استقر في أعراف الساسة والعامة أن العدل أساس الملك، وأن الظلم علامة خراب العمران، وهذه القاعدة مضطردة النهايات، لا فرق فيها بين دولة مسلمة أو دولة كافرة، فمن جعل العدل أساس ملكه قويت شوكته، وعظمت دولته، وإن كان كافرا ودولته كافرة، وأن من جعل أساس دولته الظلم، لم تبق دولته،وإن كان مسلما، ذلك أن بناء الحضارات والدول خاضع للسنن الكونية التي أودعها الله تعالى في كونه كله.
وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته فصلًا بعنوان ” الظلم مؤذن بخراب العمران” بين فيه أن الظلم إذا انتشر، خربت البلاد، واختل حال العباد.
وذكر المفسرون أن هذه سنة من السنن الإلهية التي أودعها الله في الكون، وأنها لا تحابي أحدًا ولا تستثنيه، وأن القرآن دل على ذلك، قال تعالى : ” {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ } [الأعراف: 34]
فلكل أمة أجل مضروب لحياتها، مقدر فيما وضع الخالق سبحانه من السنن لوجودها.
وليس المراد بانتهاء الأجل : زوالها واستئصالها، فذلك قد توقف بمبعث النبي ﷺ.
ولكن المقصود بالأجل الذي ينتهي : أجلها في كنف العزة والمنعة والنعمة والسعادة، فانتهاء الأجل في ذلك أن تتحول حياتها إلى ضد ذلك، فتعيش في كنف الذل والشقاء والمهانة والاستعباد والاستذلال .
وهذا النوع منوط بسنن الله تعالى في الاجتماع البشري والعمران، وأسبابه محصورة في مخالفة هدي الآيات التي قبل هذه الآية، وهي : {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ .قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31 – 33] فمخالفة هذه الآيات تكون بالإسراف في الزينة والتمتع بالطيبات، وباقتراف الفواحش والآثام والبغي على الناس، وبخرافات الشرك والوثنية التي ما أنزل بها من سلطان، وبالكذب على الله بإرهاق الأمة بما لم يشرعه لها من الأحكام، تحكمًا من رؤساء الدين عن تقليد أو اجتهاد.
ومما يحكيه المؤرخون في ذلك ما ذكره المسعوديّ في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدّين عندهم أيّام بهرام بن بهرام، وما عرّض به للملك في إنكار ما كان عليه من الظّلم والغفلة عن عواقبه على الدّولة، بضرب المثال في ذلك على لسان البُوم حين سمع الملك أصواتها، وسأله عن فهم كلامها فقال له: «إنّ بومًا ذكرُا يروم نكاح بوم أنثى وإنّها شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيّام بهرام فقبل شرطها، وقال لها: إن دامت أيّام الملك أقطعتك ألف قرية وهذا أسهل مرام»
يقصد أن مملكة بهرام بن بهرام مقدمة على خراب لا محالة، إذا استمر وضعها على ما هي عليه من الفساد والظلم.
هل الواقع يتفق مع هذا المبدأ؟
التاريخ شاهد لهذه النظرية في أغلبه، وها هم اليهود والرومان والفرس والعرب والترك وغيرهم، منهم من سلب ملكه كله، ومنهم من سلب بعضه أو أكثره، ومن لم يرجع إلى رشده، فإنه يسلب ما بقي له منه.
وقد تنبه العلماء إلى أنه ربما بدا أن واقع بعض الدول لا يخضع لسلطان هذه السنة الإلهية، أو هذا القانون الاجتماعي، وأدركوا أن من واجبهم أن يبينوا السبب في ذلك.
من ذلك ما ذكره الشيخ رشيد رضا، قال : إن أسباب هلاك الأمم بالظلم والفساد والانغماس في حمأة الرذائل والفسق قد بلغ من أمم أوروبا مبلغا عظيما، فما بالها تزداد قوة وعزة وعظمة. حتى صارت الأمم المغلوبة على أمرها، ولا سيما المستذَلَّة لها، تعتقد أن تقليدها في مدنيتها المادية وحرية الفسق المطلقة من كل قيد هو الذي يجعلها عزيزة سعيدة مثلها؟
وقد أجاب الشيخ رشيد عن ذلك فقال :
إن تأثير الفسق والفساد في الأمم يشبه تأثيره في الأفراد، وهذا يختلف باختلاف الأبدان والأمزجة في احتمال الأمراض، واختلاف وسائل المعيشة والعلاج.
