ماهو الاقتصاد السياسي الإسلامي؟ يعرف الاقتصاد الإسلامي بتعاريف عديدة؛ منها ما يلي: -هو: علم يبحث في كل ما يتعلق بالثروة والمال والتكسب والتملك والإنفاق، ومسائل الإنتاج والاستثمار، ومسائل الانتفاع والخدمات، ومسائل التوفير والادخار، ومسائل الغنى والفقر في ضوء الأصول الشرعية، والقواعد الكلية، والمنظومة القيمية الاخلاقية في الإسلام .
-هو: الاقتصاد النزيه؛ المتوازن الفكرة؛ والتطبيق؛ والقائم على القرآن والسنة؛ فهو الاقتصاد الذي وضع الله تعالى أصوله وأحكامه وجذوره الرئيسية للبشر؛ ليحكم جميع نواحي حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والمالية والإدارية وغيرها؛ وتسود المجتمعات الانسانية الازدهار والانتعاش والعدل وتكافؤ الفرص والإخاء والمحبة. ويمتاز الاقتصاد الإسلامي بأنه الاقتصاد الواقعي السمح المؤهل لبناء حياة اقتصادية واجتماعية متوازنة؛ وتسمح للفرد أن يمارس نشاطه الاقتصادي؛ وتحفظ حقوقه؛ وملكيته الفردية؛ كما تضع له واجبات وضوابط شرعية تضبط وتهذب حريته الاقتصادية, فهو نظام اقتصادي أخلاقي لا يسمح بالممارسات الفردية المطلقة التي تضر بالآخرين؛ فيمنع الغش والاحتكار والربا والاستغلال وأكل أموال الناس بالباطل .
-هو: مجموعة من الأصول العامة التي يمكن استخراجها من القرآن والسنة؛ لبناء النظام الاقتصادي الذي يقيمه المسلمون على ضوء تلك الأصول؛ وحسب بيئة وظروف كل عصر. أو هو: العلم الذي يبحث في كيفية إدارة واستثمار واستغلال الموارد الاقتصادية الوفيرة؛ وغير النادرة؛ لإنتاج السلع والخدمات في البلد الاسلامي؛ ولإشباع الحاجات الإنسانية والاقتصادية التي تتسم بالتطور والتنوع، في ظل إطار القيم الإسلامية، والتطلعات الحضارية للمجتمعات الإسلامية. أو هو: العلمُ الذي يبحث عن الطريقة التي يوزع بها النواتج الاقتصادية بين المشتركين في العمليات الإنتاجية في الدولة الإسلامية، في ظل أحكام الشريعة الاسلامية؛ والحضارة؛ والإطار القيمي الأخلاقي الإسلامي .
ماهية الاقتصاد السياسي
– علم اجتماعي يدرس الإنتاج والتجارة وعلاقتها بالقانون والحكومة، كما يهتم بدراسة كيفية تأثير النظريات الاقتصادية على النظم الاجتماعية والاقتصادية المختلفة ، إلى جانب إنشاء وتنفيذ السياسات العامة، فالمجموعات المختلفة في الاقتصاد لديها معتقدات مختلفة حول كيفية تطوير اقتصادها، لذا فإن الاقتصاد السياسي مجال معقد يغطي مجموعة واسعة من المصالح السياسية، وبعبارات بسيطة يشير الاقتصاد السياسي إلى المشورة التي يقدمها الاقتصاديون للحكومة بشأن السياسات الاقتصادية العامة أو بشأن بعض المقترحات المحددة التي وضعها السياسيون .
– المعرفة المتعلقة بمجموع الظواهر المكونة للنشاط الاقتصادي للانسان في المجتمع ، أي النشاط الخاص بالانتاج وتوزيع المنتجات والخدمات اللازمة لمعيشة الأفراد ، وهذا النشاط يكتسي وجه علاقة مزدوجة تعبر عن علاقة الانسان بالطبيعة وعلاقة الانسان بالانسان .
العلاقة الأولى يعلمنا التاريخ الاقتصادي للمجتمعات بأن الفعاليات الاقتصادية”العملية الانتاجية ” للانسان
كان و لايزال يجد نفسه فيها دائما بمواجهة الطبيعة لاشباع حاجياته؛ فيقوم باخضاعها لسيطرته وجعلها أقل بدائية ، و في نفس الوقت هو يخلق منها أدوات لعملية الانتاج ” وسائل الانتاج” .
وفي العلاقة الثانية نجد العملية الانتاجية كعملية اجتماعية يقوم الانسان فيها بتقسيم العمل لاجل مواجهة الطبيعة واشباع حاجياته .
-دراسة الإنتاج والتجارة وعلاقاتهما بالقانون والعادات والحكومة؛ وبتوزيع الدخل القومي والثروة .
