في عصر تتسارع فيه وتيرة التطور التكنولوجي، وتتزايد فيه أهمية الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات، يبرز المنطق الرياضي كركيزة أساسية لفهم آليات عمل هذه التقنيات وتطويرها. وفي هذا السياق، يأتي كتاب “مدخل إلى المنطق الرياضي” للمؤلف الجزائري الأخضر قريسي، ليقدم إضافة نوعية للمكتبة العربية في هذا المجال الحيوي.
فهل تساءلت يوما كيف يصبح المنطق الرياضي الأداة الفُضلى لفهم خوارزميات الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات؟
في كتابه الجديد “مدخل إلى المنطق الرياضي”، يقدم الدكتور الأخضر قريسي دليلًا مبسطًا وعميقًا يروي رحلة المنطق من جذوره الفلسفية إلى تطبيقاته الصارمة في عالم الرياضيات والحوسبة.
إنه العلم الذي يربط بين الفلسفة الكلاسيكية والرياضيات الدقيقة، ليصبح لغة العقل الكونية التي تساعدنا على فهم العالم المعاصر بتعقيداته المتزايدة.
ضمن هذا السياق المعرفي الحرج، يأتي كتاب “مدخل إلى المنطق الرياضي ” للمؤلف الجزائري البارز الأخضر قريسي ، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ليكون إضافة نوعية للمكتبة العربية في مجال المنطق وتطبيقاته. لا يقتصر الكتاب على تقديم المفاهيم الأساسية للمنطق الرياضي فحسب، بل يتجاوز ذلك ليروي قصة تحول المنطق من كونه فرعًا من فروع الفلسفة إلى علم مستقل بذاته، يتميز بلغته الرمزية الدقيقة ومنهجيته الصارمة.
وصل الماضي بالحاضر
يُعد كتاب “مدخل إلى المنطق الرياضي” بمثابة جسر يربط بين الماضي والحاضر، وبين الفكر الفلسفي التقليدي والتطورات العلمية الحديثة. يسعى المؤلف من خلاله إلى سد الفجوة المعرفية التي تعاني منها المكتبة العربية في هذا المجال الحيوي، ويقدم للقارئ العربي أداة تعليمية مبسطة وعميقة في آن واحد. تمكن هذه الأداة القارئ من استيعاب أسس هذا العلم المعقد، الذي أصبح ضروريًا لفهم كيفية عمل الأنظمة الرقمية الحديثة، مثل الذكاء الاصطناعي والخوارزميات المعقدة.
تتجلى أهمية كتاب “مدخل إلى المنطق الرياضي” في قدرته على الجمع بين الصرامة الأكاديمية والوضوح البيداغوجي، مما يجعله مرجعًا قيمًا لطلاب المنطق والفلسفة والرياضيات وكذلك لباحثي علوم الحاسوب. كما يعكس الكتاب رؤية المؤلف المستقبلية وقدرته على ربط الفلسفة بالتطورات العلمية الحديثة، مما يفتح آفاقًا جديدة للتفكير والتحليل.

في هذه المراجعة، سنتناول أبرز محاور الكتاب، ونلقي الضوء على أهميته العلمية والمعرفية، مع تقديم نبذة عن مؤلفه البارز الأخضر قريسي . سنستعرض كيف يقدم الكتاب المنطق الرياضي ليس فقط كعلم نظري، بل كأداة عملية تساعدنا على فهم الواقع المعقد وتطوير تقنيات المستقبل. هدفنا هو تسليط الضوء على القيمة المميزة لهذا الإصدار، وإبراز دوره في تعزيز الفهم المنهجي للمنطق الرياضي في العالم العربي.
سد الفجوة المعرفية
لا يكتفي كتاب “مدخل إلى المنطق الرياضي” بتقديم المفاهيم الأساسية للمنطق الرياضي، بل يتجاوز ذلك ليؤرخ لتحول المنطق من كونه فرعًا من فروع الفلسفة إلى علم مستقل بذاته، يمتلك لغته الرمزية الدقيقة ومنهجيته الصارمة.
