من امبراطوريات غرب أفريقيا أو ميعرف سابقا بـ “السودان الغربي” والمكونة من المناطق : تكرور، غانة، صوصو، مالي، وصنغاي، التي ظهرت وامتد نفوذها بين القرن الثاني الهجري –على أقل تقدير- إلى القرن الحادي عشر. أما مدينة جيني وغاو وتمبكتو وتشترك في لغة صنغاي” – إن لم تكن بوابة الإسلام إلى غرب أفريقيا- فهي من أهم المدن التاريخية والحواضر الثقافية نشرا للإسلام في أفريقيا. وتقع على نهر النيجر الأعلى، تبعد عن تمبكتو بستمائة كيلو متر إلى الجنوب الغربي عند أحد روافد نهر النيجر. والتجارة من جني إلى شمال إفريقيا سبب عمارة تمبكتو؛ خلافا لما جاء في: (حواضر نهر النيجر: تمبكتو، جيني غاو؛ والموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي) وغيرها، فإن جيني أقدم من تمبكتو، وكسبت تمبكتو مكانتها من أجل جيني، يقول السعدي: “من أجل هذه المدينة المباركة –جيني- تأتي الرقاق من جميع الآفاق إلى تنبكت شرقها وغربها يمينها وشمالها”.

تاريخ تأسيس مدينة جيني

يقف المتتبع على الآراء الآتية بخصوص تأسيس مدينة جيني:
1 – يعود تأسيس مدينة جيني إلى القرن الثاني قبل الميلاد وفق ما يذهب إليه روديريك ماكنتوشف وزوجته سوزان، حيث قاما ببحث ميداني فترة “1977 – 1981”.
2 – ويذهب أغلب المصادر العربية مثل تاريخ غرب أفريقيا -والمصادر التي اعتمدت عليه- إلى أن تأسيسها يعود للقرن الثاني الهجري.
3 – على أن مخطوطة كُتبت بيد أحد سكان المدينة وعلمائها المعاصرين “هَدية البشر في القرن الخامس عشر” تَذكر أن الإسلام دخلها القرن الأول الهجري. مما يعني ضرورة أسبقية وجود المدينة عن هذا التاريخ.

دخول الإسلام في مدينة جيني

دخل الإسلام في جيني عن طريق التجار والقوافل التجارية، فلا هي عرفت الإسلام فتحاً: لا عنوة ولا صلحاً، بل اختيارا. يقول السعدي عنها: “بها سوق عظيم يلتقي فيها أرباب الملح وأرباب الذهب.. فوجد بركتها في التجارة إليها كثيرا”. ويقول أحمد مولاي: “واشتهرت سوقها منذ إنشائها شهرة جلبت إليها أعداد كبيرة من التجار المسلمين، أقاموا فيها، وذلك قبل أن يتمكن الإسلام فيها، وأدى تأثيرهم على أهلها، إذ دخلوا في الإسلام”.

قال أحمد بابا في معراج الصعود أن: “أهل السودان أسلموا طوعا بلا استيلاء أحد عليهم كأهل كنوا وكنتي وبرنو وسغاي ما سمعنا قط أن أحدا استولى عليهم قبل إسلامهم”. بالنسبة لتاريخ دخول الإسلام فيها فإن الباحثين ذكروا الآتي:

1. صدر الإسلام: يذكر صاحب “هدية البشر في القرن الخامس عشر” أن الإسلام دخلها سنة 69 من هجرة المصطفى. وإن كان في الأمر مبالغة مقارنة للمصادر الأخرى فإننا على الأقل نقرأ السبق الزمني.

2. نهاية القرن الخامس الهجري: ويرى أحمد مولاي أن الإسلام دخل جيني أواخر القرن الخامس الهجري، وكذا يرى صاحب الحواضر العلمية في غرب أفريقيا ، والموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي.

3. القرن السادس الهجري: حيث يذكر السعدي(1) صاحب تاريخ غرب أفريقيا أن الإسلام دخلها القرن السادس الهجري.

أما أول دولة في غرب أفريقيا دخولا في الإسلام وتاريخ ذلك فسيخصص لذلك مقالا مستقلا. هذا، وقد ارتبط الحديث عن الإسلام في جيني بقصة اعتناق ملكها الإسلام، واسمه كنبر بالأحرى “كُويْرَبورو”، إذ جمع العلماء ويبلغ عددهم وفق ما يذكر السعدي أربعة آلاف ومائتين. وأسلم على أيديهم، وطلب من رعيته الذين لم يسلموا الدخول في الإسلام، وحوّل قصره إلى مسجد جامع ووسع منه وبنى جنبه معهد تعليم الدين.