-الاقتصاد الذي ينظر إلى أي نظرية اقتصادية على أنّها منهجية يتمّ تبنيها كأداة لتوجيه وتوزيع كمية محددة من الموارد المتاحة بطريقة تضمن أن تعود النتائج بالنفع الأكبر على جميع الأفراد في المجتمع. ويُعتبر الاقتصاد السياسي فرع من فروع العلوم الاجتماعية بل أساس العلوم الاجتماعية كونه نتيجة التفاعل بين الاقتصاد والسياسة، إذ يركّز على العلاقات والمعاملات المتبادلة بين الأفراد والحكومات والسياسة العامة بشكل أساسي .
– علم يبحث في تحقيق اشباع حاجات المجتمع او الدولة بطريقة قائمة على الحصول على ما يلزم لأبناء المجتمع من حاجاتهم عن طريق استخدام السياسة في اقامة علاقات مبنية على الاحترام المتبادل وعدم التبعية السياسية او النقدية او الاقتصادية وتحقيق الاستقلال في الرأي السياسي والاقتصادي .
الاقتصاد السياسي في الفكر الاقتصادي الإسلامي
الاقتصاد الاسلامي مرتبط بظهور الاسلام كدعوة الى الله ودين شامل لحياة الناس جميعا. وقد تأسست قواعده منذ نزول القرآن الكريم على رسول الله ﷺ ، قبل ان يعرف العالم القديم الاقتصاد كعلم. ومن الآيات القرآنية الدالة عليه، سورة المطففين في قول الله تعالى:[ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ][ سورة المطففين-الآيات:1, 2, 3], فنزلت السورة لضبط المعاملات التجارية وللتحذير الشديد من جريمة الغش في المعاملات بين الناس التي تفسد العلاقات في المجتمع.
وكذلك قول الله تعالى: [وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ ۖ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ][سورة الروم-الآية: 39]. وتفسيرها: [وما آتيتم -أيها الناس- من مال تريدون به زيادة من أموال الناس بأن يردوه إليكم أكثر مما آتيتموهم، فلا ينمو عند الله، ولا خير فيه؛ وما آتيتم من زكاة تريدون بها وجه الله فأولئك هم الذين لهم الضعف من الأجر والثواب.] .
ولما تـأسس المجتمع السياسي الاسلامي في المدينة المنورة، تواصل نزول التشريع القرآني لتنظيم وتوجيه الحياة الروحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فنزلت الآيات المنظمة للتجارة والمعاملات المالية والعقود. كما قام رسول الله ﷺ بإنشاء سوق للمسلمين تحررهم من احتكار اليهود وسيطرتهم على الاقتصاد في المدينة المنورة.
تنظيمات الاقتصاد السياسي الاسلامي
بعد انتشار الاسلام واندماج ثقافات ونظم اجتماعية متنوعة في المجتمع الاسلامي الواحد، ظهرت قضايا اقتصادية متجددة، أدت الى انشاء نظم اقتصادية في غاية الأهمية والدقة، للتحكم في الموارد الاقتصادية وضبط الاجراءات المناسبة في التوزيع العادل للثروات منها:
1-بيت المال
وله عدة اسماء منها: ديوان الاموال، ويعتبر اول مؤسسة اسلامية اقتصادية ذات شخصية معنوية؛ منظمة لشؤون المال وسياسة الاقتصاد بوجه عام، لتشمل حجم الايرادات والنفقات الدولة الاسلامية والمداخيل والمخرجات المالية المتعلقة بالجزية والخراج والفيء والغنائم والزكاة وغيرها.
2-ديوان الحسبة
اسم من الاحتساب، والاحتساب من الحسب، وفي الاصطلاح: يقول العلامة “الماوردي”: هي أمر بالمعروف اذا ظهر تركه ونهي عن المنكر اذا ظهر فعله “. وذكر العلامة ابن خلدون: انها: “وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
3-الاوقاف
الوقف مؤسسة خيرية تعمل على تسيير الأموال الموقوفة على سبيل الخير والاحسان.
4-البنوك الاسلامية
هي مؤسسات مالية قائمة في شكل شركات لا تتعامل بالفوائد الربوية المحرمة في الشريعة الاسلامية، وبمعنى آخر مؤسسة تقوم بنشاط مبرأ من التعامل بالربا.
من هذا المنطلق فقد نشأت المكتبة الاقتصادية الاسلامية عبر التأريخ الاسلامي وسبقت نظيرتها الاوروبية الحديثة بأكثر من الف ومئتي سنة؛ فظهر التخصص العلمي في المؤلفات الاقتصادية الاسلامية، من خلال ما تناوله فقهاء الاسلام في كتاباتهم واستعمالهم مصطلحات متعددة للتعبير عنها، مثل: “المعاملات”، “الاكتساب”، “المعاش”، “الأموال”. والتي لها دلالات واضحة على الاقتصاد في اطار مبادئ الاسلام الحنيف. ومن الكتب المؤلفة في هذا المجال:
- –كتاب “الخراج” لأبي يوسف صاحب أبي حنيفة- للمؤلف: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حبتة الأنصاري (المتوفى : ١٨٢هـ).