فأطباء الأبدان مجمعون على مضار السُّكْرِ الكثيرة وكونها سببًا للأمراض البدنية والعقلية المفضية إلى الموت، وإننا نعلم أن تأثيرها في البدن القوي أقل من تأثيرها في البدن الضعيف، فإن القليل منها يبطئ تأثير ضرره عن تأثير الكثير، وأن بعضها أضر من بعض.
المضادات الحيوية
وأطباء الاجتماع مجمعون على أن الإسراف في الفسق والترف مفسد للأمم، وأن الظلم والبغي بغير الحق، والغلو في المطامع والعلو في الأرض، والتنازع على المناصب، كل ذلك من أسباب الهلاك والدمار، ولكن لدى هذه الدول كثير من القوى المعنوية والمادية التي تقاوم بها سرعة تأثير هذه الأدواء الاجتماعية، كالأدوية وطرق الوقاية التي تقاوم بها سرعة تأثير هذه الأمراض الجسدية، والرياضة الشاقة التي يتقى بها إضعاف الترف للأبدان.
الظلم المنظم
ثم ذكر الشيخ رشيد رضا أن أعظم هذه القوى الواقية للأمم، هو النظام ومراعاة سنن الاجتماع حتى في نفس الظلم، وفي إخفائه عمن يضر الظالمين علمهم به ولو من أقوامهم، وإتقان الوسائل والأسباب في إلباس ظلمهم لباس العدل، وجعل باطلهم عين الحق، وإبراز إفسادهم في صورة الإصلاح، وإيجاد أنصار لهم عليه من المظلومين، بل إقناع الكثيرين منهم، بأن سيادتهم عليهم خير لهم من سيادتهم لأنفسهم.
رأي الشيخ محمد عبده
وقد سئل الشيخ محمد عبده : ما بال باطل هؤلاء الإفرنج في شئونهم السياسية والدينية ثابتًا ناميًا لا يدمغه الحق؟
فأجاب: إنه ثابت بالتبع للنظام الذي هو أقوى، أي فهو يزول إذا قذف عليه بحق مؤيد بنظام مثله أو خير منه، فهذا ما ينبغي أن يعمل له المستعبدون لهم في الشرق، مع مباراتهم في العلوم والفنون دون الترف والفسق.
أي أن النظم الظالمة وإن بدت آيلة للسقوط والخراب، فإنها تظل قوية على ما بها، حتى تبرز قوة أخرى لتتبوأ مكانتها التي كانت، فإذا تأخرت القوة الجديدة عن تبوأ مكانها ظلت هكذا ماثلة قوية في أعين الناس، كحال سيدنا سليمان لما مات متكئًا على عصاه، ظلَّ في أعين الإنس والجن هو القوي؛ لأنهم لم يُدركوا موته، حتى دلتهم دابة الأرض على موته، قال تعالى : ” { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } [سبأ: 14]
ويجيب عن ذلك مؤسس علم الاجتماع، ابن خلدون :
لا تنظر في ذلك إلى أنّ الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة من الدّول الّتي بها ولم يقع فيها خراب، واعلم أنّ ذلك إنّما جاء من قبل المناسبة بين الاعتداء وأحوال أهل المصر، فلمّا كان المصر كبيرا وعمرانه كثيرا وأحواله متّسعة بما لا ينحصر، كان وقوع النّقص فيه بالاعتداء والظّلم يسيرا؛ لأنّ النّقص إنّما يقع بالتّدريج.
فإذا خفي بكثرة الأحوال واتّساع الأعمال في المصر لم يظهر أثره إلّا بعد حين، وقد تذهب تلك الدّولة المعتدية من أصلها قبل خراب، وتجيء الدّولة الأخرى فترفعه بجدّتها وتجبر النّقص الّذي كان خفيّا في،ه فلا يكاد يشعر به إلّا أنّ ذلك في الأقلّ النّادر.
إن لله تعالى سننا جارية في كونه، فمن حفظها؛ حفظ، ومن لم يحافظ عليها؛ أصيب بالزوال، عاجلا أم آجل، والأمر كما قال الله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183]