يوسف بريك5>
تعد “مناهج البحث” methodology الهادفة إلى الكشف عن الحقيقة العلمية الكامنة وراء ظواهر الوجود الطبيعية والاجتماعية موضوعاً لعلم يعرف بـ “علم مناهج البحث” أو اختصاراً “علم المناهج”.
ويتطابق هذا التحديد المختصر لعلم المناهج إلى حد كبير مع معناه اللغوي؛ عبارة عن ترجمة للّفظة الإنكليزية “ميثودولوجيا” methodology التي تعود في أصولها اللغوية إلى اليونانية، والتي تتألف من شطرين؛ الأول [ method ] ويعني منهج، والثاني اللوغوس [ logos ] ويعني علم. وعلى هذا الأساس، فليس علم المناهج في الحقيقة علماً يضاف إلى العلوم الطبيعية أو العلوم الاجتماعية وكأنه واحد منها، بل هو وراء هذه العلوم كلها، يراجع مناهجها وطرائقها وأدواتها البحثية ويقوّم كفاءتها بهدف تطوير أدائها.
وهنا تكمن أهمية علم المناهج الذي يهتم بتحديد الكيفية التي تتم بموجبها عملية توليد المعرفة العلمية ليس حول ظواهر الطبيعة فحسب، بل حول الظواهر الاجتماعية أيضا؛ إذ إن خصوصية الظواهر الاجتماعية مقابل الظواهر الطبيعية لا تنفي في أي حال من الأحوال إمكانية استخدام المنهج العلمي في دراستها، كما يحلو للبعض قوله.
وعلم المناهج الذي لا يأخذ في الحسبان وحدة العلوم وتكاملها هو علم ناقص وأعرج، إذ بات اليوم من غير الممكن الاستغناء عنه سواء في العلوم الطبيعية أم في العلوم الاجتماعية.
نشأته وتطوره
تعود الإرهاصات الأولى لنشوء علم المناهج إلى العصر القديم، عندما اهتم أرسطو [Aristotle] في كتابه”الأورغانون” Organon بالمناهج التي يمكن من خلالها توليد المعرفة العلمية برأيه، فرآها بالمنهج القياسي الذي يبدأ بمسلمات وينتهي بنتائج.
وفي العصور الوسطى كان للعرب الفضل في التأسيس لعلم مناهج البحث عندما حاولوا عملياً ونظرياً إرساء القواعد المنهجية للبحث العلمي التي تقوم على المـلاحظـة والفرضية والتجـربة. فالحسن بن الهيثم على سبيل المثال، لم يستخدم المنهج العلمي بشكل عملي فحسب، بل أسس له نظرياً أيضاً، داعياً إلى البدء في البحث باستقراء الموجـودات وتمييز خواص الجزئيات، مؤكدا من خلال ذلك ضرورة الالتزام بالحقيقة الموضوعية بعيداً عن الهوى والمزاج.
أما العصر الحديث فقد شهد الولادة الحقيقية لعلم مناهج البحث على يدي العلامة الإنكليزي المعروف فرنسيس بيكون [ F. Bacon ] الذي وضع إبان عصر النهضة الأوربية الحديثة كتابه المشهور “الأورغانون الجديد” The New Organon ليعارض به أرسطو فى كتابه “الأورغانون” القديم.
إضافة إلى بيكون، يعد عمانوئيل كَانت [ E.Kant] الفيلسوف الألماني، أول من استخدم كلمة “ميثودولوجي” Methodologie قاصداً بها، من جهة، “علم المناهج العام” الذي يشتمل على المبادئ والأسس المنهجية التي تساعد على الحصول على المعرفة العلمية عموماً، ومن جهة أخرى “علم المناهج الجزئي” الذي يتضمن جملة الإجراءات والعيمليات المنهجية التي يجب اتباعها في هذا العلم أو ذاك.
وهكذا أضحى علم المناهج واحداً من الاختصاصات العلمية الرمزية المستقلة بذاتها؛ فخلافاً لما يؤكده بعض الدارسين من أن علم المناهج كان ولا يزال جزءاً من المنطق وتابعاً لمملكته، يشير واقع الحال إلى غير ذلك، وإن كان لا ينفصل عنه وعن غيره من الاختصاصات الرمزية الأخرى – كنظرية المعرفة مثلاً- كلياً.
ويرتبط علم المناهج بنظرية المعرفة ارتباطاً وثيقاً، إذ إن نظرية المعرفة تزود علم المناهج بأسس التفكير المنهجي عموماً، وبكيفية الحصول على المعرفة ومصدرها ومعاييرها العامة، إضافة إلى القواعد المنهجية الخاصة باختبار المعارف الفرضية، وتلك الخاصة بالحصول على معارف جديدة.
موضوعه
علم مناهج البحث هو، كأي علم آخر، عبارة عن مجموعة منظمة من مبادئ عامة تدور حول موضوع معين، والموضوع في هذه الحالة هو المناهج والطرائق التي يستخدمها العلماء في بحوثهم، ولما كانت العلوم تختلف في مادتها فهي كذلك تختلف في مناهجها قليلاً أو كثيراً؛ لأن منهج البحث إنما يكيف نفسه لمادة الموضوع إلى حد كبير.