- -كتاب “الخراج”- للمؤلف: يحي ابن آدم القرشي في عام 203هـ/785م.
- -كتاب “الأموال”- للمؤلف: أبو عُبيد القاسم بن سلام بن عبد الله الهروي البغدادي (ت ٢٢٤هـ).
- -كتاب “الاكتساب في الرزق المستطاب- للمؤلف: الإمام محمد بن الحسن الشيباني (234هـ/815م)
- – كتاب ” الأموال “- للمؤلف: أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي المالكي (ت 402 هـ).
- -كتاب “اغاثة الامة بكشف الغمة”- للمؤلف: العلامة تقي الدين أحمد بن علي المقريزي/القاهرة (766هـ/ 1365م) – (845هـ/ 1411م) ، في النقود ودورات الاعمال الاقتصادية، بحث فيه اسباب الأزمات الاقتصادية وقدم الحلول لها.
- – كتاب “الاستخراج لأحكام الخراج”- للمؤلف: أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي (ت ٧٩٥هـ).
- – كتاب “المقدِّمة”- للمؤلف: العلامة عبد الرحمن بن خلدون في القرن 7هـ/13م والتي توجد الكثير من افكاره في كتاب “ثروة الامم” لأدم سميث”، الذي كتبه عام 1776م.
- -كتاب “الفلاكة والمفلوكون”- للمؤلف: أحمد بن علي بن عبد الله شهاب الدين الدَّلْجي المصري (٧٧٠/ ٨٣٨ هـ = ١٣٦٨/١٤٣٥ م).
وعلى ما مرَّ فان الاقتصاد السياسي الاسلامي قائم بذاته الى جانب الاقتصاد ككل، فهو اقتصاد سياسي واقعي يحترم الملكية الفردية والجماعية ويوازن بينهما ويجعل كل منها في خدمة الاخرى. كما ان له مبادئ وقيم يرتكز عليها؛ ومن خلالها يتم تجميع طاقات المجتمع لرسم سياسات اقتصادية جادة وواقعية؛ تحقق التوازن بين الانتاج والاستهلاك؛ وبين الاستثمار والادخار؛ وبين الصادرات والواردات؛ وتأخذ في الحسبان التطور والتنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ والامكانيات المتاحة للمجتمع الاسلامي لتحقيق الرفاه الاقتصادي والاستقرار السياسي.
الفرق بين مصطلحي الاقتصاد السياسي الاسلامي والاقتصاد الاسلامي
بالاستناد الى ما ورد من توضيحات؛ يرى الباحث انه لا يوجد فرق أو اختلاف بين كِلا المصطلحين, لذا فلا ضير من استخدام أيٍّ منهما, فهما مصطلحان مترادفان لهما نفس المعاني والمضامين, إلاّ أن علماء الاقتصاد الاسلامي درجوا على استخدام مصطلح الاقتصاد الاسلامي خالية من كلمة السياسي للتلخيص والسهولة والسرعة والتخفيف.
خصائص الاقتصاد السياسي الاسلامي:
يرتكز الاقتصاد السياسي الاسلامي على مجموعة كبيرة من الخصائص، منها ما يلي:
1- ربّانية المصدر والهدف
بمعنى انه جزء من الاسلام؛ كدين شامل لكل جوانب الحياة، فهو يستمد أصوله وجذوره من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة, ثم يضيف اليها الاجتهادات البشرية على ضوءهما؛ لذلك نقول ان اصوله وجذوره من هذين المصدرين ثابتتان لا يتغيران؛ اما ما يضاف الى علم الاقتصاد الاسلامي من اجتهادات وآراء ونظريات وسياسات اقتصادية فهي غير ثابتة ومتغيرة؛ وتتغير حسب التغيرات الزمانية والمكانية والحالية المتغيرة.
والاقتصاد الاسلامي يهدف الى سدّ حاجات الفرد والمجتمع؛ في اطار مبدأي الاستخلاف والتسخير في الارض بالتصرف في المال والانتفاع به، لأن المال ملك لله تعالى وحده. فالمسلم يسعى لإرضاء مالك المال في كل نشاط اقتصادي مصداقا لقول الله تعالى:[ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ][سورة القصص-الآية: 77].
2- الرقابة الخماسية
يخضع النشاط الاقتصادي في الاقتصاد الاسلامي الى خمسة أنواع من الرقابة؛ الثلاثة الأولى مستمدة من قول الله تعالى: [وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ][سورة التوبة-الآية:105], وتفسيرها: [اعملوا لله بما يرضيه من طاعته واداء فرائضه واجتناب المعاصي فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وسيتبين امركم؛ وسترجعون يوم القيامه الى من يعلم سركم وجهركم ؛ فيخبركم بما كنتم تعملون وفي هذا تهديد ووعيد لمن استمر على باطله وطغيانه] .
أ-الرقابة الإلهية: أي: [فإن اللّه مطلع عليكم] , [قوله تعالى: وقل اعملوا خطاب للجميع . فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون أي بإطلاعه إياهم على أعمالكم . وفي الخبر: لو أن رجلا عمل في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائنا ما كان.] .
