقافة داخل المجتمع، وما تزال –في نظرنا- هذه القطيعة حاصلة في مستويات عدة بين الفريقين.

وقد كشف الخطابي في تلك المقدمة عن هدفه الإصلاحي من تأليف كتابه على ذلك النهج، وهو  أن يكون مائدة يجتمع حولها الفريقان، فـ”يكون الفقيه إذا ما نظر إلى ما أثبته في هذا الكتاب من معاني الحديث ونهجت من طرق الفقه المتشعبة عنه دعاه ذلك إلى طلب الحديث وتتبع علمه وإذا تأمله صاحب الحديث رغبه في الفقه وتعلمه”[1].

ومما ينبئ عن وعيه المنهجيي رصده لضرورة الدمج بين عقل الفقيه وذاكرة المحدث، وأن الخلل المنهجي هو الافتراق االحاصل بين طائفتين كان الطبيعي أن تتعاضد جهودهما ومباحثهما لتشكل منهاجا متكاملا للدراسة الشرعية، لأن “كل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة، لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب”[2].

وقد بين موضع الاختلال لدى كل واحدة من الطائفتين، فأما أهل الحديث فإن الأكثرين منهم انشغلوا بالروايات وجمع طرق الأحاديث وطلب غريبها وشاذها وغير ذلك من العلوم التي يطلبها أهل الحديث، وهو عمل جبار في جمع الحديث النبوي وضبط رواياته وأسانيده، ولكنه أمر لا تتم الفائدة منه إلا إذا شفعته روح نقادة تدقق في المتون فتنقيها من التصحيف والتحريف وتفهم المعاني وتستنبط الأحكام من النصوص، وذلك ما لم يهتم به أكثرهم –حسب الخطابي-، فإنهم: “لا يراعون المتون ولا يتفهمون المعاني ولا يستنبطون سيرها ولا يستخرجون ركازها وفقهها وربما عابوا الفقهاء وتناولوهم بالطعن وادعوا عليهم مخالفة السنن ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصرون وبسوء القول فيهم آثمون”[3].

وعل النقيض منهم الفقهاء الذين قدموا آراء رؤساء مذاهبهم على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وترى أكثرهم “لا يعرجون من الحديث إلاّ على أقله ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيده من رديئه ولا يعبؤون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها ووافق آراءهم التي يعتقدونها وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم”[4].

ثم انتقد التعصب المذهبي لدى فقهاء زمانه، وبين بعض الاختلالات القائمة في الدرس الفقهي حينها، والتي منها التواضع على قبول الأحاديث الضعاف والمنقطعة، رغم أنهم لا يقبلون رأيا منقطعا أو ضعيفا مرويا عن رؤساء مذاهبهم، وإنما يعتمدون في النقل عنهم على الثقات الأثبات فقط، “فتجد أصحاب مالك لا يعتمدون من مذهبه إلاّ ما كان من رواية ابن القاسم والأشهب وضربائهم من تلاد أصحابه فإذا وجدت رواية عبد الله بن عبد الحكم وأضرابه لم تكن عندهم طائلاً. وترى أصحاب أبي حنيفة لا يقبلون من الرواية عنه إلاّ ما حكاه أبو يوسف ومحمد بن الحسن والعلية من أصحابه والأجلة من تلامذته فإن جاءهم عن الحسن بن زياد اللؤلؤي وذويه رواية قول بخلافه لم يقبلوه ولم يعتمدوه. وكذلك تجد أصحاب الشافعي إنما يعولون في مذهبه على رواية المزني والربيع بن سليمان المرادي فإذا جاءت رواية حرملة والجيزي وأمثالهما لم يلتفتوا إليها ولم يعتدوا بها في أقاويله. وعلى هذا عادة كل فرقة من العلماء في أحكام مذاهب أئمتهم وأستاذيهم”[5].

وقد نبه إلى تحول التفقه في زمنه إلى تقنية استنباط وتخريج أكثر مما هو معلومات ومعارف، أي أن الفقه تحول إلى عقلية منهجية يحرص الفقهاء على إتقانها فيصبحوا قادرين على تخريج الأحكام بناء على درجة استيعاب كل واحد منهم لتلك المنهجية، و”اقتصروا على نتف وحروف منتزعة عن معاني أصول الفقه سموها عللاً وجعلوها شعاراً لأنفسهم في الترسم برسم العلم واتخذوها جُنّة عند لقاء خصومهم ونصبوها دريئة!!! للخوض والجدال يتناظرون بها ويتلاطمون عليها، وعند التصادر عنها قد حكم للغالب بالحذق والتبريز فهو الفقيه المذكور في عصره والرئيس المعظم في بلده ومصره”[6].

كما تسلل بتحليله العميق إلى نفسيات بعض فقهاء ذلك الزمان، في استعجالهم للتصدر وحرصهم على قطف ثمار العلم قبل نضجها، مما دفعهم للاعتماد على بناء تلك العقلية التي سلف التنبيه إليها، دون تحصيل العلوم الأساس مثل القرآن والحديث، ورغم قسوة عباراته عليهم إلا أنه استطاع تحليل حالة المؤسسة الفقهية المتعصبة في ذلك العصر، قال: “ولكن أقواما عساهم استوعروا طريق الحق واستطالوا المدة في درك الحظ وأحبوا عجالة النيل فاختصروا طريق العلم واقتصروا على نتف وحروف منتزعة عن معاني أصول الفقه سموها عللاً وجعلوها شعاراً لأنفسهم في الترسم برسم العلم”[7].

تلك أهم المآخذ والمقترحات التي ناقشها الإمام الخطابي في مقدمة كتابه (معالم السنن) الذي حاول بناء منهجه فيه على أساسها، ليصبح كتابا يجمع الفريقين من محدثين وفقهاء على مائدة واحدة بعد أن فرقت بينهما المناهج المتعصبة لكل واحد منهما.

وقد نجح الخطابي في مرامه، حيث كانت الأوساط العلمية تعتبره كتاب نخبة وطليعة يصلح لمجالس الأعيان من الفقهاء والعلماء، وزينة للمجالس والأسمار، واسمع إلى هذا التقريظ الجليل من الحافظ أبي طاهر السلفي (ت 576هـ) لهذا الكتاب حتى تعرف مكانته عند أولي العلم في مختلف الأعصر قال: “واخترت –بعد استخارة الله سبحانه- في هذا الأوان الشروع في إملاء ديوان شرعي يصلح للفقهاء والأعيان، وينتفع به كذلك المتفقه فيما يكون بصدده، ويعده من أوفى عدده، ولا يخلو من الإسناد الذي عليه جل الاعتماد، بل يكون منوطا به، ووجودا مشروطا، فلم ار أحسن من شرح ابي سليمان الخطابي البستي لكتاب أبي داود السجزي، فهو كتاب جليل، وفي إلقائه عاجلا ذكر جميل، وآجلا إن شاء الله ثواب جزيل”[8].

 


[1]  – معالم السنن 1/ 6

[2]  – معالم السنن 1/ 3

[3]  – معالم السنن 1/ 3

[4]  – معالم السنن 1/ 3

[5]  – معالم السنن 1/ 4

[6]  – معالم السنن 1/ 5

[7]  – معالم السنن 1/ 5

[8]  – معالم السنن 4/ 357