يسعى قريسي من خلال هذا العمل إلى سد الفجوة المعرفية، وتزويد القارئ العربي بأداة تعليمية مبسطة وعميقة في آن واحد، تمكنه من استيعاب أسس هذا العلم الذي بات يشكل “لغة العقل الكونية” في عالمنا المعاصر.
هذه المراجعة ستستعرض أبرز محاور كتاب “مدخل إلى المنطق الرياضي”، وتلقي الضوء على أهميته، مع تقديم نبذة عن مؤلفه، وذلك بهدف إبراز القيمة العلمية والمعرفية لهذا الإصدار. وقبل ذلك هذه نبذة مختصرة عن المؤلف الكاتب الأخضر قريسي.
من هو الأخضر قريسي؟
يُعد الأخضر قريسي قامة أكاديمية وفكرية بارزة في مجال الفلسفة والمنطق، وهو حاصل على درجة دكتوراه العلوم في الفلسفة. تمتد مسيرته الأكاديمية والمهنية لتشمل العديد من المناصب المرموقة، حيث عمل أستاذًا ومفتشًا ورئيسًا لقسم الفلسفة في جامعة سطيف 2 بالجزائر. هذه الخبرة المتراكمة في التدريس والإشراف الإداري تعكس عمق معرفته وسعة اطلاعه في تخصصه.
تتجلى اهتمامات قريسي البحثية بشكل خاص في المنطق وفلسفة العلوم، وهي مجالات تتطلب دقة فكرية ومنهجية صارمة. وقد ترأس مشروعًا جامعيًا مهمًا حول الفلسفة والذكاء الاصطناعي، مما يدل على رؤيته المستقبلية وقدرته على ربط الفلسفة بالتطورات العلمية الحديثة. كما أشرف على عدد كبير من أطروحات الماجستير والدكتوراه، مما يؤكد دوره الفاعل في إعداد الأجيال الجديدة من الباحثين والمفكرين.
لم تقتصر مساهمات قريسي على الجانب الأكاديمي البحت، بل امتدت لتشمل المشاركة الفاعلة في العديد من الندوات والمؤتمرات الدولية، مما أتاح له فرصة تبادل الأفكار والخبرات مع نخبة من المفكرين والباحثين حول العالم. ومن أبرز مؤلفاته السابقة التي تعكس اهتماماته الفكرية، كتاب “جدل التحقيق والتكذيب”، وكتاب “مدخل إلى المنطق التقليدي” الذي صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عام 2021، ويُعد هذا الأخير بمثابة تمهيد لكتابه الحالي “مدخل إلى المنطق الرياضي”، مما يبرز التدرج المنهجي في أعماله الفكرية التي تسعى إلى بناء رؤية متكاملة خاصة بالمنطق وتطوره عبر العصور.
المنطق بين الفلسفة والعلم: نحو لغة رمزية دقيقة
يستهل قريسي كتابه “مدخل إلى المنطق الرياضي” بمعالجة تحول المنطق من كونه فرعًا أصيلًا من فروع الفلسفة إلى مجال علمي مستقل بذاته، يعتمد على لغة رمزية دقيقة ومنهجية رياضية صارمة.
هذا التحول ليس مجرد نقلة تاريخية، بل هو تطور جوهري يعكس نضج الفكر البشري وقدرته على صياغة أدوات تحليلية أكثر فعالية وشمولية. يرى المؤلف أن هذه النقلة الفكرية تكتسب أهمية مضاعفة في عصرنا الحالي، الذي يشهد هيمنة متزايدة للذكاء الاصطناعي وعلوم المعلوماتية. ففهم منطق “الآلات” و”الخوارزميات” التي تشكل عصب هذه التقنيات أصبح ضرورة بيداغوجية لا غنى عنها للطلاب والباحثين، لتمكينهم من استيعاب كيفية عمل هذه الأنظمة والتفاعل معها بفاعلية.