ب-رقابة رسول الله ﷺ: [قيل: رؤية النبي ﷺ بإعلام الله تعالى إياه] , [وسيطلع رسوله وعباده المؤمنين على أعمالكم ولو كانت باطنة.] .
ج- رقابة المؤمنين: [ورؤية المؤمنين بإيقاع المحبة في قلوبهم لأهل الصلاح ، والبغضة لأهل الفساد .] , قال النبي ﷺ : [إن أعمالَكم تُعرَضُ على أقاربِكم وعشائرِكم من الأمواتِ، فإن كان خيرًا استبشَروا به، وإن كان غيرَ ذلك قالوا : اللهم لاتُمِتْهُم حتى تهديَهم كما هديتَنا][ أخرجه الإمام أحمد: (12683)].
د-الرقابة الذاتية للفرد المسلم على نفسه: فهي نابعة من المسلم ذاته عندما يلتزم بمراقبة سلوكه الاقتصادي واعتباره عملا تعبديا, فالمسلم كما يراقب نفسه في جميع نواحي حياته ليتوافق مع ما أمر الله به في القرآن والسنة, فإنه يراقب الآخرين ليتوافق أعمالهم مع القرآن والسنة, يقول النبي ﷺ : [مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ.][ صحيح مسلم-رقم الحديث:49], وقال النبي ﷺ: [الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنا: لِمَنْ؟ قالَ: لِلَّهِ ولِكِتابِهِ ولِرَسولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعامَّتِهِمْ.][صحيح مسلم-رقم الحديث:55].
هـ- رقابة الدولة الاسلامية: بدأت هذا النوع من الرقابة منذ العهد النبوي الشريف؛ من خلال نظام إداري يسمى بنظام الحسبة؛ وفيه يُعتمد على عامل أو موظف يسمى بالمحتسب.
وأوَّلُ مَن احتسب هو رسولُ الله ﷺ، فقد كان يمرُّ على الأسواق ويقول للناس: [مَن غشَّنا فليس منَّا][صحيح مسلم-رقم الحديث:101]. ويعد الخليفة الراشد الثاني: عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوَّل مَن وضع نظام الحسبة. وقد استمرَّت الحسبة في العصر الأموي، ونقلها الأمويون إلى الأندلس، وكانت من أهم الوظائف الشرعية عندهم. لكن المصطلح لم تتحدَّد معالِمُه، ولم يُصبِح عَلمًا على مؤسسة كالقضاء والشرطة؛ إلا نتيجة لاهتمامِ العباسيين خلال العصر العباسي الأوَّل بجعل الشريعة الإسلامية أساسًا لحكمهم، ولمقاومة حركات الزندقة والمتأثِّرين بها، والناشرين للإلحاد والفساد. وقد صارَتْ وظيفة المحتَسِب في القرن الرابع الهجري من الوظائف الثابتة الوطيدة الأركان في جميع الدولِة الإسلامية.
وكان المحتسِب يُختار مِن بين علماء الدين والقلم، الملمِّين بأحكام الشريعة، والأشدَّاء في الحق، وذوي الثقة والأمانة، وربما كان من القضاة أو أعيان المعدَّلين، وربما أضيفت أعمال الحسبة إلى القاضي، أو إلى الوالي، أو صاحب الشرطة، وقد يجمع المحتسب بين نظر الحسبة ونظر الوقف، وكان المحتسب يولي عنه نوابًا في سائر المدن والأقاليم التابعة له، وكانت اختصاصاتُ المحتسب تُوجِب مراقبة ما يتعلق بتأدية العبادات؛ بتأدية صلاة الجمعة، والمحافظة على الصلاة جماعةً، وأداء الزكاة، ورَدْع أهل البدع، ومراقبة الأسواق، ومعاملة التجَّار للناس، ومراقبة النقابات والحِرْفِيين .
وارتقى نظام الحسبة وتوسعت دائرة وظيفة المحتسب شيئًا فشيئًا، حتى شملت أشياء كثيرة, فمن أعمال وظيفة المحتسب ما يلي :
- – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوجيه النصح والإرشاد، بحسب الحاجة في المجامع العامة.
- – مراقبة المكاييل والموازين للتحقق من مطابقتها لما يجب أن يتكون عليه في مقاديرها.
- – مراقبة السلع المعروضة للبيع في الأسواق، للتحقق من سلامتها من الغش والتدليس، ومحاسبة الغشاشين، والمدلسين، وتأديبهم ومعاقبتهم ضمن حدود النظام.
3- الجمع بين الثبات والمرونة أو التطور
الأمور الثابتة مثل: تحريم الربا والميسر والخمر, واباحة البيع والعقود والزكاة, وتوزيع التركات على الورثة, ثبات حدّ السرقة. أما المرونة أو القابلية للتطور فهي الإتساع للأساليب العديدة والمتنوعة؛ والتجاوب مع الوسائل المتجددة؛ ما دامت لا تخرج عن الحكم الشرعي. وهذا عكس المذاهب الاجتماعية والاقتصادية الوضعية التي لا تثبت على حال وتتغير في كل الاحوال بشكل مطلق غير منضبط.
