في محاضرة له بعنوان ” قضايا حرجة من تاريخ المغرب مطلع العصر الحديث: بين الفقه والتاريخ”، يناقش الأستاذ بجامعة تطوان المغربية محمد الشريف ما أوردته بعض كتب النوازل في المغرب بمنهج يجمع بين الفقه والتاريخ مستعينا بأدوات بعضهما لقراءة واستنطاق خبايا البعض الآخر.
وقد نبه المحاضر في بداية عرضه إلى أن كتب الفقه والنوازل تحتوي على مادة تاريخية نفيسة، وأن الرجوع إليها أصبح متنفسا للمؤرخ الذي يعاني من قلة الوثائق والمصادر التي تعينه على دراسة التاريخ الاجتماعي للقرون السالفة في ظل اقتصار كتب التاريخ على تناول الجانب السياسي من حياة المجتمعات، وقد حاول المحاضر في إطار تطبيقه لهذه النظرية أن يدرس مرحلة من تاريخ منطقة خاصة من المغرب في كتب النوازل الفقهية، وأن يبرز كيف يمكن أن يكتشف المؤرخ من وراء فتاوى الفقهاء الحالة النفسية والدينية والاجتماعية والسياسية لمجتمع ما.
وقد ركز المحاضر على كتاب (الجواهر المختارة مما وقفت عليه من النوازل بجبال غمارة) لمؤلفه أبي فارس عبد العزيز بن الحسن الزياتي (1055هـ-1645م) معتبرا أنه من أهم المصادر الفقهية القمينة بسد بعض الثغرات التي تعتري التاريخ المغربي الحديث، نظرا لما يتضمنه من قضايا المعاملات والمشاكل التي تترتب عليها بين الناس، ولما تثيره من قضايا مرتبطة بالحياة الدينية والروحية وغيرها من جوانب العبادات.
كما تعرض لفتوى الونشريسي المسماة بـ”أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر، وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر”، التي ركزت على قضية جواز إقامة المسلمين في الأراضي التي استولى عليها النصارى بالأندلس أو عدم جوازها، وتعتبر هذه الفتوى -حسب المحاضر- هي أشهر وأوسع وأكمل فتوى بخصوص الموضوع، ولذك كانت موضوع تحليل ومناقشة لعدد من الباحثنين العرب والأجانب، ولشمولها واستيعابها لأطراف القضية استطاعت أن تخمل الفتوى الأم التي انطلقت منها، وهي فتوى ابن ربيع الأندلسي التي شكلت أساسا للونشريسي.
وتعكس فتوى الونشريسي الموقف السائد عند فقهاء الغرب الإسلامي بتحريم الإقامة بدار الحرب وضورورة الهجرة منها لدار الإسلام، وإذا قمنا بمقارنة تاريخية بين هذه الفتوى وبين فتاوى ابن رشد الجد وابن الحاج التجيبي وابن العربي المعافري سنجد أن مشكلة الأقلية المسلمة ظلت مطروحة بإلحاح لمدة أربعة قرون متوالية، وهو ما يشكل ملاحظة مهمة لباحث التاريخ الاجتماعي.
وقد ناقش المحاضر أيضا فتاوى ابن برطال التي تناولت قضايا مستجدة في التاريخ الاجتماعي المغربي مثل علاقة المغاربة المسلمين بالمحتلين الإيبيريين، التي وضعها في مقدمة اهتمام النوازل الفقهية بالمغرب الغزوات الإيبيرية واحتلال أهم حواضر المغرب على الساحل المتوسطي والساحل الأطلسي، والتي تزامنت مع الضعف الميريني والبداية المتعثرة للوطاسيين، وأثرت بشكل كبير على البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمغاربة، كما خلقت هزات في العادات والمعتقدات والأفكار الموجهة للمجتمع المغربي في ذلك الوقت، حتى أفضى الأمر إلى ما سماه اباحث أحمد بو شرب بـ”أزمة الضمير المغربي خلال القرن 16 الميلادي”.