يقدم قريسي كتابه “مدخل إلى المنطق الرياضي” كأداة تعليمية مبسطة، تجمع ببراعة بين الصرامة المنهجية والوضوح المفهومي. يتجنب المؤلف الغوص في الجدل الفلسفي المعقد أو استخدام المفاهيم المجردة التي قد تنفر المبتدئين، مفضلاً التركيز على الجانب التطبيقي والتعليمي. يوضح قريسي أن اختيار مصطلح “المنطق الرياضي” لم يكن مجرد تفصيل لغوي عابر، بل هو إعلان عن ميلاد نسق جديد من التفكير يتجاوز التسميات التقليدية مثل “المنطق الصوري” أو “الرمزي”.
هذا المصطلح يعبر عن جوهر هذا النسق الذي يتجذر في قلب الرياضيات، والذي ساهم في تطويره عمالقة الفكر مثل غوتفريد لايبنتز، وجوتلوب فريجه، وبرتراند راسل، وألفريد نورث وايتهد، خاصة في عملهم المشترك “أسس الرياضيات”. هؤلاء المفكرون لم يكتفوا بتطوير المنطق، بل أعادوا تأسيسه كعلم مستقل، يتميز ببنية صارمة، وقابلية للبرمجة، ومؤهل ليكون “لغة العقل الكونية” التي يمكنها تحليل وتفسير الظواهر المعقدة في مختلف المجالات العلمية والتكنولوجية.
مباحث المنطق وتطبيقاته الرياضية
يتعمق الكتاب في مباحث المنطق الرياضي، مقدماً شرحاً وافياً لأهم ركنين من أركانه: حساب القضايا وحساب المحمولات. يبدأ القسم الأول بتناول حساب القضايا، حيث يشرح المؤلف طبيعة القضية المنطقية، وكيفية تمييزها عن دالة القضية، بالإضافة إلى الفروقات الدقيقة بين اللزوم المادي واللزوم الصوري.
لتبسيط هذه المفاهيم المعقدة، يقدم قريسي أدوات تحليلية مثل جداول الصدق، والصيغ المنطقية، والثوابت الرمزية، مدعماً الشرح بأمثلة تطبيقية واضحة تساعد القارئ على استيعاب هذه الأسس النظرية وتطبيقها عملياً. هذا النهج التعليمي يضمن أن يتمكن القارئ، حتى لو كان مبتدئاً، من فهم كيفية بناء وتحليل القضايا المنطقية بشكل منهجي.
ينتقل كتاب “مدخل إلى المنطق الرياضي” بعد ذلك إلى مبحث حساب المحمولات، وهو خطوة متقدمة في فهم المنطق الرياضي. هنا، يدخل القارئ إلى عالم التكميم، الذي يشمل المفاهيم الكلية والوجودية، والتي تعد أساسية في صياغة القضايا المعقدة.
يوضح المؤلف الفارق الجوهري بين الدوال المنطقية والدوال الرياضية، وهو تمييز بالغ الأهمية لفهم طبيعة المنطق الرياضي كعلم مستقل. كما يشرح قريسي طرائق البرهنة المختلفة، مثل الاستنتاج الطبيعي والأشجار المنطقية، مقدماً نماذج عملية تبسط هذه المفاهيم وتجعلها أكثر قابلية للفهم والتطبيق.
هذا الجزء من الكتاب يبرز قدرة المنطق الرياضي على التعامل مع الاستدلالات المعقدة وتقديم حلول منهجية لها.
في القسم الثاني من كتاب “مدخل إلى المنطق الرياضي”، يتناول قريسي مبحثين متصلين بالمنطق التطبيقي: حساب الفئات وحساب العلاقات. يبدأ المؤلف بالتدرج من المفاهيم الأولية للفئات، ثم ينتقل إلى العمليات المنطقية الأكثر تعقيداً التي يمكن إجراؤها على الفئات. يبرز هذا الجزء خصائص الفئات والعلاقات، ويختتم بتحليل العلاقة الثنائية وعلاقتها بمفاهيم التكافؤ والترتيب.