4- التوازن بين المادية والروحية
خلق الله تعالى الانسان من مادة وروح فهو اعلم بالمنهج الحياتي الذي يسير عليه، قال الله تعالى: [وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ][سورة القصص-الآية: 77], تعني الآية بكل دقة أن كل محاولة لشطر الإنسان بين هاذين العالمين؛ اللذين يمثلان الحقيقة الإنسانية ويحددان طبيعة البشر، كل محاولة لشطرهما فهي الفساد لا محالة، وتخبط البشرية واضطرابها رهين بجعل الإنسان ملتصقا بأحد العالمين دون الآخر (الدنيا والآخرة)، بينما التوازن الذي يحفظ الكيان الإنساني من الذوبان هو الاحتفاظ بوجود الإنسان فيهما دائما وابداً .
5- الواقعية
الاقتصاد الاسلامي يقوم على الواقع وليس الخيال او الاوهام والوعود الزائفة، فهو ينظر الى الواقع العملي الذي يتفق مع طبائع الناس، ويراعي دوافعهم وحاجاتهم ومشكلاتهم.
6- التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع
الاسلام دين الفطرة جاء لرعاية مصالح الانسان وحفظ كرامته وضمان حقه في العيش بحرية ضمن نطاق الشريعة الاسلامية؛ والقيام بالعبادة في ظل المنهج الرباني المستقيم؛ واهتم ايضاً بمصلحة الجماعة برعايتها والتأكيد على التوازن بينها وبين المصلحة الفردية. والمثال على ذلك: ان حق الملكية مضمون للفرد فلا يجوز الاعتداء على ملكيته مهما اكتسب من حلال، وله حق الاستعمال والانتفاع والاستغلال لملكيته، بشرط ان لا يتسبب ذلك في الحاق الضرر بمصالح الآخرين والجماعة .
كذلك المحتكر لا يجوز له الاحتكار بسبب تعارضه مع النفع العام. وهذا التوازن لا يوجد في المذاهب الاقتصادية الوضعية، فالرأسمالية الوضعية تقدس حرية الفرد على حساب الجماعة؛ والاشتراكية الوضعية تقدس الجماعة على حساب الفرد, وهكذا نجد اتجاهين وضعيين متناقضين, ويبقى الاقتصاد الاسلامي متميزا بخصيصة التوازن على جميع الأصعدة؛ وبالاستقلال الفكري والعقدي في الحياة الاقتصادية.
الاقتصاد السياسي الإسلامي
-ان الاقتصاد الإسلامي ينفرد ويتمايز بنظرة اقتصادية عقائدية للمال؛ إذ المالك الحقيقي للمال هو الله عز وجل، قال الله تعالى: [ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ][سورة المائدة-الآية:120]؛ فالملكية في الاقتصاد الإسلامي لا تثبت إلا بإباحة الشارع لها، وتقريره لأسبابها، وهي عقدياً ملكية انتفاع وليست ملكية رقبة، وناشئة عن استخلاف الله تعالى للإنسان في الأرض.
قال الله تعالى: [ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ][سورة البقرة-الآية:30]؛ والبشر المستخلفون من الله تعالى في الأرض ومأمورون بالإيمان بالله وبرسوله على الوجه الأكمل، والإنفاق في سبيله، قال الله تعالى: [ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ][سورة الحديد-الآية:7].
-إن الاقتصاد الإسلامي أو الاقتصاد السياسي الإسلامي يؤكد على الخطوط العامة للانتاج ولعوامل الإنتاج في سياسته الاقتصادية, وبشكل يبعث على الجدّ والعمل والأمل في النفوس الإنسانية؛ بحيث يطرد منها عنصر البؤس والكسل والخمول؛ ويوجهها نحو التقدم والتطور والإبداع, والتاريخ الإسلامي يعطي صورة مشرقة لنتائج هذه السياسات .
وهناك نوعين من الانتاج في الاقتصاد السياسي الإسلامي؛ الأولى إنتاجي والثاني غير انتاجي.
فالإنتاجي يشمل كل السلع والخدمات الموافقة للشريعة الاسلامية؛ وتتسم بالحلال والقدرة على اشباع الحاجات الانسانية والاقتصادية على نحو مشروع وحلال.
أما الثاني ؛ فهو الانتاج المرفوض والحرام؛ والذي ينبذه الشريعة الاسلامية؛ وتتسم بالضرر والإضرار والخبث والنجس؛ وغير قادرة على اشباع الحاجات.
