في ظل التحولات الكبرى التي شهدها العالم العربي خلال القرن العشرين، برزت شخصيات فكرية حاولت سد الفجوة بين الماضي والحاضر، وكان الدكتور محمد جابر الأنصاري رحمه الله أحد أبرز هؤلاء المفكرين.
من خلال رؤيته النقدية ومنهجه العقلاني، أسهم في بلورة مشروع فكري يهدف إلى تجديد النهضة العربية، متجاوزًا عقبات الجمود الفكري والأزمات الحضارية ولمع نجمه رحمه الله كمفكر استثنائي أعاد صياغة العلاقة بين التاريخ والحداثة.
فما الذي يجعل إرثه حيًا اليوم؟ دعونا نتعرف عليه من خلال هذا التعريف الموجز وما أهم المحطات الفكرية في حياة محمد جابر الأنصاري.
النشأة والتعليم: البداية نحو التميز
ولد المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري في عام 1939 بمدينة المحرق في مملكة البحرين، ونشأ في بيئة ثقافية ساعدت على تشكيل وعيه المبكر. تلقى تعليمه الأساسي في مدرسة الهداية الخليفية للبنين، ثم أكمل تعليمه الثانوي في المنامة بتفوق ملحوظ عام 1958.
التحق الأنصاري بالجامعة الأمريكية في بيروت، التي كانت آنذاك مركزًا للفكر العربي الحديث، وحصل على درجة البكالوريوس في الأدب العربي عام 1963. واصل دراسته في الجامعة نفسها، ونال درجة الماجستير في الأدب الأندلسي عام 1966، ليصبح أول بحريني يحصل على هذه الدرجة. في عام 1979، توّج مسيرته الأكاديمية بالحصول على درجة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية الحديثة والمعاصرة.
لم يقتصر تعليم الأنصاري على العالم العربي، بل واصل استكشافه الثقافي في جامعة السوربون عام 1982 لدراسة اللغة والحضارة الفرنسية، إضافة إلى دراسات متقدمة في جامعة كامبريدج. هذه الخلفية الأكاديمية الغنية انعكست على رؤيته الفكرية العميقة.
المسيرة الأكاديمية والمهنية: أدوار متعددة
بدأ الأنصاري حياته المهنية ككاتب وناقد أدبي، حيث ساهم بمقالات ثقافية ونقدية في الصحف المحلية والإقليمية. كان أيضًا من أوائل البحرينيين الذين أسسوا فرقة مسرحية في الخليج، مسلطًا الضوء على أهمية الفن كوسيلة للتعبير الثقافي.
لاحقًا، تفرغ للعمل الأكاديمي وشغل مناصب بارزة، منها: أستاذ دراسات الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر في جامعة الخليج العربي. نائب عميد كلية التربية ثم عميد كلية الدراسات العليا. عضو المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون في البحرين.
ساهم الأنصاري أيضًا في تأسيس مؤسسات ثقافية مرموقة مثل معهد العالم العربي في باريس عام 1981، وساعد في تعزيز الحوار بين الثقافات العربية والغربية.
الإنتاج الفكري: رؤية متجددة وإرث غني
ترك الدكتور محمد جابر الأنصاري إرثًا فكريًا عميقًا يشمل أكثر من عشرين كتابًا ومئات المقالات التي تناولت قضايا الفكر العربي والإسلامي، الثقافة، السياسة، والاجتماع. تميزت أعماله بمنهج نقدي عقلاني، حيث ركز على تشخيص أزمات الواقع العربي وتحليل التراث الإسلامي بعين متجددة. فيما يلي عرض لأهم كتبه مع تعريف موجز بكل منها:
- تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها : يُعد هذا الكتاب دعوة شاملة لإعادة قراءة الذات العربية نقديًا. يركز الأنصاري على أهمية مواجهة الحقائق بجرأة بعيدًا عن أي رتوش أو أوهام، داعيًا إلى تحرير الفكر العربي من الرواسب التقليدية التي تعيقه عن التقدم مع دعوة لإعادة تأسيس الثقافة العربية على أسس جديدة.
- رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية وشواغل الفكر بين الإسلام والعصر : يحاول الأنصاري في هذا الكتاب تقديم قراءة معاصرة للقرآن الكريم ناقش فيه كيفية الجمع بين الطرح السجالي والطرح المعرفي لأبرز القضايا العربية والإسلامية التي تشغل الرأي العام في اللحظة التاريخية الراهنة، واهتم بالتأطير الفكري المعاصر والفهم باستخدام أدوات العقل والسنن والقوانين الكونية.
- لقاء التاريخ بالعصر .. دعوة لبذر الخلدونية بأبعادها المعاصرة : تناول الأنصاري في هذا الكتاب أفكار ابن خلدون وأعاد تقديمها بعيون معاصرة، داعيًا إلى الاستفادة من منهجه العلمي في تحليل التاريخ لفهم الواقع العربي الحديث. ركز الكتاب على تجاوز الفهم الرومانسي للتاريخ لصالح منهج أكثر واقعية وعقلانية.
وغيرها من الكتب التي أثرى بها المكتبة العربية والإسلامية.
إلى جانب الكتب المذكورة، كان للدكتور الأنصاري إسهامات غنية في المقالات والدراسات التي نشرت في دوريات مرموقة مثل “الدوحة” القطرية و”العربي” الكويتية. تناولت هذه المقالات قضايا فكرية متنوعة، مثل: “حضارة العصر بين الجذور والثمار“: مقال يناقش منطق استشراقي حول العلاقة بين الحضارة الحديثة والأمم الشرقية ومن بينها العرب والمسلمون على نحو من الاستعصاء والاستحالة.
تحليل إنتاج محمد جابر الأنصاري
يمكن تلخيص إنتاج محمد جابر الأنصاري الفكري في كونه مشروعًا متكاملًا يهدف إلى:
- نقد الذات: من خلال مواجهة التحديات الداخلية التي تعيق التقدم.
- التجديد الفكري: عن طريق إعادة قراءة التراث بعيون معاصرة.
- التحليل العقلاني: لتشخيص الأزمات السياسية والاجتماعية في العالم العربي.
- التكامل الثقافي: بين التراث العربي ومتطلبات الحداثة.
كان الأنصاري يرى أن التغيير يبدأ من العقل والتعليم، ودعا إلى ضرورة تحرير الفكر العربي من القيود التقليدية، مع الحفاظ على القيم الجوهرية التي يمكنها أن تسهم في بناء مستقبل أفضل.
الخاتمة
برحيل الدكتور محمد جابر الأنصاري، فقد العالم العربي أحد أعمدته الفكرية. ومع ذلك، فإن إرثه الفكري سيظل شاهدًا على عقود من العطاء، ودعوة مفتوحة للأجيال القادمة لمواصلة المسيرة نحو تجديد الفكر العربي وتحقيق النهضة المنشودة.