شهدت مصر منذ ثلاثينيات القرن العشرون تصاعدا في الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد، وقد رفع لواءها طائفة من علماء الأزهر المتأثرين بالشيخ محمد عبده وفي مقدمتهم الأشياخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر وعبد الوهاب خلاف ومحمود شلتوت وهم من الفقهاء الأعلام، ومحمد يوسف موسى (1899-1963) الذي لم يحظ مشروعه لتطوير الفقه الإسلامي بما يستحقه من العناية رغم أصالته وتميزه.
سيرة ذاتية وفكرية
تتشابه السيرة الذاتية ليوسف موسى مع سيرة غيره من مجاوري الأزهر في مفتتح القرن، فقد التحق بالجامع ولم يزل صبيا في الثانية عشر من عمره ونال درجة العالمية عام 1925 وتعين مدرسا بأحد المعاهد الأزهرية إلا أنه سرعان ما فصل لضعف بصره، ورغم ذلك أصر على مواصلة دراسته في القسم المتخصص من الأزهر وبعدها مارس العمل بالمحاماة الشرعية، ثم أخذ مسار حياته في الافتراق عن أقرانه حين اتجه لتعلم اللغة الفرنسية وقد كان تعلم اللغات الأجنبية آنذاك عملا مستهجنا من الأزهريين، ومع اختياره الفلسفة لتكون مجالا للتخصص رغم ما يحيط بها من مزاعم بأنها مفسدة للاعتقاد، ثم سافر على نفقته الخاصة إلى فرنسا لاستكمال دراسته فيها، وفي عام 1948 نال درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون بتقدير مشرف جدا، وتعين عقب عودته أستاذا لفلسفة الأخلاق بالجامعة الأزهرية إلا أنه اضطر لمغادرتها عقب مضايقات تعرض لها بسبب دعوته لإصلاح الأزهر ثم استقر به المقام كأستاذ للفقه بالجامعة المصرية [1].
يُنسب موسى إلى إحدى الموجات المتأخرة ضمن مشروع الإصلاح الإسلامي الذي بدأ في القرن التاسع عشر، وموقفها من الآخر يختلف اختلافا بينا عن الموجة الأولى التي جسدها الطهطاوي وخير الدين التونسي الذين وقعوا تحت تأثير الصدمة الحضارية حين شاهدوا للمرة الأولى الهوة التي تفصل عالم الإسلام عن عالم الغرب، أما أبناء الموجة المتأخرة فقد تجاوزا تأثير الصدمة وكانوا أكثر اعتدالا في رؤيتهم وفي تقييمهم للآخر، وهو ما نلمسه في كتابات يوسف موسى التي لا نجد فيها أثرا لذلك الانبهار الساذج بالغرب أو التسليم بتفوق الفكر الغربي وانحطاط الفكر الإسلامي، وهو من أوائل من فطنوا إلى خطورة توطين الأفكار الغربية وإكسابها مسوحا إسلامية، وفي هذا يقول “ولسنا نحاول أن ندخل في الإسلام كل تفكير نراه طيبا وكل علاج نراه عادلا لبعض ما نحس من مشكلات كأن نقول مع القائلين بأن الإسلام دين اشتراكي وديمقراطي وما إلى ذلك، إن الإسلام اسمى من هذا كله إنه دين أصيل له أسسه الخاصة وطابعه الخاص”[2].
ويتألف مشروع يوسف موسى الإصلاحي من ثلاث دعائم، الأولى: الوصل بين الفلسفة و الواقع، فليست الفلسفة كما يظن تنظيرات وتصورات مفارقة للواقع بل إن فيها ما يسهم في حل مشكلات الواقع، والوصل بين الفلسفة والدين فليست الفلسفة ضربا من التفكير المضاد للدين وإنما يعملان سوية على فهم العالم ومبدئه وتبصير الفرد والمجتمع بما هو خير وحق[3]. والثانية إصلاح السياسة التعليمية الأزهرية ومن مقترحاته في ذلك وجوب تلقي جميع الطلاب المصريين في المراحل الأولية تعليم واحد له أسسه الإسلامية دون تخصيص الأزهر بمناهج معينة وحجته أن ذلك يقضي على ثنائية الديني والمدني، والثالثة دعوته إلى تطوير الفقه الإسلامي.
ضوابط التطوير ومنهجيته
يؤسس موسى دعوته إلى تطوير الفقه على حجج متعددة؛ منها أن التطور قانون من قوانين الحياة فالحياة لا تعرف التوقف والجمود وتتغير أنماطها باستمرار وتتبدل معها النظم والمعاملات وتجد المشكلات التي تتطلب حلولا جديدة تتفق وشرع الله، ومنها أن تطوير الفقه يعد مقدمة ضرورية قبيل المناداة بأن تكون الشريعة هي مصدر القوانين في الدولة، وأنه يجعل منه فقها حيا ويجعلنا في غنى عن اقتباس الفقه الغربي والتبعية له في تشريعاتنا وقوانينا [4].