بناء عليه، يبحث علم المناهج في تاريخية المناهج وطرائق البحث العلمي من حيث النشأة، بل من حيث الأسباب التي أدت تاريخياً للمناهج وطرائق البحث، كما تبحث في التقويمات المختلفة تاريخياً للمناهج وطرائق البحث المعروفة.
إضافة إلى ذلك يبحث علم المناهج في مبادئ خلق مناهج وطرائق بحث جديدة يمكن استخدامها وتطبيقها في مجالات جديدة أفرزها الواقع، كما يبحث في الشروط المتعلقة بإمكان استخدام هذه المناهج والطرائق في المجالات الجديدة بما يواكب تطور الواقع.
إن مجال بحث علم المناهج لايقتصر على ما ذُكر فحسب، بل يشمل أيضاً التحقق الفعلي من كفاية المناهج والطرائق في الحصول على نتائج صادقة وصحيحة من الواقع المعطى، ويبحث في تركيب المناهج والعناصر التي تتكون منها وتصنيفها، وفي العلاقات الجوهرية بينها.
مستوياته
يتألف علم المناهج من ثلاثة مستويات، هي:
ـ علم المناهج العام: قد تختلف مناهج البحث في هذا العلم أو ذاك بعضها عن بعض؛ فهناك فرق، مثلاً، بين علم الفلك وعلم الكيمياء والجيولوجيا والرياضيات وعلم الاجتماع، ولكن على الرغم من هذه الفروق في مناهج كل علم، فإن هناك أساسيات تجمع بينها جميعاً، وهذه الأساسيات هي التي يهتم بها علم المناهج العام الذي يشتمل على مناهج المعرفة العامة ومبادئها في الطبيعة والمجتمع. وبمعنى آخر: يشمل علم المناهج العام الأسس النظرية العامة ومبادئ إيجاد المناهج في العلم واستخدامها، وهو بذلك لا يقتصر على مناهج علم بذاته، بل على المنهج العام الذي يصلح للاستخدام في الطبيعة والمجتمع، كالمنهج الاستقرائي مثلاً.
ـ علم المناهج الخاص: ويشتمل هذا المستوى من مستويات علم المناهج على المبادئ والقواعد الخاصة بمناهج مقاربة موضوعات مجالي الوجود الأساسيين المتمثلين بالطبيعة والمجتمع. فاستناداً إلى المبادئ المعرفية التي يتضمنها علم المناهج العام، يبحث علم المناهج الخاص بالعلوم الاجتماعية -على سبيل المثال – في المبادئ والأسس ذات العلاقة بالمناهج والطرائق والأدوات التي تتناسب مع خصوصية الظواهر الاجتماعية، والتي يمكن استخدامها في مجال العلوم الاجتماعية.
ـ علم المناهج القطاعي أو الوحيد: بينما يهتم علم المناهج العام بمناهج المعرفة العلمية العامة والشاملة ومبادئها، وعلم المناهج الخاص بالقواعد والأسس المرتبطة بمعرفة ظواهر هذا المجال أو ذاك من مجالات الوجود الأساسية، يشتمل علم المناهج القطاعي على مبادئ استخدام المنهج وطرائق البحث المناسبة لهذا العلم أو ذاك. حيث يتميز علم المناهج القطاعي بتبعيته لموضوع دراسة اختصاص علمي محدد. فمن أجل أن يقوم علم الاجتماع، على سبيل المثال، بوظيفته على أحسن وجه لابد للمختصين فيه من البحث الدائم عن أصدق المداخل المنهجية التي تساعد على الحصول على المعلومات الدقيقة من الواقع الاجتماعي، وهذا يمكن أن يتم في إطار علم المناهج القطاعي الخاص بعلم الاجتماع [ر] الذي يصب اهتمامه على مسائل، مثل: تطوير المداخل المنهجية المناسبة لدراسة موضوع علم الاجتماع، ودراسة إمكان استخدام كل طريقة من طرائق البحث الاجتماعي وحدودها وكيفية الولوج ميدانياً إلى الواقع الاجتماعي لجمع البيانات المطلوبة منه وفقاً للمخطط النظري.
مراجع للاستزادة:
ـ ماهر عبد القادر محمد علي، فلسفة العلوم: الميثودولوجيا (علم المناهج) (دار النهضة العربية، بيروت 1997).
ـ بول موي، المنطق وفلسفة العلوم، ترجمة فؤاد زكريا (دار نهضة مصر، القاهرة د.ت).
ـ فرانتز روزنتال، مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي، ترجمة أنيس فريحة (دار الثقافة، بيروت 1961).
-Y.BRIK, Zur Anwendung der experimentellen Methode in der Soziologie (Leipzig 1988) .
– F. BACON, Das Neue Organon (Berlin 1982)