شاءت حكمة الله سبحانه أن يفضِّل من الأزمنة ما يشاء؛ فقد فضَّل العشر من ذي الحجة، قال تعالى: { وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر،1-2]. ومن ذلك أيضا تفضيله سبحانه للأشهر الحرم (وهي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب)، قال تعالى: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} الآية [التوبة،36].
ولذلك، فليس غريبا أن تختم آية سورة التوبة السابقة بقاعدة منهجية وسلوكية ذات بالٍ متميز، بيّنها القرطبي بقوله: (لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، لأن الله سبحانه إذا عظّم شيئا من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة، فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيئ، كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح. فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام. ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال. وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله تعالى: { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب،30]) (تفسير القرآن للقرطبي،8/135).
وفي السياق ذاته، فمما فضَّل الله سبحانه به بعض الأزمنة على بعض، العشر الأواخر من شهر رمضان، حيث ذكرت عائشة رضي الله عنها من عبادته عليه السلام فيها: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ) (رواه مسلم). فقد دل الحديث على حرصه عليه السلام على عبادة الله تعالى في العشر الأواخر من رمضان، بشكل يفوق اجتهاده في العبادة في الأيام والليالي الأخرى. وهكذا يمكن تسجيل ملاحظتين في صورة حكمين تكليفيين أساسهما الاستحباب في علاقته بـ :
• تخصيص العشر الأواخر بمزيد عبادة أكثر من غيرها، وأن ذلك هو الأفضل لموافقته للسنة النبوية (شرح مسلم للنووي،8/71).
• الحرص على مداومة القيام في العشر الأواخر، مع الحث على تجويد الخاتمة في هذا الشهر، نسأل الله أن يختم لنا بخاتمة الخير (فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر،4/270).
ومن شدة حرصه عليه السلام على العبادة في هذه العشر الأواخر، ما ذكرته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه (كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ) (رواه البخاري ومسلم).
وإذا كان الاعتكاف بمعناه المطلق في علاقته بالتفرغ التام للعبادة والانقطاع عن الدنيا لم يعد متيسرا للعامة، فإنه يمكن الاستعاضة عنه بالاعتكاف الجزئي، كما بين الظهر والعصر، أو العصر والمغرب، وغير ذلك. فقد (قال عطاء: قال يعلى بن أمية: إني لأمكث في المسجد الساعة، وما أمكث إلا لأعتكف. قال عطاء: وهو اعتكاف ما مكث فيه، وإن جلس في المسجد احتساب الخير فهو معتكف وإلا فلا) (شرح البخاري لابن بطال، 4/160).
ومن شدة عنايته عليه السلام بعبادة الله في العشر الأواخر من رمضان ما ذكرته عائشة رضي الله عنها: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ، وَشَدَّ الْمِئْزَرَ) (رواه مسلم). فقد دل الحديث على السنة الفعلية للرسول عليه الصلاة والسلام في العشر الأواخر من رمضان، من حيث تفرغه للعبادة فيها، ومداومته على أربعة أفعال:
الفعل الأول؛ إحياؤه عليه السلام الليل،
الفعل الثاني؛ استغراق وقت الليل بالصلاة وعبادة الله تعالى.
ونظرا لاهتمام المصطفى عليه السلام بما يصلح دين أهله، فقد كان يوقظهن كذلك للعبادة. وهذا ليس بغريب على من وصفه الله تعالى بصفات فضلى، من أبرزها رأفته ورحمته اللتين تجليتا في حرصه عليه السلام على هداية المسلمين عموما، بمن فيهم أهله من باب أولى، قال تعالى: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة،128] (تفسير القرآن للقرطبي،8/302).
وأما الفعل الثالث ، فيجليه جِدُّه عليه الصلاة والسلام واجتهاده في عبادة ربه اجتهادا يفوق ما اعتاده في باقي الأيام. وقد استنبط النووي من هذا الحديث استحباب أن يزيد المسلم من العبادات في العشر الأواخر من رمضان، بالإضافة إلى استحباب إحياء لياليه بالعبادات، خلافا لمن أنكر ذلك (شرح النووي على مسلم،8/71).
على أن الفعل الرابع له علاقة بشَدِّه عليه السلام للمئزر (وهو ههنا: الإزار). على أن دلالة شَدِّه عليه السلام لمئزره لم يشكل محل اجماع بين العلماء، بين حامل دلالته على الاجتهاد في العبادات زيادة على عادته ﷺ في غير رمضان. وهكذا يصير معنى شد المئزر تشميره عليه السلام عن العبادات وتفرغه لها. ومن أهل العلم من نظر إلى أن شد المئزر إنما هو كناية عن اعتزاله عليه السلام النساء لانشغاله بالعبادات (شرح النووي على مسلم،8/71).
وليس هنالك خلافا شديدا بين التأويلين السابقين لدلالة شَدِّه عليه السلام لمئزره (بين الاجتهاد في العبادات، وبين اعتزاله نساءه)، بالنظر إلى وجود قاسم دلالي مشترك بين كلا المعنيين السابقين، في علاقته بالجانب التوجيهي العملي لعموم المسلمين، من حيث حضهم على استفراغ الوسع في طاعة الله في العشر الأواخر، إسوة بالمصطفى عليه الصلاة والسلام.