السمات التاريخية لمدينة جيني

ثمة بعض النقاط التي يستشف منها الدور التاريخي الكبير لهذه المدينة، يذكر منها:
بركة المدينة: يقول السعدي عنها: “هي مدينة عظيمة ميمونة مباركة، ذات سعة وبركة، جعل الله ذلك في أرضها خلقا وجبلة. وطبيعة أهلها التراحم والتعاطف والمواساة”.
استقلالها: عاصرت أكبر امبراطوريات المنطقة (تكرور، غانة، صوصو، مالي، صنغاي)، ولم تخضع لأي منها. يقول السعدي: “ومن حين كانت المدينة ما غلب أحد أهلها من الملوك إلا سن علي –أحد ملوك امبراطورية صنغاي-، وهو الذي طوعهم وملكهم بعد ما حاصرهم في تلك المدينة سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام، “، وقد نصّ صاحب مقال: (حواضر نهر النيجر: تمبكتو، جيني غاو) على استقلالية جيني عن الامبراطوريات إلا في عهد سني علي السالف ذكره. يقول السعدي أيضاً: “وللسلطان اثنا عشر أمراء الأجناد في جهة المغرب في أرض سنا، لا يرصدون إلا غزو ملّلي كوي –ملك مالي- ويقاتلون ملكه متى ما جاء بدون استئذان”.

– المسجد الجامع الوحيد: أكبر مسجد مبني من الطوب في العالم يقع فيها، وهناك شبه بينه وبين المسجد الكبير لتمبكتو وغاو، إلا أن مسجد جيني أسبق. وهو أكبر مبنى من الطوب في العالم، وهو في الأصل قصر أول ملك من ملوكها الذي أسلم. الملك الذي خلف كنبروا بنى أبراج المسجد، والملك الذي خلفه بنى سور حول المسجد. ويرمم المسجد سنويا إلى يومنا هذا، وتعتبر عملية الترميم مهرجاناً سنويا وحدثا دينيا. وقد ضمّت اليونيسكو المسجد للتراث العالمي سنة 1988. وهو المسجد الجامع الوحيد في جيني منذ دخول الإسلام فيها إلى سنة 2020، حيث بنى الحاج مارافا توري ثاني مسجد جامع فيها بحي دوتومي.

معهد جيني: وهو من المدارس التي بنيت قرب المسجد الجامع، كان معنيا بتدريس الفقه والشرعيات واللغويات كما قال صاحب كتاب القضاة، وهو بمثابة الأزهر والزيتونة مكانة وتأثيرا في المنطقة. يرى السعدي أنه بني في القرن السادس تماشيا مع رؤيته في إسلام الملك وتحويل قصره مسجدا، ويرجع البعض تأسيسه إلى القرن الثامن ويربط آخرون إنشاءه بزمن امبراطورية صنغاي لشدة عناية منسى موسى بالعلم والعلماء.

تنوع علمائها: فمن أهلها علماء ومن علمائها من توافد إليها: “وقد ساق الله لهذه المدينة المباركة سكانا من العلماء والصالحين من غير أهله من قبائل شتى وبلاد شتى”. من العلماء الوافدين مورمغ كنكي، محمد ساكو الونكري، محمود بن عمر بن محمد أقيت، وهو أول قاض يعينه أسكيا محمد. ومن علماء أهلها العباس كبا، والقاضي محمد بن أبي بكر بغيغ، ومنهم القاضي أحمد ترف ابن القاضي عمر ترف كان إماما خطيبا، وموديبو بكر تراوري، ومحمد بنت.

ومن قضاتها: محمد فودي سانو، القاضي فوك، القاضي تنتاع، القاضي سنقم، العباس كبا، محمود بغيغ، عمر تُرفي، تلماكلس، أحمد تُرفي، موديبو عمر تراوري، محمد بنب كنات. وجل هؤلاء من القرن التاسع فما فوق، وممن عاصروا امبراطورية صنغاي. وقد ذكر السعدي كل هذه الأسماء، كما أعاد سرد أغلب هذه الأسماء أحمد مولاي، وأضاف –مستفيدا من كتاب الحركة الفهية لعبد الرحمن ميغا- القاضي أحمد الفيلالي، وموسى دب، وأحمد تراوري، سعيد، أحمد دب بن موسى، عبد الرحمن بن موسى، محمد بن مرزوق الهواري.

