“يمكن أن نكون أقوياء بالمعرفة، ولكننا لا يمكن أن نصبح بشرا إلا بالرحمة” ، لا شك أن أغلب أزمات الإنسان المعاصر هي نتاج الإيمان المفرط بالعلم، والثقة المفرطة في قدرة الإنسان أن يحيا بعيدا عن خالقه، سبحانه وتعالى، وفي التاريخ الإنساني ربما لم تظهر حضارةٌ أكثر التباساً وتعقيداً من حضارة الغرب الحديث، فالمبدأ المؤسس لعقيدة الحداثة هو “نقض المطلق”، فلا اعتراف بالخالق، ولا إيمان بالآخرة، ولا ثقة في وجود حياة أبدية، لذا انحصر معنى الحياة في إشباع الحاجات المادية والبيولوجية، دون البحث عن غاية الوجود ومعناه، وتحول الإنسان إلى كائن بلا غاية ولا مصير، فكان ركون الإنسان إلى المادية من كبريات تعثراته الحضارية، لأن المادة تؤول إلى الفناء، ومعها ينغلق أفق الحياة.
يناقش العدد الثالث والعشرون من مجلة الاستغراب” الصادر في ربيع 2021، على صفحاته (346) ملفا بعنوان “الغرب الأخير ..أي معنى لحياته”، فمادام الغرب هو الثقافة السائدة عالميا، فأزماته هي أزمات لغالبية البشر على الأرض، لذا وجب مناقشتها، وفق منظور إنساني شامل.
إقصاء المطلق
كان لإقصاء المطلق من الحياة، مع التنوير الغربي، ضريبته القاسية على الإنسانية، فمع تغييب المطلق غاب المعنى، وبزغ العلم كـ”وثن” أحال إليه الإنسان القدرة على تفسير الحياة ومظاهرها..لكن من ينفي المطلق، إنما ينفي حقيقة الوجود الكلية، التي يتفرع عنها وعليها كل الموجودات.
والحقيقة أن من يريد معرفة معنى الحياة، ليس أمامه إلا الإجابة عن سؤال: من أين جاءت الحياة؟ وما هو مصيرها؟ نظراً لأن أزمة المعنى تتبدى للإنسان حينما يعجز عن فهم مصدر وجوده ومكانته في الوجود، ومصيره القادم، فمع التنوير والحداثة الغربية ظهر اعتقاد بعدم وجود أيّ شيء فيما وراء الحسّ والتجربة والشهود العيني والمادّة، لذا لم يتمكن هؤلاء من الوصول لمصدرية الحياة، ومن ثم غاب المعنى، وتناسى العقل الحداثي أن الإنسان كائن متطلع إلى السماء وغايته الخلود، وتلك الحقيقة مركوزة في فطرته، خاصة وأن الإنسان يعي حقيقة الحياة والموت، والنظر للموت كأنه نهاية وليس مرحلة لحياة أخرى، يقيد طموح الإنسان في الخلود.
وقد حذر القرآن الكريم من فكرة الخلود إلى الأرض، قال تعالى في سورة “الأعراف” ” وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث”، فالاغترار بالعلم يربط الإنسان ويقيده بمادية الأرض واتباع الهوى، فتكون الضريبة هي: اللهاث الدائم في السكون وفي الحركة، جاء في تفسير “المنار” عن هذا النموذج اللهاثي: ” ولكنه اختار لنفسه التسفل المُنافي لتلك الرفعة بأن أخلد ومال إلى الأرض وزينتها، وجعل كل حظه من حياته التمتع بما فيها من اللذائذ الجسدية، فلم يرفع إلى العالم العلوي رأسا، ولم يوجه إلى الحياة الروحية الخالدة عزما، واتبع هواه في ذلك فلم يراع فيه الاهتداء بشيء مما آتيناه من آياتنا”.
وكما تقول مقدمة المجلة: ” هكذا يبدو الغرب في معناه ولا معناه. فالنّظام المعنويّ الغربيّ الذي قام على نقض معنى الألوهيّة الراعية للإنسان والكون، هو نفسه النظام الذي سينتج لا معناه وخواءه المستدام “، فالإيمان من أهم مفاهيم الحياة، وحقائق الإيمان تقتبس من مشكاة النبوات، ومن ثم فمعنى الحياة هو نتيجة محصلة لحقيقة الإيمان، ويزداد ويزهو من خلال التمسك بمراتب الإيمان، والرؤية الدينية تذهب أن غاية الإنسان من الخلق هي اختباره بحرية في أن يعبد الخالق سبحانه وتعالى، ليصل في النهاية إلى الفوز بالحياة الأبدية في الجنة، وهو ما يجعل حركة الإنسان مرتبطة بغاية كبرى، وجزاء عظيم، وهذا الاعتقاد هو ما يمنح الحياة سعة وجودية، وثراء كبيرا في المعنى، لذا كانت الرؤية الدينية لمفهوم الحياة ترتكز على المعرفة والإيمان.