ويفترض موسى أن غاية التطوير هي “ألا يبقى الفقه الإسلامي وهو يعيش على هامش الحياة، بل أن يتدخل في صميمها وجميع أعمالها”[5] وليس من أغراضه جعل شرع الله يجيز كل ما يستجد في حياتنا -ولا سيما الاقتصادية- من أعمال، وبهذا المعنى فإن التطوير ليس دعوة مقيدة لتحليل كل ما يضطرب في حياتنا لكنه تطوير منضبط بضابطين هما: أن يقع في حدود كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة، وأن يستند إلى تراث فقهائنا الأجلاء[6].
والبداية الحقة للتطوير كما يعتقد هي دراسة الفقه من ينابيعه الأولى الكتاب والسنة ثم دراسة فقه الصحابة والتابعين وأن نسلك السبيل الذي سلكوه في معرفة الأحكام، وعلى ذلك لا ينبغي أن يتوقف المسلمين في أمر التطوير لسببين : الأول أنه ليس فيه نسخ لحكم مثبت بنص من الكتاب والسنة وإنما هو فهم للنصوص وتفهم لعلل الأحكام التي جاءت بها والمصالح التي كانت تهدف لتحقيقها، فالنص الذي جاء به الحكم يبقى قائما متى كان محققا للمصلحة التي قصدها الشارع. والثاني : أنه لا يمكن التسليم بأن الأحكام الشرعية كلها قابلة للتغير تبعا للمصلحة، فالعدد الأكبرمنها لا يتغير كحرمة الربا وشرب الخمر، وإنما التطوير يكون في الأحكام التي يذهب إليها الفقهاء في أزمان خاصة ثم لا تكون محققة للمصلحة في أزمان أخرى[7].
ويقترح موسى منهجا مكونا من ثلاث خطوات يمكن من خلاله الوصول إلى التطوير أو التجديد الفقهي المنشود،
الأولى: اقتفاء أثر فقهاء الصحابة والتابعين في الوصول إلى الأحكام ويتلخص منهجهم في : عدم اللجوء إلى الاجتهاد بالرأي إلا إذا لم يجدوا في النصوص الشرعية حكما شرعيا للواقعة التي يبحثون عن حكمها، والتيقن من أن الأحكام إنما شرعت لعلل ومصالح معينة والبحث عنها، وترك العمل بالنصوص حين يظهر لهم أن العمل بها ينافي المصلحة الحقيقية.
والثانية: بذل العناية في نشر كتب التراث الفقهي نشرا علميا صحيحا بعد فهرستها وتصنيفها موضوعيا ليسهل استخراج المسائل منها، واشترط ألا يقتصر ذلك على نشر كتب المذاهب الأربعة المعروفة بل نشر أمهات كتب المذاهب الأخرى، ثم إخضاعها جميعا للدراسة التاريخية المقارنة ووضع خلاصتها بين يدي واضعي القوانين الحديثة للإفادة منها.
والثالثة: إنشاء مجمع للفقه الإسلامي -لم تكن الفكرة مطبقة آنذاك- لتنظيم عملية الاجتهاد ولبحث النوازل والمسائل المستجدة وإبداء رأي شرعي فيها يلتزم به المسلمون في أقطار المعمورة [8].
وبالجملة كان الشيخ يوسف موسى فقهيا مجددا حين دعا إلى تطوير الفقه الإسلامي على نحو يجعل منه فقها حيا يعيش في قلب الحياة لا على هامشها، وحين قيده بضوابط تحول بينه وبين الخروج عن دائرة الإسلامية.
[1] محمد الدسوقي، محمد يوسف موسى (1317- 1383 ه/ 1899-1963 م) الفقيه الفيلسوف والمصلح المجدد، دمشق: دار القلم، 2003، ص 15-24.
[2] محمد يوسف موسى، ابن سينا ومشكلات العصر (3)، القاهرة: مجلة الأزهر، مج 22، ص 709.
[3] المرجع السابق، ص 705.
[4] محمد يوسف موسى، تطوير الفقه الإسلامي، القاهرة: مجلة الأزهر، مج 32، ع 6، ص 571.
[5] المرجع السابق، ص 570.
[6] نفسه، ص 570-571.
[7] محمد يوسف موسى، كفانا تقليدا في الفقه “تتمة الحديث”، القاهرة: الأزهر، مج 24، ع 9، ص 1192.
[8] محمد يوسف موسى، كيف نصل إلى تطوير الفقه الإسلامي، القاهرة: الأزهر، مج 32، ع 8، ص 822-825.