في هذا السياق، يلتقي المنطق بالرياضيات البحتة في أدق صورها، حيث لا يتم معالجة الكيانات من حيث معناها الذاتي، بل من حيث موقعها ضمن نسق رمزي قابل للتعميم والتطبيق. هذا التركيز على الجانب الرمزي والتطبيقي يؤكد على الطبيعة العملية للمنطق الرياضي وقدرته على توفير إطار تحليلي دقيق لمختلف الظواهر، سواء كانت فلسفية أو رياضية أو حتى حاسوبية.
نهاية تفتح على آفاق جديدة
يختتم قريسي كتابه “مدخل إلى المنطق الرياضي” بملاحق مهمة تتضمن ثبتًا للمصطلحات والمراجع، وهي إضافة تعزز من الطابع الأكاديمي للكتاب وتؤكد على الدقة المنهجية التي تحكم بناءه. هذه الملاحق تجعل من الكتاب مدخلاً تأسيسياً لا غنى عنه لطلبة المنطق والفلسفة والرياضيات والعلوم الحاسوبية، حيث توفر لهم مرجعاً شاملاً للمصطلحات والمفاهيم الأساسية، وتفتح لهم آفاقاً لمزيد من البحث والتعمق في هذا المجال.
لا يسعى المؤلف، في عرضه للمنطق الرياضي، إلى التبشير بـ “نهاية الفلسفة”، كما قد يتوهم بعض الحداثيين الذين يرون في العلم بديلاً كاملاً للفلسفة. بل على العكس، يسعى قريسي إلى إظهار المنطق في ثوبه الرياضي بوصفه أداة تحليلية متطورة، تتجاوز حدود “القياس الأرسطي” التقليدي.

هذه الأداة الجديدة تتميز بمرونة أكبر وقدرة فائقة على تمثيل الواقع المعقد، كما أنها أكثر قابلية للبرمجة والمعالجة الآلية، مما يجعلها ضرورية في عصر التكنولوجيا الرقمية.
إن هذا “الحساب المنطقي”، على الرغم من كونه غير عددي، إلا أنه قابل للتطبيق الحاسوبي بامتياز، وذلك لأنه يشتغل على قيمتي الصدق والكذب وفق نسق رمزي دقيق. وبهذا، يكون قريسي قد أبرز كيف تحقق حلم الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنتز، الذي كان أول من تخيل آلة قادرة على حسم الخلافات الفكرية بقواعد منطقية لا تترك مجالاً للهوى أو الظن.
لقد أعاد المنطق الرياضي تعريف القضية المنطقية، وحررها من نموذجها التقليدي، كما أعاد الفيلسوف الألماني جوتلوب فريجه تصنيف القضايا العامة بوصفها شرطية متصلة، لا حملية بسيطة، مما سمح بإدخالها في نسق استدلالي جديد أكثر شمولية ودقة.
إن المنطق الرياضي، كما يقدمه قريسي، لا يحتكم إلى بدهيات مسبقة، بل إلى بنى استنتاجية محضة، تركز على العلاقة بين المفاهيم بدلاً من جوهرها، وعلى التركيب بدلاً من المعنى. من هنا، يكتسب هذا المنطق طابعه العلمي الصارم، الذي جعله جزءاً لا يتجزأ من علوم الحوسبة والذكاء الاصطناعي والرياضيات الحديثة.
وبذلك، يقدم كتاب “مدخل إلى المنطق الرياضي” رؤية متكاملة للمنطق الرياضي، لا بوصفه مجرد أداة تقنية، بل كنموذج فكري يفتح آفاقاً جديدة للفهم والتحليل في مختلف فروع المعرفة.