فالأولى يعتبر عملا منتجا ويخلق دخولا حلالا ؛ ويعتمد عليه الاقتصاد السياسي الاسلامي في عمليات التنمية والتطور, أما الثاني فهو غير منتج ويخلق دخولا حراماً, فالاحتكار كأحد أشكال المعاملات المحرمة شرعا ليس عملا منتجا، ولذلك لا يحق للمحتكر الحصول على دخل، لأنه لم يؤد للمجتمع أي نشاط منتج. فإذا مارس أي شخص مثل هـذه المعاملات الممنوعة والمحرمة شرعا سيكون الدخل الذي يحصل عليه دخلا حراما؛ ويكون آثما. وبجانب هـذه العقوبة، يكون على ولي الأمر منعه ومعاقبته.
-واساس النظام الاقتصادي السياسي الإسلامي هو الأسلمة الأخلاقية في المقام الأول, ثم الاعتماد على نظام الملكية للوسائل المستخدمة في إنتاج المنتجات .
-ان دعوة الإسلام الحكيمة تكمن في الدعوة الى تحقيق حياة كريمة سعيدة وفق نظام اقتصاد رباني هو الاقتصاد الإسلامي, فتعريف الاقتصاد في المنظور الاسلامي لغة هو: القصد، أي التوسط والاعتدال من دون إفراط ولا تفريط, يقول الله تعالى: [وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ][سورة لقمان-الآية:19], وقول الله عزَّ وجلَّ: [مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ][سورة المائدة-الآية:66], أما تعريفه اصطلاحاً فيتمحور في ربط سلوك وتصرف الإنسان بإدارة الموارد الاقتصادية الوفيرة وتنميتها لإشباع الحاجات الانسانية والاقتصادية العامة والخاصة؛ بالاستناد الى القرآن والسنة, وخلق حياة اقتصادية مستوفية لشروط وأحكام الشريعة الإسلامية, والقيام على كل ما هو حلال ونبذ وتجنب كل ما هو حرام في الشريعة الإسلامية.
أسس عامة للاقتصاد السياسي الإسلامي
الاقتصاد السياسي الإسلامي يقوم على أسس اقتصادية عديدة منها ما يلي :
أولاً ـ العمل والإنتاج من مهام الإنسان الأساسية: إعتبرت الشريعة الإسلامية العمل والإنتاج من مهام الإنسان الأساسية، وعدَّتْه واجباً لتحقيق المستوى اللاّئق من العيش، ولتوفير مستلزمات الحياة الخاصة بالفرد؛ وبمن هو واجب النفقة عليه كالأبناء الصغار والزوجة والأبوين اللذين ليس لهما مورد للعيش، والقيام بالتكاليف المالية الواجبة عليه، كقضاء الدين مثلاً.
فقد أمر القرآن الإنسان بالعمل والإنتاج في قول الله تعالى: [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ][سورة الملك -آية:15], وقول الله عزَّ وجلَّ: [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ][سورة الجمعة-الآية:10].
ثانياً ـ احترام الملكية الفردية: قال الله تعالى: [ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ][سورة البقرة -الآية: 188], وقال رسول الله ﷺ: [ لا يَحِلُّ مالُ امرِيءٍ مُسلمٍ إلَّا بِطِيبِ نفسٍ مِنهُ ][ الألباني- صحيح الجامع-الصفحة أو الرقم : 7662-صحيح].
وقد وضعت الشريعة الإسلامية القوانين اللاّزمة لحماية الملكية. فللإنسان حق العمل والإنتاج والتملك، والإنفاق والتصرف بماله وفق القيم التي حددتها الشريعة له، كما وله حقّ التملّك أيضاً عن طريق الميراث الذي ينتقل إليه من ذوي العلاقة به، كالآباء والأجداد والجدات، والأبناء والزوج والزوجة والإخوان والأخوات.. الخ وعن طرق مشروعة أخرى كالهبة والوقف.. الخ.
ثالثاً ـ احترام الملكية العامة: وهى ملكية مشتركة بين مجموع أفراد الأمة على الشكل الجماعي دون أن يختص بها أحد منهم، إما لتجاوز المنفعة من هذه الأشياء على ما يبذل فى سبيلها من جهد ونفقة، وإما لكون نفعها ضروريا لمجموع الأمة ولا غنى لأفرادها عنها . وتشمل الملكية العامة في الاقتصاد الإسلامي المعاصر: المعامل والمؤسسات الانتاجية المادية والخدمية والمدارس والجامعات ومنشآت الطرق والمواصلات كالباخرات والطائرت والسكك الحديدية
وكل مجال اقتصادي في الدولة تخدم المجتمع الاسلامي على الوجه العام؛ وتكون تابعة للقطاع العام للبلد الاسلامي. وان منتجات القطاع العام مع رجوعيتها للمجتمع إلاَ أن بعض منتجاتها يجب أن تشترى بالنقود؛ والمثال على هذا المنتجات النفطية كالنفط الأبيض ووقود السيارات والمكائن؛ فهي غير مجانية وتعطى للمواطنين بأسعار منخفضة ومدعومة من الدولة, وفي بعضها الآخر يكون مجانياً لأفراد المجتمع كالدراسة في المدارس المختلفة والجامعات في الدولة؛ والخدمات التي تعطيها وزارات الدولة للمواطنين؛ فهي مجانية وتعطى للمواطنين بدون مقابل.