طرح وجود المحتل داخل الأراضي المغربية عدة أسئلة واستشكالات متعلقة بحكم التعامل معه في التجارة والسياسة وغير ذلك من قضايا حيوية، وجاءت فتاوى ابن برطال في السياق ذاته مجيبة عن تلك الاستشكالات التي كانت تؤرق المجتمع، ويلخص أحد الأسئلة هذه الإشكالات الاجتماعية والشرعية العميقة التي طرحها وجود المحتل داخل أراضي المسلمين، حيث طرح -بعد مقدمة تحدد الجهة الموجه السؤا إليها- القضايا التالية:
-المسألة الأولى: هذه المدائن والحصون التي بأرض هذه العدوة وأخذها العدو الكافر من أيدي المسلمين، سواء كانت معمورة قبل أخذه إياها أم لا، هل قصد المسلمون دفع الكفار عنها واستنزالهم منها، واسترجاعها إلى ملك الإسلام مطلوب فعلا؟
-المسألة الثانية: إذا كان مطلوب الترك، فما دليله وما حكمه؟ وإذا كان مطلوب الفعل، فما دليله وما حكمه؟ وهل يكون فرض كفاية كما هو عام في حكم الجهاد أم فرض عين؟ وعلى الثاني فعلى من يجب؟
-المسألة الثالثة: إذا كان واجبا فهل يتوقف وجوبه على وجود الإمام وإذنه، أم لا؟
المسألة الرابعة: هل يجوز بيع الطعام للحربيين من الكفار أو ما فيه إعانة على قتال المسلمين من سلاح وغيره من آلة الحرب أم لا؟
-المسألة الخامسة: إذا احتاج أهل مصر أو إقليم من المسلمين لشراء الطعام من بلاد الكفار الحربيين لمجاعة وقعت بهم بالدنانير والدراهم، هل يسوغ ذلك أم لا؟ جوابا شافيا ولكم الأجر والسلام”.
تطرح هذه الرسالة عددا من القضايا المرتبطة بوجود المحتل، وهي قضايا حيوية لأنها مرتبط بمعاش وعلاقات السكان، وتعبر عن ضمير يبحث عن حلول موضوعية ترفع عنه الإثم والحرج فيما نزل به من حال، فرض عليه ولا يستطيع الفكاك والانفصال عن ما يستدعيه من التعامل، خاصة في ظل غياب الدولة القادرة على تنظيم شؤون الناس.
وفي فتوى أخرى لابن برطان يناقش موضوع الجوسسة لصالح العدو، ويعبر متن الفتوى عن الاختراق الاجتماعي الذي حصل في تلك الفترة، أو ما أطلق عليه “أزمة الضمير المغربي في القرن 16هـ”، وقد ناقشت النوازل في تلك الفترة الموضوع بكثير من الواقعية وأثارت في غضون مقارباتها له كثيرا من الإشكالات الاجتماعية والسياسية الجديرة بالتأمل، والقادرة على مساعدة العقل الفقهي الإسلامي المعاصر على مقاربة القضايا المستجدة ذات الطبيعة المتقاربة مع تلك القضايا المطروحة.
ومن القضايا الاجتنماعية الحيوية التي نقاشها المحاضر ظاهرة اختطاف الفتيات في ذلك العصر وكيف قاربها الفقهاء، وهل يعتبر العقد الذي يقوم به الخاطف للمخطوفة عقدا شرعيا أم لا؟ وهي قضية تعددت فيها منطلقات الفقهاء، ففي حين انطلق بعضهم من ترجيح رعاية حق الفتاة المغلوبة على أمرها في أن يكون أبناؤها الذين تنجبهم في فترة الاختطاف أبناء شرعيين؛ راعى بعض الفقهاء مبدأ سد الذرائع معتبرين القول بشرعية عقد الخاطف على المخطوفة تشجيعا للظاهرة.