الفلسفة وتهافت المعنى
من الأسئلة التي تطرح نفسها، هو كيف ساهمت الفلسفة في تهافت معنى الحياة في الغرب؟
الحقيقة أن النقاش الفلسفي الغربي حول معنى الحياة وطبيعتها، كشف عن مأزق وجودي، إذ كان سؤال معنى الحياة من أكثر الأسئلة تعقيدا؛ بل هو من أكثر المشكلات التي واجهها الإنسان منذ خلقه، فهو مصدر قلق دائم للإنسان، لكن أول ظهور لمصلح معنى الحياة meaning of life كان في عام 1834 في كتابات “توماس كارليل” Thomas Carlyle ، غير أن الإجابات التي جاءت كانت مشبعة بالتشاؤم، خاصة من الفلاسفة الذين اتخذوا موقفا مناهضا للدين، فذهب بعضهم أن معنى الحياة هو الإرادة العمياء وتحقيق الأنانية مهما كانت التكلفة، ومنهم من أقصى الضعفاء والمرضى من الحياة الإنسانية ليصبح قانونها الغالب هو البقاء للأقوى، وعلى الضعيف أن يتوارى لأنه لا معنى لحياته.
ويلاحظ أنه مع إقصاء كل ما هو ديني ومقدس أصبح العقل أداتيا مرتبطا بكل ما هو مادي وأرضي ودنيوي، وظهرت نماذج من الفلاسفة الغربيين تحاول إعطاء معنى للحياة وفق هذا الإقصاء، فمنح الفيلسوف الألماني “آرثر شوبنهور” التشاؤم لمعنى الحياة، فيقول: “الغرض من الحياة هو المعاناة، حيث إنّنا نُعاقب على الخطيئة ونُعاقب على جريمة الولادة، ونُعاقب على وجودنا، إنّنا دائمًا نتألّم”، ورأى أنه نادرًا ما يحصل الإنسان على مكان للسعادة؛ لذا أنكر وجود الله.
أما “نيتشه” فلم تكن فلسفته أقلّ تشاؤمًا من شوبنهور، فلم يُبصر هو الآخر سوى الوجه القاتم من الحياة، ورأى تغلغل الفكر العدميّ في مجمل القيم السائدة في الحضارة الغربيّة الحديثة، ورأى أنّه لا بدّ للإنسان أن يحيا خارج المقدّس، فإن كان التقديس ضرورة للحياة، فلا ينبغي أن نقدّس الوهن والضعف؛ لأنّ الحياة لا تعلن عن وجودها مع الضعيف، أو المريض، أو الصغير، أمّا الحقيقة التي يؤمن بها نيتشه، فهي الحياة هنا على هذه الأرض التي نحيا عليها وما عدا ذلك فهو باطل وزيف، ومن ثم رفض الدين والأخلاق والعقل لأنها أسهمت في أفول الحياة، معتبرا أن غاية الحياة هو القوة.
كذلك أعطى “بول سارتر” معنى للحياة قائم على تغييب الإله، وأكد أن لا يمكن التحدّث عن الحرّيّة إذا كان هناك إله، وبالتالي، فإنّ رفض وجود الله أمر لا بدّ منه للتحدّث عن الحريةّ، وكذلك “ألبير كامو” الذي وصف الحياة بالعبثية التي لا معنى لها، منكرا للغيب والحقائق المتعالية.
ورغم هذه الرؤية الإلحادية والروح التشاؤمية، فإن هناك من المفكرين الغربيين سعى لإعطاء معنى للحياة وفق المنظور الديني، مثل اللاهوتي الدنماركيّ “سورين كيركيغارد” الذي رأى أنّ حياة المرء يمكن أن تكون ذات معنى وتستحقّ العيش فقط إذا كان المرء يؤمن بصدق وعاطفة بالله، أما اللاهوتي الأمريكي “فرنسيس شيفر” Francis Schaeffer فرأى أن خط اليأس يخترق الفلسفة والأدب والفنون في الغرب، وأنّ جذور المشكلة تكمن في الفلسفة الهيجيليّة، وتحديدًا في إنكارها للحقائق المطلقة، ورأى “شيفر” أنّه من خلال إعادة التأكيد على الإيمان بإله مطلق يمكن للإنسان تجنّب الانحطاط الحتميّ، واللامعنى، واليأس؛ فالنظرة التوحيديّة للعالم يمكنها إنقاذ الجنس البشريّ من نفسه، لأن إنكار الله يجعل الحياة البشريّة بلا قيمة، وفي كتابه “إله غير صامت” He Is There and He Is Not Silent ” رأى أن كلّ مشاكل الإنسان تنشأ من محاولة الإنسان التفرّد بذاته بعيدًا عن الله.
وقد حاول الفلاسفة المتشاءمون تسويق فكرهم العدمي من خلال تقطيع سبل الحياة إلى أشلاء، ومساعيهم لاكتساح كلّ مقدَّس وتشويهه، ثم تقويض كل القيم من خلال رفض جميع المبادئ الأخلاقيّة، والإصرار على العيش من دون وازعٍ أخلاقيٍّ، بالإضافة إلى العمل على نشر الأنانيّة كقاعدة الإلتزام الوحيد للإنسان، وكان لهذه التأسيسات الفلسفيّة دورها في رسم الخطوط الأساسيّة لتهافت معنى الحياة في الغرب.