رابعاً ـ احترام الملكية المشاعية للمباحات العامة: أثبتت الشريعة الإسلامية الملكية المشاعية للمباحات العامة, قال رسول الله ﷺ: [ المسلِمونَ شُرَكاءُ في ثلاثٍ : في الكلأ ، والماءِ ، والنَّارِ ][ الألباني-صحيح أبي داود-الصفحة أو الرقم: 3477-صحيح], وشرح الحديث: [هناك من الموارد الطبيعية التي لا غنى للإنسان عنها والتي ينتفع بها الجميع وإن غابت عنه هلك؛ فلذلك جعلت مشاعا للمسملين، وفي هذا الحديث يقول النبي ﷺ:
“المسلمون شركاء في ثلاث”، أي: إن لهم الحق في ثلاثة أشياء، ولا يحق لأحد أن يبيع ولا أن يتسلط على هذه الأشياء، فيمنع الانتفاع بها، “في الكلأ”، أي: شركاء في المراعي والأعشاب التي لا يملكها أحد في الأرض الموات، “والماء”، أي: شركاء في مياه الأنهار والأمطار والعيون التي لم يسع أحد في حفرها، “والنار”، أي: شركاء فيما ينتفع به ويستخدم للنار؛ كالأشجار والحطب وغيرها، ويدخل معها مستحدثات العصر من النفط والفحم وما شابه، وهذه كلها أمورٌ الناس شركاء فيها، فلا يصلح أن تمنع، والناس يحتاج بعضهم إلى بعض، لا سيما إذا كانوا في البراري، وليس معهم حاجاتهم الكافية التي لا بد منها.].
وما ورد: [أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء][سنن أبي داود-رقم الحديث: 3478], وقال رسول الله ﷺ: [ [ ثَلاثٌ لاَيُمْنَعْنَ: المَاءُ وَ الكَلأُ وَ النَّارُ ][ سنن ابن ماجه-رقم الحديث: 2473]. فهذه الثروات الثلاثة المذكورة وكل ثروة أو موارد اقتصادية أخرى تدخل ضمن المباحات العامة في الدولة والمرافق العامة والغابات الطبيعية وحيوانات البراري والاسماك التي لم تقم الانسان بتربيتها وبذل الجهود فيها والمجوهرات واللؤلؤ والمرجان في البحار والأنهار وغيرها, كلها تدخل ضمن هذا النوع من الملكية, ومنتجاتها مجانية.
وكل فرد من أفراد الأمة له الحق في الانتفاع منها بقدر حاجاته من غير افراط ولا تفريط, والدولة الاسلامية لها حق الاشراف والحماية واصدار القوانين الضرورية بحق الانتفاع منها من قبل المواطنين؛ والحفاظ عليها وتجنيب العبث والهدر والتلف فيها؛ والتخطيط لتنميتها وتكثيرها.
خامساً ـ تحقيق التوازن الاقتصادي: تكفلت الشريعة الإسلامية بتحقيق التوازن الاقتصادي في المجتمع الإسلامي، والحيلولة دون إثراء طبقة على حساب الآخرين وحرمانهم. فحرَّمت الاحتكار والربا والتلاعب بالأسعار والأجور وأكل أموال الناس بالباطل. وقد حدد القرآن الكريم هذه المبادئ بقول الله تعالى:[ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ][ سورة الحشر -الآية: 7], وقول الله عزَّ وجلَّ: [ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ][ سورة التوبة -الآية: 34], وقول الله تعالى:[ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ][سورة الذاريات-الآية: 19].
سادساً ـ فريضة الزكاة : أوجبت الشريعة الإسلامية فريضة الزكاة وقرنها القرآن بالصلاة، قال الله تعالى: [ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ][سورة البقرة -الآية:43].
سابعاً ـ تنظيم الإنتاج والتوزيع والادخار والاستهلاك والإنفاق : وضع الاقتصاد الإسلامي أسساً وقيماً لتنظيم الإنتاج والتوزيع والادخار والاستهلاك والإنفاق لتحقيق الاستقرار والتوازن والطمأنينة والسلام، وتجنيب المخاطر السياسية والأمنية والصحّية والاجتماعية عن الفرد والمجتمع والبلد الاسلامي.
ثامناً ـ مبدأ الكفالة والضمان: أقرت الشريعة الإسلامية مبدأ الكفالة والضمان. فالأفراد في المجتمع الإسلامي يتحمّلون مسؤولية التضامن فيما بينهم لمواجهة الفقر والحاجة. قال الله تعالى: [ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ][سورة الانسان-الآية:8], وقول الله تعالى:[ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ][ سورة النور – الآية: 33].
والثمرات التي يجنيها المجتمع الإسلامي من هذه الأسس هي:
- الإتقان في الإنتاج: بالإتقان في الإنتاج والازدهار في الاقتصاد يشعر الفرد أن الذي يجنيه يعود نفعه عليه بشكل خاص وعلى المجتمع بشكل عام.
