يعد يوم  (21 يناير 2004) تاريخا مهما في العلاقة بين الدين والعلمانية،  فقد جلس على  منصة واحدة كل من الفيلسوف الألماني” يوغن هابرماس”(ذي الخلفيات الماركسية) والكاردينال الكاثوليكي “راتسنغر” (الذي صار بعد ذلك بابا الفاتيكان)  ليعلنا أمام الملأ أن المشكل ليس في الدين ولا في العلمانية بل الإنسانية برمتها، وأن الخطر الحقيقي هو العلم التطبيقي، خاصة البيولوجيا التي أصبح بإمكانها تصنيع إنسان.

في هذا اللقاء جرى إعلان الهدنة الكبيرة بين العلمانية والدين، وهو ما أضفى على مصطلح  “هابرماس” “ما بعد العلمانية” شهرة واهتماما كبيرا، حيث يستخدم “هابرماس” المصطلح  ليؤكد على استمرار وجود تأثير الدين في المجتمعات المعاصرة، ويؤشر كذلك إلى تحولات في النظرية العلمانية تجاه الغيب أو “الميتافيزيقيا” نحو الاعتراف بالحضور والدور والتأثير بعد فترات من الاستبعاد والإقصاء.

وفي عددها الثامن صيف 2017 تناقش مجلة “الاستغراب” على أكثر من أربعمائة صفحة، مفهوم “ما بعد العلمانية” جذوره وتجلياته، توتراته وآفاقه القادمة، كاشفة أن العلمانية كانت حلا مؤقتا وغير مكتمل للأزمات الغربية، لكن لم تكن مرحلة خلاص نهائي للبشرية من آلامها وأزماتها، وإذا كانت العلمانية استطاعت أن تواجه تعصب وانغلاق المؤسسة الدينية الأوروبية منذ نهاية القرن السابع عشر، فإنها أصبحت، حاليا، أمام أزمة في ظل التنوع الثقافي والديني.

تعقيدات ما بعد العلمانية

كانت نهاية الميتافيزيقا أو “نهاية السحر في العالم” بداية التملك الفعلي للعلمانية، وهو ذاته بداية الأزمة للعلمانية، إذ وجدت مبررات لطرح “ما بعد العلمانية”، فقد وُلد ذلك المصطلح من أخطاء العلمانية، ومثلما استهلت العلمنة رحلتها التاريخية بمقولتها “إزالة السحر عن العالم”، فقد استهلَّت “ما بعد العلمانية” مسارها بمقولة معاكسة: “إزالة العلمنة عن العالم”، ويعني ذلك عودة الدين ليحتل مكانته في الغرب على حساب العلمانية، بعدما فقدت العلمانية القدرة التكيف مع التحولات العميقة التي يشهدها المجتمع الغربي.

والمشكل الحقيقي لمجتمعات ما بعد العلمانية ليست في الفصل بين الدين والدولة، بل في التعددية التي يعترف فيها الكل بحاضرية الكل، خصوصا حضور الأديان الأخرى – الإسلام والأرثوذوكسية، واليهودية وغيرها ـ لتكون سواء بسواء ـ إلى جانب البروتستانتية والكاثوليكية، ومن ثم فالفضاء الذي يفتحه ما بعد العلمانية هو تغيير الخريطة الدينية في أوروبا تغييرا جذريا، سيقود على المدى البعيد إلى تغيرات في الهوية الأوروبية التي استقرت مسيحية لقرون طويلة .

ويرى “هابرماس” أن علمنة السلطة كان الأساس في عملية العلمنة، غير أن أصوات أخرى رأت أن خبرة الحداثة تشير أن المجتمع الصناعي الحديث أنتج قطاعا يعمل وفق قواعد مستقلة عن الدين، وتدريجيا تعاظم فقدان أهمية الدين وامتد إلى قطاعات وأنشطة أخرى في المجتمع، وبالتالي كان الاقتصاد هو المنشئ الأول للعلمانية في الغرب، ومن ثم فقد الدين معياريته في المجتمع.

ويؤكد الواقع أن العلمنة أصبحت أقل سيطرة وجاذبية في المجتمعات الغربية الحديثة، ولعل ذلك يعود إلى أن تلك المجتمعات أصبحت متعددة الثقافات، وهؤلاء المواطنون تختلف درجة علمانيتهم، ولذا فإن احتمالية فرض العلمنة في ظل هذا الوضع الجديد يتطلب قدرا من الاستبداد، كما أن عملية بناء الهوية أصبحت تتطلب وجود بعد ديني، وهو ما جعل الدين محل نظر واعتبار لدى صانع القرار السياسي.