ومما يبين أهمية هذه المدينة أن أول مدرسة عربية إسلامية نشأة في بوركينا فاسو قامت على يد ألفاموي جينيبو ببوبو جولاسو سنة 1947، وفق ما ورد في كتاب تاريخ اللغة العربية في بوركينا فاسو. وهو من جيني، ولد ونشأ فيها، وتلقى العلم فيها على يد والده وغيره من مشايخ المدينة.

الثقافة الإسلامية في جيني

أصبحت جيني مركزا إسلاميا عالميا وثقافيا مباركا. علماء وطلاب معاهد هذه المدينة لا يقلون في مستواهم الثقافي عن علماء وطلاب معاهد العالم الإسلامي المعاصرين لهم كما جاء في الموسوعة العربية العالمية، فمن الكتب التي كانت ولا تزال تدرس في العقيدة مقدمة كتاب رسالة أبي زيد القيرواني (386هـــ)، ومؤلفات محمد بن يوسف السنوسي في العقيدة (895) وكتاب الاعتقاد للإمام عبد الواحد بن عاشر (1040)، وكتاب إضاءة الدجنة للإمام المقري (1041) ودليل القائد في علم العقائد. وفي الفقه والحديث يقرؤون: الموطأ، والمدونة، ومختصر الخليل، ورسالة ابن أبي زيد.

من الملاحظ أن الكتب التي كانت متداولة للدراسة تكاد تكون بعينها الكتب المعروفة في البلاد الإسلامية الأخرى المعاصرة لها، ومن تلك الكتب التي ورد ذكرها في برامج التدريس هنا: الشفا في حقوق المصطفى للقاضي عياض السبتي، في السيرة النبوية، والشمائل المحمدية؛ مدونة القاضي سحنون؛ مختصر ابن الحاجب الفرعي؛ الرسالة؛ مختصر الشيخ خليل؛ تهذيب البراذعي؛ جمع الجوامع؛ القرطبية؛ جامع المعيار، وكلها في الفقه المالكي؛ مختصر ابن الحاجب الأصلي في أصول الفقه؛ موطأ الإمام مالك في الحديث والفقه؛ ألفية ابن مالك في النحو، وتلخيصها للسيوطي؛ ألفية السيوطي؛ صحيح البخاري؛ صحيح مسلم؛ سيرة ابن إسحاق (سيرة ابن هشام)؛ تفسير الجلالين؛ المدخل لابن الحاج، وهو في الكشف عن البدع والخرافات الدخيلة على الفكر الإسلامي.

والأجرومية في النحو؛ مقامات الحريري في الأدب العربي؛ رجز المغيلي في المنطق؛ عقائد السنوسي في التوحيد، وهي ثلاثة: العقيدة الكبرى والوسطى والصغرى؛ الخزرجية في العروض؛ العشرينيات (أو العشريات أو الفزارية) في المدائح النبوية، وبعض مؤلفات السيوطي، مثل: البهجة المرضية في النحو،؛ ألفية الأثر في الحديث؛ شرح النقاية في الأصول والبيان والتصوف؛ ألفية المعاني؛ الكوكب الساطع في نجم جمع الجوامع، وهو في الأصول والبيان والتصوف؛ شرح الكوكب الوقاد في الاعتقاد؛ جمع الجوامع في العربية؛ الجامع الصغير في الحديث… إلخ

إن شهرة مدينة جيني ومكانتها بين أوساط سكان غرب إفريقيا عامة والماليين خاصة لا تخفى، وبخاصة المسلمين منهم، وعلى الأخص طلبة العلم منهم، وشهرتها في المنطقة لا تقل عن شهرة المساجد الثلاثة في العالم الإسلامي. ورغم ذلك فإنها تحتاج إلى التعريف لأبناء العالم الإسلامي خارج المنطقة، وبيان دورها التاريخي والثقافي والحضاري والتراثي البارز في استقبال الإسلام طواعية وصلحا، وأثرها في انتشار الدعوة الإسلامية في المنطقة، ولا تزال مدينة جيني تحظى بمكانة ثقافية وعلمية مع تحفظات. وإنها تحتاج إلى مزيد بحث، لإثراء المصادر العربية التراثية التي لم تـَــجُــــد لنا بالكثير عنها. هذا، وإن لم تكن مدينة جيني بوابة الإسلام في المنطقة، ونقطة نشره في باقي أرجاء غرب إفريقيا، فإنها من أهم بوابات الإسلام في غرب أفريقيا .


(1) هو الشيخ عبد الرحمن بن عبدالله السعدى ( 1596-1655 م ) ولد في مدينه تمبكتو في مالي من عائله ماليه سودانيه، شغل منصب القضاء و الامامه في مدينه جني التي كانت مركزاً علمياً اسلامياً مزدهراً ، صاحب كتاب تاريخ السودان.