كيف كان وضع الأسرى في الإسلام؟ وكيف تعامل الرسول ﷺ وأصحابه مع مسألة الأسرى؟ يقول الله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) [الأنفال].
لا خلاف بين أهل العلم بالسير والمفسرين أن هذه الآية نزلت عقب غزوة بدر الكبرى، وهي من أعظم غزوات النبي ﷺ، حيث فرق بها بين الإيمان والكفر، وجاءت معها أحداث منها حالة الأسرى في الإسلام والتي أخذها المؤمنون في هذه الغزوة، وكان سبب نزول هذه الآية.
(ما كان لنبي): فإن ما هنا يجوز حمله على النفي أو معنى لا يصلح، ومعنى الآية بالاحتمال الأول، لا يتخذ نبي الله أسرى من الأعداء، وعلى الاحتمال الثاني، لا يصلح لنبي الله أن يقع في يده أسرى. والمختار هنا المعنى الأول هو أنه لا يتخذ النبي أسرى الغزوة لإبقائهم في الأسر أو لأخذ الفداء. أما الاحتمال الثاني فضعيف لأن من شؤون الحرب أن يقع بعض المحاربين في الأسر، لذلك يبعد حمل النفي على عدم الوقوع لمخالفته للعادة.
(أسرى): أَسْرى جَمْعُ أَسِيرٍ مِثْلَ قَتْلَى وَقَتِيلٍ
(حتى يثخن في الأرض): مفاد كلام المفسرين، حتى تكون له الغلبة والسلطة على الكفار، وهي الغاية في هذه الآية، وذلك لضعف المؤمنين وقلة عددهم.
والمقصود من الآية: قتل الأسرى الحاصلين في يد النبي أفضل، أي أن ذلك الأجدر به حين ضعف المؤمنين، خضدا لشوكة أهل العناد، وقد صار حكم هذه الآية تشريعا للنبي ﷺ فيمن يأسرهم في غزواته. [التحرير والتنوير]
روى مسلم والترمذي: أن المسلمين لما أسروا الأسرى يوم بدر وفيهم صناديد المشركين سأل المشركون رسول الله ﷺ أن يفاديهم بالمال وعاهدوا على أن لا يعودوا إلى حربه، فقال رسول الله ﷺ للمسلمين «ما ترون في هؤلاء الأسرى»؟
قال أبو بكر: «يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام»
وقال عمر: أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها فهوي رسول الله ما قال أبو بكر فأخذ منهم الفداء كما رواه أحمد عن ابن عباس فأنزل الله ما كان لنبي أن يكون له أسرى الآية.
ومعنى قوله “هوي رسول الله ما قال أبو بكر”: أن رسول الله أحب واختار ذلك لأنه من اليسر والرحمة بالمسلمين إذ كانوا في حاجة إلى المال، وكان رسول الله ﷺ ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.
وفي مسألة الأسرى في الإسلام، قال الطبري: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ، وذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم، أنزل الله تبارك وتعالى بعد هذا في الأسارى: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) [سورة محمد: 4] ، فجعل الله النبيَّ والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار، إن شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا استعبدوهم، وإن شاءوا فادَوْهم.
قال قتادة: أراد أصحاب نبيّ الله ﷺ يوم بدر الفداءَ، ففادوهم بأربعة آلاف أربعة آلاف. ولعمري ما كان أثخن رسول الله ﷺ يومئذ! وكان أول قتال قاتله المشركين.
الفائدة من الآية
تناول أكثر المفسرين هذه الآية من جانب معاتبة الله نبيه ﷺ في القرآن، كأحد الشواهد على صحة نبوة الرسول، وصدق مصدرية الوحي من عند الله تعالى.
جاء في النبأ العظيم: “تجد في آية الأنفال ظاهرة عجيبة، فإنها لم تنزل إلا بعد إطلاق أسارى بدر وقبول الفداء منهم، وقد بدئت بالتخطئة والاستنكار لهذه الفعلة، ثم لم تلبث أن ختمت بإقرارها وتطييب النفوس بها، فهل الحال النفسية التي يصدر عنها أول هذا الكلام -لو كان عن النفس مصدره- يمكن أن يصدر عنها آخره ولما تمض بينهما فترة تفصل بين زمجرة الغضب والندم وبين ابتسامة الرضا والاستحسان؟” والإشارة هنا إلى الآيات التي تلى العتاب (لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ* فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنفال: 68 -69].
لكن ابن عاشور في التحرير والتنوير يأتي بملاحظة إضافية هنا حيث فهم من الآية ما يأتي:
1- أن الكلام عتاب للذين أشاروا باختيار الفداء والميل إليه، وغض النظر عن الأخذ بالحزم في قطع دابر صناديد المشركين، فإن في هلاكهم خضدا لشوكة قومهم فهذا ترجيح للمقتضى السياسي العرضي على المقتضى الذي بني عليه الإسلام وهو التيسير والرفق في شؤون المسلمين بعضهم مع بعض.
2- أن الرسول عليه الصلاة والسلام غير معاتب لأنه إنما أخذ برأي الجمهور وجملة: (تريدون عرض الحياة الدنيا.. )الخ واقعة موقع العلة للنهي الذي تضمنته آية ما كان لنبي فلذلك فصلت، لأن العلة بمنزلة الجملة المبينة.
3- أن عتاب المسلمين على اختيارهم الفداء حين استشارهم الرسول عليه الصلاة والسلام إنما هو عتاب على نوايا في نفوس جمهور الجيش، حين تخيروا الفداء أي أنهم ما راعوا فيه إلا محبة المال لنفع أنفسهم فعاتبهم الله على ذلك لينبههم على أن حقيقا عليهم أن لا ينسوا في سائر أحوالهم وآرائهم، الالتفاتَ إلى نفع الدين وما يعود عليه بالقوة، فإن أبا بكر قال لرسول الله ﷺ عند الاستشارة «قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك» فنظر إلى مصلحة دينية من جهتين ولعل هذا الملحظ لم يكن عند جمهور أهل الجيش. [التحرير والتنوير 10/76].