أمريكا وما بعد العلمانية

لماذا يبدو الأمريكيون أكثر الشعوب في العالم تدينا وعلمانية في ذات الوقت؟  سؤال يجد وجاهته للتأسيس لمصطلح ما بعد العلمانية.

يؤكد التاريخ أن كولومبوس عندما اكتشف أمريكا كان يعتقد أنه يقوم بعمل أخروي، وسادت مقولة في أوروبا أن الدين يقف على أصابعه للقفز نحو الشاطئ الأمريكي، لذا كانت الولايات المتحدة نتاجا للإصلاح البروتستانتي الذي يبحث عن فردوس أرضي ليستكمل إصلاح الكنيسة، يبدو أن التزواج بين المتضادات (الدين والعلمنة) في التجربة الأمريكية كان الإرهاص الأول لمرحلة ما بعد العلمنة، فقد ابتكر الأمريكيون الدين المدني الذي تبناه الرؤساء الأمريكيون الأوائل، والذي انغرس في الوجدان الأمريكي مبكرا، وكان من أهم الآثار المترتبة على هذا المفهوم هو جمعه بين الشأن الديني والدنيوي بصورة غير مسبوقة في الحضارة الغربية الحديثة، ويبدو أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة رأوا أن يبنوا مشروعهم السياسي والفكري في العالم الجديد على نحو مفارق للحالة الأوروبية، وهو ما أوجد علمانية متساهلة مع الدين على المستوى الاجتماعي.

نشأت في الولايات المتحدة روح معادية للكاثوليكية، ففي عام 1830 صدرت صحيفة معادية للكاثوليكية في نيويورك، كما ظهرت دروس دينية تربط بين الكاثوليكية وبين الاستبداد بوصفهما معاديين للمبادئ الجمهورية الأمريكية، ثم تجسدت البروتستانتينية في الحزب الجمهوري في الأربعينيات من القرن التاسع عشر، لم يكن هذا العداء مجرد خصومة لاهوتية، ولكن أمرا ضروريا للمشروع البروتستانتي المتكيف لأقصى درجة مع مقتضيات الحداثة، وهو ما سبب أزمة للكاثوليكية، دفعت الفاتيكان إلى فتح نقاشات حول مشكلة العلاقة بين الهويتين الأمريكية والكاثوليكية، وهنا أجبرت الكاثوليكية الأمريكية على مواجهة الحداثة، فتمت عملية تحديث لتلك الكاثوليكية وإزالة التناقض بين الإيمان والأمركة.

ولكن ما هي علاقة ذلك التأويل البروتستانتي بالزمن ما بعد العلماني؟.

الواقع أن عملية الإصلاح الديني المسيحي  كانت منصبة على إطلاق الحرية للإنجيل في التفاعل مع تجربة القارئ الذاتية، لا على تثبيت لاهوت الكنيسة وترسيخه، أي كسر فكر الكهنوت؛ أي اختصاص رجال الدين فقط بالتأويل للإنجيل، أو بعبارة أوضح كسر وتحطيم فكرة مؤسسية الدين من خلال الكنيسة، وبالتالي انساب الاعتقاد الديني في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهو ما أوجد اختلافا واسعا بين التجربتين الأوروبية والأمريكية، ففي الحالة الأمريكية حدث تزاوج بين الدين والعلمانية، فنتج “الدين المعلمن” أو “العلمانية المتدينة”، ويلاحظ أن تجربة العلمنة في أمريكا اتسمت بالهشاشة، فعلمنة الدولة لم تؤد في بدايتها إلى انحسار دور الدين أو خصخصته، بل سببت الحماية الدستورية للدين في حريته، في وقت كان الدين يتقلص في أوروبا ويتراجع أمام التغيرات ومن بينها الثورة الصناعية، ومن ثم فالعامل الديني كان عنصرا فعالا في المكونات السياسية الأمريكية ومنها الأحزاب، لكن من الناحية الأخرى لم يعمل الدين في التعبئة والحشد السياسي على صعيد المجتمع، فالدين كان المؤسسة السياسية الأولى في أمريكا، فجرت علمنة مؤسسات الدولة لكن لم تجري علمنة القيم، أي أن الدولة كانت علمانية والمجتمع كان متدينا، ومن ثم أصبحنا أمام نموذج لا هو بالعلماني ولا هو بالديني.