- تثبيت دعائم انظمة الأخلاق الاسلامية في المجتمع الإسلامي: لأن الإسلام غرس في نفس المسلم مراقبة الله ورسوله والمؤمنين في جميع نشاطاته وفعالياته الاقتصادية والاجتماعية، قال الله تعالى: [ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ][ سورة التوبة – الآية: 105], وربى ضميرهم على الخشية من الله تعالى في السرِّ والعلن.
- حفظ المجتمع الإسلامي: حفظ المجتمع الإسلامي من الجرائم الاجتماعية وإزالة الفوارق الكبيرة بين الناس وإزالة أسباب الكراهية والصراعات والحقد التي تكون بين الأغنياء والفقراء, وزرع الثقة والتعاون فيما بينهم على أساس البرِّ والتقوى.
الاقتصاد الإسلامي والطمأنينة والسلام
إن مفهوم العدالة الاجتماعية في الاقتصاد الإسلامي يشمل جميع النواحي التي تتعلق بحياة الانسان وسلوكياته مع نفسه ومع الاخرين , ويبدأ من: رفض الظلم بكل اشكاله؛ ومحاربة نظام العبودية واستغلال البشر للبشر, وتحرير فكر الفرد المسلم من الجمود والتشتت؛ وتوجيهه نحو الفكر التوحيدي, ونبذ عبادة الاصنام والشرك وتحويله الى الايمان بالله وحده ووحدانية الخالق تعالى, وهذه العدالة شمولية لجميع نواحي المختلفة ؛ عكس الانظمة الاقتصادية الوضعية؛ سواءً النظام الرأسمالي الوضعي او النظام الاشتراكي الوضعي؛ اللذين يلغيان دور الفرد الحق في الحياة الاقتصادية وتدوران فقط حول محوَر واحد هو ملكية الثروة ووسائل جمعها بشكل مادي بحت.
جاء الاقتصاد الإسلامي وعمل تحت أوامر قول الله تعالى: [ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ][سورة النحل-الآية:90], فعمل على تأسيس نظام اخلاقي راسخ؛ ليكون أساساً لتوزيع ثروات الأمة بشكل عادل شرعي بين افراد المجتمع الاسلامي, ووضع معايير شرعية ونظاماً تشريعياً وتنفيذياً متوازناً يعمل على تحقيق العدالة في كل من توزيع وإعادة توزيع المال والثروة تحت مظلة الاسس والضوابط الشرعية التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة, والتي تهدف الى تعميق روح التكافل والتعاون بين المسلمين؛ ومحو الصراعات العرقية والطبقية والاستغلال بأنوعه ورفع الظلم عنهم, ولتحقيق هذا استخدم أدوات مالية واقتصادية مختلفة منها:
فرض الزكاة وتنظيم الميراث والحث على الصدقات واعمال البرّ والاحسان وجميع النشاطات الخيرية وكل ما من شأنه ان يساهم في رفع المعاناة وعبء الفقر والحاجة عن كاهل المسلمين, وحرم الربا.
يقول الله تعالى: [ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ][ سورة البقرة- الآية:275], وحرم الاكتناز؛ يقول الله تعالى: [ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ][سورة التوبة-الآية:34], وحرم الإحتكار؛ يقول رسول الله ﷺ: [لا يحتكِرُ إلَّا خاطِئٌ][ صحيح مسلم-رقم الحديث:1605].
كذلك حارب الغش والتدليس والغرر والكذب في البيع والمعاملات؛ واستغلال الانسان للانسان والهدر والاتلاف والتبذير المحرم وغير المبرر للموارد الاقتصادية للمجتمع. ووضع الأسس الجوهرية لتحقيق التوازن الاقتصادي والاجتماعي للوصول الى مجتمع متوازن تسوده العدالة والمساواة المنضبطة والحرية الشرعية؛ من خلال الفرض والحث على الصدقات ودعم فئات الفقراء والمساكين والمعوزين بشكل عام وسدّ حاجات المحتاجين في المجتمع الاسلامي بقول الله تعالى:
[ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ][ سورة التوبة – الآية: 60], وقول الله تعالى:[ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ][ سورة النور-الآية:33] , وقول الله عزَّ وجلَّ: [ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ][سورة الذاريات-الآية:19], وكل هذا أدى الى خلق مجتمع متعاون متكافل متعاضد؛ يقول الله تعالى: [ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ][سورة المائدة-الآية:2], وقول الله تعالى: [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ][سورة الحجرات-الآية:13].
فتحقق التوازن الاجتماعي؛ وأُلغِيت الفوارق والصراع الطبقي بين افراد المجتمع الاسلامي, وتحققت العدالة الاجتماعية المنشودة, التي تكفل للمجتمع الاسلامي ولإفراده على السواء جميع الحقوق والواجبات، واكتسب المجتمع حيوية, وساهم فيه الجميع في عملية الإنتاج والتطور مع الشعور بالعدالة والطمأنينة والسلام.