وإذا كانت سنة المصطفى عليه السلام مؤكدة على أهمية التفرغ لعبادة الله في العشر الأواخر من رمضان، فإن من المحددات النظرية والمنهجية التي تعين العبد على بلوغه مقصد تزكيته نفسه بعبادة الله تعالى، هو استحضار قاعدة الفرار إلى الله، الذي أكد عليها ربنا سبحانه في قوله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريت،50]. ومما يستفاد من الآية ما يلي:
– ففي الصيغة الصرفية لفعل الأمر (فروا) دلالة على وجوب الفرار إلى الله، والأصل في الأر الإلهي الوجوب والفور إلا ما استثني، ولا استثناء ههنا.
– وللإجابة عن سؤال جوهري يتعلق بالفرار إلى الله، من حيث مشروعيته، يرى الرازي بأن لفظ (ففروا ينبئ عن سرعة الإهلاك كأنه يقول الإهلاك والعذاب أسرع وأقرب من أن يحتمل الحال الإبطاء في الرجوع، فافزعوا إلى الله سريعا وفروا) (تفسير القرآن للرازي،28/189). وهناك وجه تعليلي آخر بضرورة الفرار، يتعلق بما ختمت به الآية (إني لكم منه نذير مبين)، [فهو] تعليل للأمر بالفرار إليه تعالى، فإن كونه ﷺ منذرا منه تعالى، لا من تلقاء نفسه، موجب للفرار، وفيه وعد كريم بنجاتهم من المهروب، وفوزهم بالمطلوب) (تفسير القرآن لابن عجيبة،5/480).
– وإذا كان الفرار يقتضي – ضرورة عقلية وواقعية- جهتين: تتعلق الجهة الأولى بما منه الهرب. في حين، ترتبط الثانية منهما بالمهروب إليه، فإن القرآن الكريم تكفل بتحديد المهروب إليه وهو الله عز وجل.
– وأما ما منه الهرب، فلم تتناوله الآية الكريمة السابقة، لا نصا ولا إيماء ولا تنبيها ولا إشارة. لكن عمومات النصوص القرآنية والحديثية ترشدنا إلى بيان المحذوف (أي: المهروب منه ههنا). وفي السياق ذاته، فمما ذكره القرطبي في تحديد المهروب منه من كلام السلف: الفرار من المعصية إلى الطاعة، والاحتراز من كل شيء دون الله فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه. والفرار من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن. ومن الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الشكر. ومن الأنفس إلى الرب. والفرار مما سوى الله إلى الله) (تفسير القرآن للقرطبي،17/53-54).
على أن الاجتهادات السابقة في تحديد المهروب منه لا تصل إلى درجة التباين المطلق، بل إنها عند التأمل والتدبر تشكل حقلا دلاليا لشيء واحد يؤول إلى معنى وحيد، بالنظر إلى كونه (عاما كأنه يقول: كل ما عدا الله عدوكم ففروا إليه من كل ما عداه، وبيانه وهو أن كل ما عداه فإنه يتلف عليك رأس مالك الذي هو العمر، ويفوت عليك ما هو الحق والخير، ومتلف رأس المال مفوت الكمال عدو، وأما إذا فررت إلى الله وأقبلت على الله فهو يأخذ عمرك ولكن يرفع أمرك ويعطيك بقاء لا فناء معه (تفسير القرآن للرازي،28/189).
– ومن لوازم فعل الفرار تحديد دلالة الفرار نفسه، بالنظر إلى أن حقيقته راجعة إلى الهرب من شيء إلى شيء. وهذا يستدعي التمييز بين نوعين من الفرار؛ فرار السعداء (وهو: الفرار إلى الله عز وجل مما سواه)، وفرار الأشقياء (وهو: الفرار منه لا إليه) (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لابن القيم،1/466-467).
وفائدة الفوائد: إن الله تعالى قد خص الليالي العشرة الأخيرة من رمضان بفضائل كثيرة، تمثلها رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكان نموذجا أعلى في حسن عبادة الله فيها أكثر من غيرها من الأيام والليالي الأخرى.
ولحشد همم المسلم إلى تعظيم هذه الليالي وتخصيصها بمزيد من العبادة إسوة برسولنا الكريم، فإن المسلم مطالب باستحضار الآيات القرآنية التي تُعلي همته لحسن عبادة الله تعالى، وعلى رأسها قوله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)، بالنظر إلى تأثيرها المباشر على القوى الإيمانية للمؤمن، من خلال حضه على حسن استغلال مواسم الخيرات والبركات -مثل العشر الأواخر- في طاعة الله والاجتهاد في المستحبات، والبعد عن المعاصي، مع ترك المكروهات، بالإضافة إلى وضع المكلف نصب عينيه ضرورة الفرار من كل ما سوى الله إليه سبحانه.